أساليب القرآن في تأكيد هذه الصّورة المستقبلية
والواقع أنّ هذه الأساليب كثيرة ويـنبغي أن نـدرك مغزاها بعد أن نأخذ بعين الاعتبار ما قلناه من الجوانب الإجمالية للصّورة المستقبلية، ومنها:
أوّلًا: التركيز القرآني على لزوم أن تؤتي المسيرة الإنسانية ثمارها، وأنّها لم تخلق عبثًا وباطلًا، وأنّ هدف الخلق لا بدّ متحقّق، وهو العبادة والعـبودية الشّاملة- وهي ناظرة إلى الدّنيا قبل الآخرة - وأنّ الأصلح هو الباقي في الأرض. يقول تعالى: «فما زالت تلك دعواهم حتّى جعلناهم حصيدًا خامدين* وما خلقنا السّماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتّخذ لهوًا لاتّخذناه من لدنـّا إن كنّا فاعلين* بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل ممّا تصفون* وله من في السّماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون» (الأنبياء من 15-19).
والظّاهر أنّها تتحدّث عن فناء الباطل فـي هـذه الدّنيا فتذكر إحدى السّنن التاريخية، وكيف أنّ الانحراف يؤول إلى الفناء في النّهاية، وأنّ الهدف الإلهي سيتحقّق في الأرض. وهنا لك آيات أخر تؤكد هذا المعنى: منها قوله تعالى: «كذلك يضرب اللّه الحـقّ والبـاطل فأمّا الزّبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللّه الأمثال» (الرّعد:17)
ثانيًا: التأكيد القرآني على إعطاء المجتمع الإنساني والأمم حياة لها كلّ خصائص الحياة الانسانية، فلها أجل وكتاب واضـمحلال، ولهـا سـنن تسلك بها إلى التكامل، وعلى أنّ الفـطرة هـي العامل المشترك بين أفراد الإنسان، وبالتالي فهي العامل الذي يترك أكبر الأثر في المسيرة، والذي لا يحذف بتاتًا من حياة الإنسان، رغم محاولات تـشويهه وإخـفائه «فطرت اللّه الّتـي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللّه» (الرّوم: 30)، كلّ ذلك بـشكل لا يـفقد معه الإنسان إرادته كما يفقدها أمام القوانين الطّبيعية وإنّما تشكل هذه السّنن أرضية مساعدة لاتّجاه الإرادة الإنسانية نحو صنع المـستقبل الأفـضل، أو فـلنعبّر بأنّ الإرادة الإنسانية تخفّز نحو تحقيق موضوع القانون التاريخي الذي يصنع الأفـضل (إنّ اللّه لا يغير ما بقوم حتّى يغيروا ما بأنفسهم) فبإرادة النّاس يبدأ التغيير المطلوب.
ثالثًا: يؤكد القرآن الكريم أنّ الكون بني على الحقّ والعـدل والهـدفية الدّقـيقة، وأنّ أية حركة باتّجاه الحقّ والعدل سنحظى بمعونة تكوينية - قد لا نعمل نـحن تـأثيرها - ولكنّها على أية حال حقيقة قرآنية كاملة: فالكون كلّه يسبّح للّه، وإذا سبّح الإنسان والمجتمع وعبدا اللّه فقد انسجما مـع الكـون، والكـون يقوم على ميزان عادل، فينبغي للإنسان أن لا يطغى في الميزان، بل ينسجم مـع الكـون. وهـكذا يوالي القرآن في آيات متفرّقة تأكيد حقيقة الانسجام حتّى يشعر المسلم بأنّه إذ يكبّر يـسمع تـكبير الكـون معه، وهذا ما تؤكده بعض الرّوايات. ومن هذا الباب الآيات التي تربط بين الأمـور المـعنوية والظّواهر المادّية «ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض» (الأعراف:96) وكـذا القـانون الذي ذكره اللّه تعالى للمسيرة الإنسانية عند بدئها «ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضـنكا ونـحشره يوم القيامة أعمى» (طه:124). ومن الواضح أنّ هذا الرّبط يعني أنّ المنتصر فـي الأرض هـو العـدل والحقّ في النّهاية.
كما يمكننا أن نعد من ذلك الآيات التي تؤكد حبّ اللّه للمحسنين، والتوّابين، والمتطهّرين، والمتّقين، والصـّابرين، والمـتوكلين، والمقسطين، والذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنّهم بنيان مرصوص، وغيرهم، وذلك إذا لاحظنا أنّ الحـبّ هـنا لا يـمتلك بعًدا عاطفيًّا وتحكيمًا لهم ولدعوتهم بلا ريب، وفي الآخرة جنّة وحريرًا.
كما أنّ القرآن الكريم يؤكد عـلى عـنصر الإمـداد الغيبي للرّعيل المؤمن العامل في سبيل اللّه، وهذا ما نلاحظه في كـثير مـن الآيات الشريفة، ومنها قوله تعالى في آخر سورة العنكبوت «والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ اللّه لمـع المـحسنين» (العنكبوت: 69) و«إنّا لننصر رسلنا والّذين آمنوا في الحياة الدّنيا» (غافر:51) و«بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (آل عمران:125)
رابعًا: تأكيد القرآن الكريم على أنّ الأنظمة الوضـعية البـشرية صـائرة إلى الفشل حتمًا، وأنّها مهما بدت عميقة الجـذور، قـويتها؛ فسستنتهي إلى الفناء حتما. ذلك أنّها في تصوّر القرآن غير منسجمة مع المسيرة الكونية من جهة، وتـحمل فـي وجودها عناصر فنائها. باعتبار أنّ التـّماسك الحـقيقي داخل أيّ نـظام لا يـمكن أن يتمّ إلاّ عبر عقيدة واقعية حية لا غـير. أمّا التـّماسك الحقيقي داخل أي نظام لا يمكن أن يتمّ إلاّ عبر عقيدة واقعية حية لا غير. أمّا التـّماسك الوطـني والقومي والمصلحي والجنسي والعقائدي المادّي فـما هو إلاّ عامل وقتي - لا يـمتلك إلاّ جـذورًا عاطفية أو وهمية - لبس لبوس الواقع وسـرعان مـا تكشف الفطرة خداعه وزيفه، ومن جهة ثالثة فإنّ الولاء العقائدي الحقيقي هو الذي يضمن لوحـده وحـدة الهدف حقيقة، وينفي تعدّد الولاءات أو مـا يـعبّر عـنه بالشّرك في الولاء، فـلا إله إلاّ اللّه، ولا مقياس إلاّ رضاه، وهذا مـا تـفقده الأنظمة الوضعية بكلّ وضوح «وما يتّبع الّذي يدعون من دون اللّه شركاء إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإن هم إلاّ يخرصون» (الزّمـر:29).و«والّذيـن كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظـّمآن مـاء حتّى إذا جـاءه لم يـجده شـيئًا ووجد اللّه عنده فوفّاه حـسابه واللّه سريع الحساب» (النّور:39) و«مثل الّذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتًا وإنّ أوهن البيوت لبـيت العـنكبوت لو كانوا يعلمون» (العنكبوت:41)
وفي سياق استعجال النـّاس أيـّام الرّسـول للعـذاب الذي أصـاب المكذّبين من قـبل، تـقول الآية الكريمة: «ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اللّه وعده وإنّ يومًا عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون» كما يـستفاد مـنها أنـّها ناظرة إلى عذاب الدّنيا والهلاك الحضاري فيها. وهـنا أسـاليب أخـرى يـسلكها القـرآن لتـأكيد إيمان المسلم بالنّصر النّهائي، (وذلك بملاحظة الإخبار الإلهي الحقّ بأنّ النّتيجة الحتمية لتطبيق الإسلام بكلّ عناصره في أي مجتمع هي دفعه إلى الأمام، وجعله الأعلى في الأرض، وضمان انـتصاره على باقي النّظم)، فإذا انضمّ إلى هذا إيمان المسلم بلزوم تحقيق الوعد الإلهي عبر علمه الحضوري بالمستقبل، وقدرته المطلقة على تحقيق مشيئته البالغة، بعد هذا لا يبقى مجال للتشكيك في إيمان الفـرد والمـجتمع المسلم بضرورة حصول تلك الصّور القرآنية المستقبلية.
ولكن يبقى في علمه حقيقة أنّ تحقّق هذه الصّورة يحتاج إلى تهيئة واستعداد ومقدّمات، ولا يتمّ إلاّ عبر جهود مضنية تغير بها الأمّة ما بأنفسها ليـغير اللّه ما بها، ويتحقّق الأمل الكبير واليوم الموعود.
وسائل تحقيق الصّورة القرآنية عن المستقبل الإنساني
بعد أن عرفنا وسائل التركيز القرآني للصّورة المستقبلية ينبغي أن نستعرض بإجمال شديد الوسائل التـي يـسلكها القرآن للتحريض والتحريك نحو تـجسيد هـذه الصّورة وتحقيق مقدّماتها الضّرورية، وذلك على النّحو التالي.
أوّلًا: يعمل القرآن -كما رأينا قبل قليل - على تركيز هذه الصّورة في الأذهان وتوضيحها، والتركيز أسلوب مقدّمي للتحقيق. فالتاريخ هو الحقل الذي يؤثّر فـيه التـنّبو العلمي في تحقيق النـتائج كـما قلنا من قبل.
ثانيًا: يطلب القرآن الكريم إلى الطّليعة الإنسانية - ومن ثمّ الجميع - أن يعملوا على تحقيق التغيير الدّاخلي، وتنفيذ عملية الجهاد النّفسي الأكبر؛ بالتأمّل في أبعاد النّفس ومعرفة عناصرها وميولها وكواشفها الفطرية، وتقوية جـانبها المـسيطر على مجمل التحرّك وهو جانب الفكر والإرادة، وإطلاق الصّرخة الوجدانية، وبالتالي إيجاد الاستعداد لتقبّل المدد الإلهي، وتحقيق موضوع الوعود الإلهية بالنّصر. ونعني به (الصّبر والتّقوى) وإنزال الإسلام إلى واقع التطبيق. وإذا كان تعبير الجـهاد الأكـبر ينصرف إلى تـطهير الفرد نفسه؛ فإنّه يمكن أن يأتي بنفس المستوى على صعيد الأمّة نفسها، إذ عليها أن ترجع إلى نفسها لتعرف مـكنوناتها، وتدرك نقاط ضعفها وقوّتها، ومن ثمّ تعمل على استرجاع خصائصها التـي أرادهـا الإسـلام لها بعد أن تنفي مظاهر الشّرك والطّاغوت من حياتها.
وخلاصة الأمر أنّ القرآن يؤكد أنّ الإسلام وحده هو سـبيل تـحقيق الصّورة المستقبلية الأمثل، وأن البشرية إذا أرادت لنفسها أن تحيا بعد الموت فليس أمامها إلاّ سبيل الإسـلام لا غـير.
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد محمد باقر الصدر
عدنان الحاجي
الشيخ محمد علي التسخيري
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
الشهيد مرتضى مطهري
محمود حيدر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
الشك في أقسامه والموقف منه
العلاقة بين العقيدة والأخلاق والعمل
مصادر تفسير القرآن الكريم (1)
نظريّات العامل الواحد
نظرية جديدة عن تكوّن نجوم الكون
مستقبل المجتمع الإنساني على ضوء القرآن الكريم (2)
سلامة القرآن من التحريف (3)
هل كشف العلوم الحديثة للقوانين والعلل في الطبيعة يلغي فكرة الله والحاجة إليه؟
العمل الأهمّ.. على طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة
مستقبل المجتمع الإنساني على ضوء القرآن الكريم (1)