قرآنيات

الوحـي (1)

السيد رياض الحكيم

 

الوحي من الأمور التي دار حولها الجدل بين الباحثين، والبحث فيه متعدد الجوانب فيبحث مرةً في حقيقة الوحي وواقعه، وأخرى في أصل وجوده والأدلة على ذلك. وثالثة في أقسامه... إلى غير ذلك..

وسوف نتناول الموضوع ضمن نقاط:

 

1 ـ الوحي في اللغة

اختلف علماء اللغة بين من اعتبر فيه الخفاء والسرعة، ومنهم من اعتبر واحداً منهما فحسب.

قال الراغب: (أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة، قيل: أمر وحيّ أي سريع، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة).

وقال أبو إسحاق: (أصل الوحي في اللغة كلها، إعلام في خفاء، ولذلك سمي الإلهام وحياً).

 

2 ـ الوحي في القرآن

عند مراجعة القرآن الكريم نلاحظ أنّ الوحي قد استخدم في موارد عديدة، منها..

1 ـ إيجاد الداعي في نفس الموحى إليه من دون أن ينتبه الشخص لمصدر الوحي، سواء كان من الله تعالى مثل قوله عزَّ وجلّ: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم). أم من الشياطين كما في قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم).

2 ـ الإلهام الغريزي، فيكون أثره فِعْل ما تمليه الغريزة قال تعالى: (وأوحى ربّك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون).

ويمكن إدراج هذين المعنيين تحت عنوان واحد هو الشعور الباطني، والفرق الوحيد بينهما أنّ الشعور الثاني من مقتضيات الفطرة الغريزية التي خُلق عليها الشخص بخلاف الشعور في المورد الأول.

3 ـ الخَلْق، قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: (فقضاهنّ سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها).

بينما فسّره بعضهم بالوحي إلى أهل السماء أي الملائكة.

4 ـ الإسرار، حكي في لسان العرب عن الأنباري في تفسير قوله تعالى: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً). "معناه يُسّر بعضهم إلى بعض، فهذا أصل الحرف ثمُ قُصِر الوحي للإلهام".

5 ـ الإيماء، وقد فسّرت به الآية الكريمة المتحدّثة عن زكريّا (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرةً وعشياً). حيث أنّ زكريّا (عليه السلام) لم ينطق ولم يتحدّث معهم، بل أشار إليهم وأومأ إليهم فعرفوا ما يريد.

6 ـ الإلهام مع شعور الشخص الملهَم بذلك سواء كان مصدر الإلهام هو الله تعالى، كما يلهِم سبحانه رسله مباشرةً بتعاليمه وإرشاداته وأحكامه أحياناً، قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً)، أم غيره مثل جبرئيل كما في قوله تعالى: (أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنّه عليّ حكيم) فإنّ مصدر الوحي في قوله (فيوحي) هو الرسول مثل ما يوحي جبرئيل للنبي.

ويمكن أن يندرج تحت هذا النحو من الوحي كل الموارد التي استخدم فيها الوحي منسوباً للقرآن الكريم مثل (نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) فقد كان وحي القرآن عن طريق جبرئيل (عليه السلام) كما تدلّ عليه الآية الكريمة (نزل به الرّوح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين). حيث فُسّر الرّوح الأمين بجبرئيل (عليه السلام). والله العالم.

7 ـ مطلق التبليغ من الله تعالى للأنبياء ونحوهم الشامل للوحي بكل الأنحاء المختلفة، وذلك كما في الآيات التي تتحدّث عن الوحي للرّسل بشكل مطلق، مثل قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم).

حيث لا تتحدث الآية الكريمة عن أسلوب معيّن من الوحي بل الوحي فيها بمعنى عام ينطبق عليها كلّها.

 

3 ـ دور الوحي في مصير الإنسان

تتضح مدى أهمية الوحي ودوره في حياة ومصير الإنسان بملاحظة نقطتين:

النقطة الأولى: الإنسان اجتماعي بطبيعته

من الواضح أنّ الإنسان اجتماعي لا يروم بل لا يمكنه العيش وحيداً من دون انضمام للمجتمع.

هنا يطرح تساؤل عن منشأ كون الإنسان اجتماعياً؟ يرى بعض الباحثين أنّ الدافع الاجتماعي لدى الانسان ليس فطرياً بل فرضته عليه الضرورة والمصلحة الذاتية، ويفسّر هؤلاء تكوّن المجتمعات بأنّ الإنسان يفكر في مصالحه الذاتية ويحاول استثمار كلّ شيء في سبيل تحقيق رغباته ومصالحه، وعندما أدرك أنّه لا يمكنه بمفرده توفير ذلك لنفسه وأنّ تحقيق بعض هذه الرغبات والمصالح بل كثير منها مرهون بجهود الآخرين التي لا يمكن ضمانها إلاّ بالتعاون والتعايش معهم اضطرّ الى التعايش ولذلك تكوّنت المجتمعات.

ويستشهد أصحاب هذا الرأي على ذلك بأنّ الإنسان حيث كان همّه هو تحقيق رغباته لذلك فهو لا يتوانى عن الاعتداء على الآخرين وتسخيرهم والتجاوز على حقوقهم في سبيل ذلك، وأنّه لا يحفظ حقوق الآخرين إلاّ عندما يعجز عن حفظ حقوقه ومصالحه من دون ذلك.

لكن الملاحظة التي نسجلها على هذه النظرية أن شعور الإنسان بالرغبة بل ضرورة الانخراط في المجتمع شعور فطري غريزي وليس بدافع المصلحة الذاتية، رغم إقرارنا بقضية اهتمام الإنسان وحرصه على مصلحته الشخصية.

وخير شاهد على ذلك ما نجده من الأمراض والمشاكل النفسية التي تواجه أبناء المجتمعات الغربية رغم الرخاء المادي الذي يعيشونه وتوفّر مستلزمات الحياة المترفة للأفراد، كل ذلك بسبب تفكك البنية الاجتماعية وفتور العلاقات والروابط الأسرية والاجتماعية بينهم، فكيف سيكون الحال لو افترضنا انهيار المجتمع بكامله؟!

ونلاحظ كذلك أن من أقسى الضغوط التي تمارسها السلطات ضد المعتقلين هو عزلهم في سجون انفرادية لكي لا تلبى هذه الحاجة الفطرية لديهم.

إذن فالعيش ضمن المجتمع من أهمّ حاجات الإنسان ومتطلباته التي فُطر عليها.

النقطة الثانية: تنوّع الآراء والحاجة إلى القانون

بعد أن يتعايش البشر ضمن المجتمع ويشعرون بارتباط مصالحهم ببعضهم وتشابكها وضرورة تماسك مجتمعهم الذي يعيشون فيه تبرز مشكلتان:

الأولى: تنوّع الآراء المطروحة لحفظ الكيان الاجتماعي والمحافظة على حقوق أبناء المجتمع.

الثانية: ظهور بعض العناصر المنحرفة التي لا تكتفي بحقّها وتحاول سلب حقوق الآخرين والاعتداء عليهم، واختلاق امتيازات غير مبرَّرة لأنفسها.

هاتان المشكلتان تحتّمان إيجاد مرجعية تشرف على إدارة المجتمع وتشريع قوانين تحافظ على تماسك المجتمع وتحفظ حقوق الأفراد فيه ولو نسبياً وبأعلى نسبة ممكنة. وهذه هي الدولة ـ بمفاصلها واجهزتها المختلفة ـ في العصر الحديث.

ولكن يطرح السؤال عن المصدر الذي تعتمده الدولة في تشريعاتها وخطواتها؟

قد نجد من يجيب على ذلك بأن العقل البشري يصلح أساساً ومرجعاً لتمييز الخير من الشر، والنافع من غير النافع، فهو الـمَعين الذي يوجّه الدولة في قراراتها المختلفة. بل يهدي المجتمع إلى اختيار طبيعة النظام الأفضل الذي يناسبه.

لكن نلاحظ في هذا الجواب ثغرتين:

الأولى: أن من الخطأ أن ننظر إلى الإنسان نظرةً تجزيئية، بل لابدّ من شمولية النظر إليه، فنلاحظه بكل قواه وشخصيته وكل المؤثرات في سلوكه، ومن الواضح أنّ الانسان لا ينحصر تأثره بالعقل، ولا يقتصر في سلوكه على ما يرسمه له عقله. بل هناك الهوى والرغبات والغرائز النفسية المختلفة التي تؤثر في سلوكه ويختلف الأفراد فى مدى التأثر بكلٍّ منها شدّة وضعفاً، بحيث نجد العقل يضعف أمامها في كثير بل في أكثر الأحيان. فتنهار الحدود التي رسمها العقل وضوابطه التي حدّدت فاعلية كل منها.

يكفينا أن نلقي نظرة على المجتمعات الغربية فبرغم توفر كل الوسائل الكفيلة بسعادتهم إلاّ أنّ فاعلية قوى الشر والرذيلة أدّت الى سلبهم هذه السعادة، وزجّهم في متاهات لا نهاية لها، حيث ضعفت عندهم المثل الروحية وتبددت الأسرة وتفكّك المجتمع وانتشرت الفحشاء والمخدرات والجرائم المتنوّعة، وفقدت الحياة طعمها وحيوّيتها، فصارت عبئاً على كثير منهم فعمّهم اليأس والإحباط ولجأوا إلى الخمور والمخدّرات وحتى الانتحار للتخلص منها، رغم التطور التكنولوجي والجوانب المشرقة الأخرى بالإضافة إلى توفّر الوسائل المادية لديهم الكفيلة بحياة الرخاء والهناء.

الثانية: أنّه لو كانت مساحة الحياة محصورة في هذه الدنيا فلربّما أمكن ادعاء الرجوع للعقل، ولو باعتباره المرجعية الممكنة في هذه الحياة، إلاّ أنّه حيث كنا نستقبل حياة أخرى بمعايير وقوانين تختلف عمّا في هذه الحياة، وبما أن الإنسان في هذه الحياة بعيد تماماً عن طبيعة ومتطلبات السعادة في ذلك العالم، ولا يعرف بالضبط ما ينفعه هناك وما لا ينفعه أو يضره فمن الطبيعي أن يتجه الإنسان لربّه ليمنّ عليه برسم الخطوط العريضة له، ومنحه الآلية التي تساعده في بلوغ السعادة والمقام الرفيع في الآخرة، وذلك من خلال الوحي إلى الأنبياء ليُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وليوقظوا الناس في هذه الحياة، لأنّ "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا" كما جاء في الحديث. قال تعالى: (هو الذي بعث فى الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانو من قبل لفي ظلال مبين).

إذن للوحي دور حاسم في مصير الإنسان وتحديد ورسم الخطوط العريضة ـ على الأقل ـ في مسير حياته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد