القرآن يمتاز عن غيره من المعجزات، وفاق عليها بأكبر الأمور الجوهرية في شؤون النبوّة والرّسالة ودعوتها، «فمن ذلك» أنه باق مدى السنين ممثّل بصورته ومادّته لكل من يريد أن يطلع عليه ويمارس أمره وينظر في أمره ويعرف كنهه وحقيقته. فهو باد في كل آن ومكان لكل من يطلب الحجة على النبوة والرسالة، ويريد النظر في حقيقة معجزها الشاهد لصدقها. ماثل لكل من يريد النظر في الحقائق، ولا تحتاج معرفة حقيقته ووجه إعجازه الى أساطير النقل ومماراة قال أو قيل. فلا يحتمل أمره. أنه دبرت دعواه بليل. ولا يستراب من أمره باحتمال التمويه، بل ينادي هو بنفسه في كل زمان ومكان (هذا جناي وخياره فيه) وكله خيار فائق متفوق «ومن ذلك» أنه بنفسه ولسانه وصريح بيانه قد تكفل بالإثبات لجميع المقدمات التي تنتظم منها الحجة على الرسالة الخاصة وشهادة إعجازه لها. ولم يوكل أمر ذلك إلى غيره مما يختلج فيه الرّيب وتعرض فيه الشبهات وتطول فيه مسافة الاحتجاج وتكثر صعوباته، فالتفت واعرف ذلك من أمور:
(الأول) أنه تكفل ببيان دعوى النبي للنّبوّة والرّسالة كما في سائر النبوّات.
(الثاني) أنه تكفّل في صراحة بيانه بالشهادة للنبوّة والرّسالة فلم تبق حاجة لدلالة العقل ودفع الشبهات عنها.
(الثالث) أنه تكفل في صراحته المتكررة ببيانه لكمالات مدّعي رسالته، وأطرى بصلاحه وأخلاقه الفائقة كما هو معروف. فمهد المقدمات اللازمة في البيان وصورة الاحتجاج بأنه لو كان كاذبًا لكان ظهور المعجزة له من الإغراء بالجهل القبيح الممتنع لقبحه على جلال اللّه وقدسه تعالى شأنه.
وإليك فاسمع بعض ما جاء في القرآن في بيان هذه الأمور الثلاثة. ففي سورة الأعراف: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158] وسورة النجم المكية من الآية الثانية إلى الخامسة {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 2 - 4] وفي سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح : 29] وفي سورة الأحزاب: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب : 40]
وفي أوائل سورة القلم المكية {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 2 - 4] إلى قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم : 7] وقوله تعالى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم : 9] وفي سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف : 157] وفي سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب : 45، 46].
(الأمر الرابع) أنه تكفل بنفسه دفع الموانع عن الرسالة والنبوّة إذ بيّن مواد الدّعوة وأساسياتها ومعارفها وقوانينها الجارية بأجمعها على المعقول من عرفانيها وأخلاقيها واجتماعيها وسياسيها فلا يوجد فيها ما يخالف المعقول ليكون مانعًا عن النبوّة، وفي سورة الإسراء المكية {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء : 9] ودونك القرآن الكريم، وحقّق وتبصّر وتنوّر فيما تضمنه من هذه المواد الشريفة {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
(الأمر الخامس) أنه زاد على كونه معجزًا بنفسه بأن كرّر النداء والمصارحة في الاحتجاج بأعجازه وتحدّي الناس وأعلن بالحجة وهتف بهم هتافًا مكررًا مؤكدًا بأن يعارضوه لو لم يكن معجزًا ويأتوا بمثله أو بعشر سور أو سورة واحدة من مثله إن كان مما تناله قدرة البشر المحدودة، وقد نادى بقرار الإنصاف والمماشاة وجعل لهم أن أتوا بعشر سور أو سورة من مثله، أن تسقط عنهم هذه الدعوة ويستريحوا من ثقلها الباهظ لضلالهم ويدعوا من يستطيعون عقلاً أن يدعوه من دون اللّه لو استطاعوا أو وجدوا إلى ذلك من المعقول سبيلاً.
جعل لهم ذلك من باب المماشاة والمجاراة في الحجة تعليقًا على المستحيل، ولهم في ذلك المهلة والأناة ليعدّوا عدّتهم في المظاهرة والتعاون ففي سورة هود المكية : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود : 13، 14] وفي سورة يونس المكية: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس : 38]
وفي سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 23] فيما تدعونهم وتصفونهم به {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي} [البقرة : 24] وفي سورة الإسراء المكية: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء : 88]
هذا وقد مضت لهم عدة أعوام ودعوة الرسالة والإعذار والإنذار والاحتجاج بإعجاز القرآن دائمة عليهم، وهم في أشد الضجر من ذلك والكراهية له والخوف من عاقبته. وفي أشد التألم من آثار الدعوة وتقدّمها وظهورها. وفي أشد الرغبة في أهوائهم وعاداتهم الوحشية ورئاساتهم والعكوف على معبوداتهم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يعارضوا شيئًا من القرآن الكريم ولو بأن يأتوا بسورة من مثله لكي تظهر حجتهم وتسقط عنهم حجة الرسول ويستريحوا من عناهم وقلقهم وآلامهم من دعوته التي شتتت جامعتهم الأوثانية، وهدّدت رئاساتهم الوحشية وتشريعاتهم الأهوائية، وفرّقت بين الأب منهم وبنيه والأخ وأخيه والزوج وزوجه والقريب وقريبه، وكدّرت صفاءهم ونافرت بين عواطفهم.
وقد سامعهم في دعوته إصلاحًا وخضوعًا لم يكونوا يحتسبونه، ولم يجدوا لذلك حيلة إلا الجحود السخيف والعناد الشديد وقساوة الاضطهاد والاستشفاع بأبي طالب في ترك الرسول لدعوته أو تمرّدهم بالمثابرة الوحشية، فاقتحموا فيها الأهوال وتجشموا المصاعب وقتال الأقارب والإخوان ومقاساة الشدائد وذلة المغلوبية. فلماذا لم يتظاهروا بأجمعهم عشر سنوات أو أكثر ويأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم ولو سورة واحدة ويفاخروا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحاكموه في المواسم والمحافل التي أعدّوها لمثل ذلك، فتكون لهم الحجة والانتصار في الحكومة وقرار النصفة وينادوا بالغلبة ويستريحوا من عناء هذه الدعوة وتهديدها لضلالهم.
فلماذا لم يفعلوا ذلك والقرآن والرسول قد دعواهم إلى ذلك تعجيزًا وهم هم وينابيع فصاحتهم وبلاغتهم غزيرة. وغرائزهم في الأدب العربي متدفقة. وقرائحهم سيالة ومواد القرآن في مفرداته وتراكيبه من لغتهم. وأسلوبه من نحو صناعتهم التي لهم فيها الممارسة التامة والمهارة الفائقة والرّقي المعروف وللّه الحجة البالغة، ولو كان هناك أقلّ قليل من المعارضة والإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن لرفعه الضلال نارًا على علم. واحتفلت فيه ألوف الألوف من أضداد الإسلام والقرآن. ولسجلته دواوينهم في أقطار الأرض وأجيال الأمم. وتلقوه بأحسن ابتهاج. وصالوا به أكبر صولة لأنه الفيصل السلمي والحجة الأدبية التي ما فوقها حجة لهم في الجدل والبرهان.
ولكن هل سمعت أن أحدًا نبس في ذلك ببنت شفة أو أجري فيه قلم. وإن أمر ذلك بمعزل عن داخلية الإسلام لكي يقال إنه أخفته شوكة المسلمين أو دسائس تواطيهم. بل إن بذرته ومغرسه وسوره وحفظه وحياطته ترجع إلى ألوف الألوف في كل جيل من أنصاره أضداد الإسلام والقرآن سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها أو بعد زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ألا ترى أنه بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في جزيرة العرب بقي في اليمن وسوريا والعراق كثير من اليهود والنصارى وأمثالهم وهم الألوف أو ألوف الألوف من العرب أو من يعرف اللغة العربية ويتكلم بها ويتأدب بآدابها. وأضف إلى ذلك المنافقين الذين كانوا يكيدون الإسلام جهد وسعهم في عصر الرسول وبعده. فهل يخفي هؤلاء ما هو ضالّتهم المنشودة. وسلاح سطوتهم. وعدّة صولتهم وأقطع حجة لهم وأكبر مدافع عن أديانهم. فإنه لا عطر بعد عرس ولكن ماذا يصنعون بالعدم. وعدم القدرة من المتأخر على الاختلاق.
ومما يشهد لما ذكرناه ويجلو تمثيله لبداهة الاعتبار أن اليد الأثيمة غلبت بسنوح الفرصة حتى على المحدثين والمفسرين، فدّست في كثير من كتب التفسير خرافة الغرانيق وخرافة سبب النزول في آية التمني من سورة الحج كما نجده في أكثر التفاسير. فلوّثت قدس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بما شاءت وسنحت به لها الفرصة. وكذا قدس جميع الأنبياء والمرسلين في حديثهم. وتلاوتهم بحيث لا يبقى بهم أدنى وثوق في ذلك، هذا في وجهة الإعجاز الذي تقوم به الحجة على العرب. وإن للقرآن المجيد أيضًا وجوهًا من الإعجاز مما يشترك في معرفتها كل بشر ذي رشد إذا اطلع عليها.
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشهيد مرتضى مطهري
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد صنقور
د. حسن أحمد جواد اللواتي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
محمود حيدر
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد منير الخباز القطيفي
عدنان الحاجي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
إعجاز القران من وجهة الأخلاق
ذكر الله وحده يهب الروح السلام
أخاف على ابنتي من الهاتف الذكي والانترنت!
الإمام الكاظم عليه السلام والمثوى الأخير
مقاطع تراثيّة جديدة للفنّان علي الجشّي تعكس عبق الماضي في القطيف
(مجازات الذّاكرة) أمسية شعريّة لنادي صوت المجاز
طاب النّسيم
باب الحوائج: جنازة في وثاق القيد
امتياز القران عن غيره من المعجزات
لماذا نقرأ؟