للقرآن الكـريم تصوّره الواضح عن مستقبل الوجود الإنساني، وله أساليبه المختلفة لتركيز هذا التصوّر في ذهـن الإنـسان المـسلم، كما أنّ له تخطيطه الأصيل في دفع البشرية نحو تحقيق هذا التصوّر وتجسيده واقعًا حيًّا. ولكن قـبل الدّخول في صميم الموضوع لا بدّ من كلمتين تمهّدان لنا السّبيل:
الأولى: نقولها ردًّا على تساؤلات وجدت مـن يطرحها إمّا تعمدًا وإمـّا انـجرارًا واتّباعًا للشّبهة، وهي تقول: أليس البحث عن تصوّر كامل للمستقبل يعدّ من ترف القول ومن الانسياق الطّوبائي نحو عالم مجهول؟ ولماذا نتوقّع من القرآن بالخصوص أن يعطينا هذا التصوّر ونحن نعلم أنّ القـران كتاب هداية وأيدلوجية عملية للحياة.. وليس كتابًا علميًّا مدرسيًّا. يحدّثنا عن قوانين الكون ويكشف لنا مغاليق الأسرار، تمامًا كما تفعل الكتب العلمية في الفيزياء وعلم النّفس والبيولوجيا؟
إنّ القرآن لا يصادر مجالات الإبـداع الإنـساني، ويطرح نفسه بديلاً عن هذا الإبداع. ويضيف هؤلاء بأنّ القرآن لو كان كتابًا علميًّا لاختصّ بمجموعة من العلماء والفلاسفة ولم يعدّ كتاب هداية. إذا فنحن لا نتوقّع من القرآن حديثًا من المستقبل الإنساني ومـا يـتطلّبه هذا الحديث من كشف لقوانين الحياة الاجتماعية وسنن التاريخ الجارية. ونقول في جواب هؤلاء المتسائلين: إنّنا لولا الحقائق التّالية لأدركنا أنّ هذه العملية الكاشفة لما كانت تتعلّق بالسّاحة التاريخية، فـإنّها تـكاد تكون من أهم الخطوات المحقّقة للهدف الأيديولوجي العادي للبشرية، وإنّ الكشف عن هذه الحقيقة العلمية هنا له:
أوّلًا: وجود التّرابط المـنطقي الطـّبيعي بـين نظرة الفرد والأمّة إلى الكـون والحـياة والإنـسان وبين نوع الأيديولوجيا العملية التي تحكم سلوكه وسلوكها. أمّا محاولات إنكار هذا التّرابط فما هي إلاّ شبهات لا غير.
ثانيًا: إنّ القرآن الكريم إذ يتصوّر مستقبل الإنسان، فـإنّه يـعمل عـلى أن يحقّقه الإنسان بإرادته وفكره لا عن كراهة وانغمار فـي مـوجة الجبر التاريخي، بل إنّما باعتباره المصير الطّبيعي للمسيرة الفطرية.
ثالثًا: إنّ تصوّر المستقبل الإنساني الأكمل والانشداد إليه بفعل وجود الميول الطّبيعية الفـطرية للكـمال والمـعرفة لهما أثرهما المهم في اندفاع الإنسان نحو تحقيقه.. إنّ السّاحة التـاريخية الإنسانية هي السّاحة الوحيدة التي يؤثّر فيها التنبّؤ العلمي بالحادثة والظّاهرة المستقبلية في تحقيق هذه الظّاهرة نفسها. وأخـيرًا يـجب أن نـلاحظ أنّ قضية المستقبل الإنساني ليست ممّا يختصّ به إنسان أو يتخصّص له آخـر، بـل الحديث عنها حديث للمجمع.
فالقرآن على هذا لا يصادر إبداع الإنسان بل يفجّره في مجال صنع هذا المستقبل وعـبر إعـطائه النـّظرة الكونية الشّاملة بما فيها صورته عن المستقبل، وعبر دفعه لصنعه بكلّ اخـتيار وإرادة مـؤثّرًا بـتنبّئه على سير الإنسان نحوه.
والكلمة الثّانية: تدور حول بعض التصوّرات الإنسانية لمستقبل الإنسانية نفسها، ولكن قـبل عـرض هـذا البعض نودّ أن نؤكد على أنّها لا تعدو كونها تنبّؤات وأحلامًا لا كاشف علميًّا لها، بل قـد لا يـستطيع الدّليل العلمي بمعناه الدّقيق المصطلح (أي الدّليل التّجربي) أن يكشف لنا عن مثل هذا القـانون والقـوانين التـي ترسم لنا عن مثل هذا القانون والقوانين التي ترسم لنا المستقبل بوضوح.
أمّا القرآن الكريم فـباعتباره كـلام خالق الكون والحاضر لديه كلّ المخلوقات والقوانين «وما يعزب عن ربّك من مـثقال ذرّة فـي الأرض ولا فـي السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين»[يونس/61].
القرآن يمتلك مطلق الحقّ في الحديث عن ذلك، ولك أن تـتابع الأدلّة التـي تسوقها الرّأسمالية والماركسية لتصوّرها المستقبلي ليتوضّح لديك ما قلناه بالفعل، وعلى أي حال فـإنّ الرّأسـمالية عندما اشتدّت صورتها تصوّرت الجنّة الإنسانية الموعودة في مجتمع تسوده الحرّيات الفردية الكاملة سـواء السـّياسية مـنها أو الاقتصادية أو الشّخصية أو الفكرية، وبنت ذلك على أساس من التصوّر الأوماني للمجتمع والأيديولوجية اللّيـبرالية - وهـي الأساس الفكري لكلّ الرّأسمالية - مدّعية أنّها بذلك قد أشبعت طموحات الإنسان بهذا التصّرف، وإنّ الإنسانية لا بدّ سـائرة نـحو بناء مجتمع الجنّة الرّأسمالية. ولكنّ الواقع كذّب هذا التصوّر أيما تكذيب، وكـشف عـن عقبات كثيرة أمامه، ونتائج فظيعة له، الأمـر الذي دفـع الكثير من المجتمعات للارتماء في أحضان النـّظام المـقابل للرّأسمالية، وهو النّظام الاشتراكي الماركسي لا حبًّا فيه- في كثير من الأحيان- بل تخلّصًا من الرّأسمالية وويلاتها.
أمّا التـصوّر المـاركسي للمستقبل فهو أبعد خيالًا. إذ يـصوّر القـمّة العليا للمـجتمع الإنـساني فـي شكل مجتمع تفنى فيه أكثر الغـرائز الإنـسانية أصالة (وهي غريزة حبّ الذّات). وحينئذ فلا داعي للدّولة ولا داعي لتوابعها بل النّاس يـتحرّكون بـشكل طبيعي نحو المصطلحة الاجتماعية دون أن يفكروا بـالمصلحة الشّخصية أو يعرفوا لها مـعنى فـي قاموسهم النّفسي. ولكن قبل الوصـول إلى هـذا المجتمع يجب أن تمرّ البشرية بمرحة ستار حديدي تذوب فيه الحرّيات، وتقتلع فيه مـن النـّفوس كلّ الرّواسب الرّأسمالية.
ويكفي في ردّ هـذا التـصوّر أنـّه يستبطن مخالفة لأعـمق أصـالة فطرية في الإنسان، وأنّ الواقـع الإنساني الذي نعيشه أو ندرسه يوضّح بطلان هذا التصوّر، وأنّه لا يملك أي دليل علمي يـثبته. ذلك، أنّ أساسه قائم على نظرية المادّية التـاريخية، وهـي نظرية أوهـتها حـتّى مـقاييسها هي، فالتّجربة أثبتت البـطلان، والتاريخ يكذب هذه القولة الاقتصادية إضافة إلى الأدلّة الفلسفية القاطعة على بطلان المذهب المادّي نفسه عمومًا.
القرآن والمستقبل
بعد هذا فـلنعرف تـصوّر القرآن عن المستقبل الإنساني عبر قـراءة الآيـات الشـريفة التـي تـشير إلى هذا المستقبل، ومـنها الآيـة الشريفة: «وعد اللّه الّذين آمنوا عملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهـم وليـبدّلنّهم مـن بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شـيئًا، ومـن كـفر بـعد ذلك فـأولئك هـم الفاسقون» (النّور:55).
والآية الشريفة: «ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (القصص:5، 6).
فالآية وإن كانت تتحدّث عـن حادثة تاريخية، لكنّها بملاحظة قرينة لحنها والرّوايات الواردة فيها تعطي حقيقة عامّة. والآية الشريفة: «إنّ الأرض للّه، يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين» (الأعراف:128).
وعبر الجمع بين الآية القرآنية الشريفة «قل يا أيـّها النـّاس إنّي رسول اللّه إليكم جميعًا» (الأعراف:158)، وآيات انتصار الدّين علي غيره وهي توحي بشيء من الصّورة المستقبلية للقرآن بالإضافة إلى تصدّيها لبيان هدف الرّسالة.
و«وهو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره عـلى الدّيـن كلّه ولو كره المشركون» (التّوبة:33) و(الصّف:)9. و«هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه وكفى باللّه شهيدًا» (الفتح:28).
ومنها الآية الشريفة «فأقم وجهك للدّين حنيفًا فطرة اللّه التّي فطر النّاس عـليها لا تـبديل لخلق اللّه ذلك الدّين القيم» (الرّوم:30).
ومن خـلال آيـات أخرى ترتبط بهذا المجال، نعرف أنّ الصّورة المستقبلية القرآنية يمكن تلخيصها بما يلي:
قيام الحكومة العالمية الواحدة التي يقودها المؤمنون الصّالحون الذين مكن اللّه لهم دينهم فـي الأرض، وانتشرت راياته على ربـوعها، والذيـن ينطلقون في بناء المجتمع العابد الموحّد الذي لا يلوّثه شرك أو كفر أو طاغوت أو خوف، ذلك المجتمع الذي يسوده عدل الإسلام، وتغمره بركات اللّه تعالى، المجتمع الفطري السّائر في سبيله الطّبيعي، الكادح إلى ربّه كدحًا، وعبر قيمومة الدّيـن وهـداية الوحي.
فالأرض كلّها حكم واحد يقوده الصّالحون، والدّين فيه هو القيم، والفطرة فيه هي المتجلية، والمعايير دين الفطرة، والتنافس في السّير إلى اللّه تعالى يدفع الرّكب حثيثًا نحو مراقي الكمال. ومن الطّبيعي بعد هـذا أن يـكون الرّخاء المـادّي في أقصاه، لأنّ سبب المشكلة الاقتصادية في تصوّر القرآن هو الظّلم في التّوزيع، وكفران النّعمة في الإنـتاج. وإذ ينتفيان تنهلّ نعم اللّه. يقول تعالى: «وآتاكم من كلّ ما سألتموه وإن تـعدّوا نـعمة اللّه لا تـحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفّار» (إبراهيم:34).
هذه هي خلاصة الصّورة التي يقدّمها القرآن عن المستقبل العامّ، ثمّ يعمل على تركيزها فـي التـصوّر بأساليب مختلفة.
ومن المناسب هنا أن نشير إلى الأحاديث الكثيرة الواردة في الإمام المهدي عليه السلام ودولتـه، وأنـّه سـيحكم الأرض ويغمرها عدلًا ويطهّرها من الظّلم والجور والفتك، ويحقق مضمون الآيات الكريمة حيث يكون الدّين كـلّه للّه، فيتحكم الإسلام في كلّ مرافق الحياة.
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد علي التسخيري
عدنان الحاجي
السيد محمد باقر الصدر
الشهيد مرتضى مطهري
محمود حيدر
السيد عادل العلوي
د. سيد جاسم العلوي
السيد محمد باقر الحكيم
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
هل كشف العلوم الحديثة للقوانين والعلل في الطبيعة يلغي فكرة الله والحاجة إليه؟
العمل الأهمّ.. على طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة
مستقبل المجتمع الإنساني على ضوء القرآن الكريم (1)
سلامة القرآن من التحريف (2)
ذاكرتنا التّلقائيّة تساعدنا على أداء وظائفنا اليوميّة بكفاءة
دورة للعيد في الجارودية حول مهارات التّفكير
عين غزة
عقد يحاول أن يضيء
كشكول الشيخ البهائي
سلامة القرآن من التحريف (1)