قد تكرّر ذكر العرش في القرآن إحدى وعشرين مرّة «1» ولم يأت ذكر الكرسيّ إلّا مرّة واحدة في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) «2».
والعرش، كناية عن مقام تدبيره تعالى لشؤون الخلق كلّه، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ . . . يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) «3». (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ . . . يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) «4». وهكذا غيرهما من آيات، جاء ذكر العرش فيها كناية عن مقام تدبيره تعالى لشؤون هذا العالم، إن علوًّا أو سفلًا. إن دنيًا أو آخرة.
وقد جاء تأويل «العرش» في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السّلام إلى العلم والقدرة الشاملة، وهذا لازم مقام التدبير الشامل. ففي الصحيح عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «والعرش، اسم علم وقدرة» «5». أي تعبير عن علمه تعالى بالكائنات جميعًا، وقدرته تعالى على تدبيرهنّ.
قال عليه السّلام: «وعرش، فيه كلّ شيء» أي أحاط علمه تعالى بكلّ شيء؛ علمًا بذوات الأشياء بأسرها، وعلمًا بما يعود إلى جوانب شؤونهنّ في الخلق والتدبير. وقال - في حملة العرش - : إنّهم حملة علمه تعالى، وفي قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ: إنّهم يعملون بعلمه، أي ينفّذون تدابيره تعالى في شؤون الخلق، تدبيرًا ناشئًا عن علمه المحيط. والتسبيح - هنا - عمليّ، وهو الانصياع التامّ في طاعته تعالى وامتثال أمره.
أمّا الكرسيّ فهو كناية عن ملكه تعالى وسلطانه على الكائنات: (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «6». وهكذا وسع كرسيّ ملكه السماوات والأرض.
(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما): لا يشقّ عليه ولا يثقل كاهله القيام بشؤون تدبيرها، على سعتها وترامي أطرافها، وتطاول أمدها عبر الأبديّة. فالكرسيّ، جاء تعبيرًا عن ملكه تعالى وسلطانه الشامل. والعرش، تعبير عن جانب تدبيره لشؤون الخلق كلّه. فالكرسيّ كرسيّ الملك، والعرش عرش التدبير. وكلاهما يشفّان عن سعة علمه تعالى وعظيم قدرته في الخلق والتدبير.
وهكذا روى أبو جعفر الصدوق عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد اللّه بن سنان عن الإمام أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، قال: «. . . والعرش هو العلم الّذي لا يقدّر أحد قدره . . .» «7» أي علمه تعالى الشامل لما ذرأ وبرأ. وفي بعض الروايات: إطلاق العرش والكرسيّ، كليهما على سعة علمه تعالى.
قال أبو جعفر الصدوق: سئل الصادق عليه السّلام عن قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال: «علمه» «8». ورواه في كتاب المعاني بالإسناد إلى حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه - عزّ وجلّ - : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال: «علمه» «9».
وروى بالإسناد إلى المفضّل بن عمر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العرش والكرسيّ؛ ما هما؟ فقال: «العرش، في وجه، هو جملة الخلق، والكرسيّ وعاؤه. وفي وجه آخر، هو العلم الّذي أطلع اللّه عليه أنبياءه ورسله وحججه. والكرسيّ هو العلم الّذي لم يطلع عليه أحدًا من أنبيائه ورسله وحججه عليهم السّلام» «10».
وكلّ هذه التعابير تدلّك على معنى واحد شامل، هو سلطانه تعالى المهيمن على الخلق كلّه، بما يستلزمه من علم وحكمة وقدرة قاهرة وشاملة عبر الأبد. (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) «11».
وهكذا روي عن ابن عبّاس - ترجمان القرآن وتلميذ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه فسّر الكرسيّ - في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) - بعلمه تعالى الشامل. واستند في تفسيره هذا إلى ذيل الآية: (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما). حيث الحفاظ عليهما يستدعي علمه تعالى المحيط بكلّ شيء، وتدبيره الحكيم.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال: كرسيّه علمه؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) «12».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأعراف 7 : 54 ؛ التوبة 9 : 129 ؛ يونس 10 : 3 ؛ هود 11 : 7 ؛ الرعد 13 : 2 ؛ الإسراء 17 : 42 ؛ طه 20 : 50 ؛ الأنبياء 21 : 22 ؛ المؤمنون 23 : 86 و 116 ؛ الفرقان 25 : 59 ؛ النمل 27 : 26 ، السجدة 32 : 4 ؛ الزمر 39 : 75 ؛ غافر 40 : 7 و 15 ؛ الزخرف 43 : 82 ؛ الحديد 57 : 4 ؛ الحاقة 69 : 17 ؛ التكوير 81 : 20 ؛ البروج 58 : 15.
(2) البقرة 2 : 255.
(3) الرعد 13 : 2.
(4) السجدة 32 : 4.
(5) الكافي 1 : 131.
(6) الزمر 39 : 62 - 63.
(7) التوحيد : 327 / 2 ، باب 52 ؛ البحار 4 : 89 / 28 ، باب 2 ، و 55 : 29 / 50 ، باب 1 (العرش والكرسيّ).
(8) كتاب الاعتقادات للصدوق : 44 ؛ البحار 55 : 9 / 6.
(9) المعاني : 30 / 2 ؛ التوحيد : 327 / 1 ؛ البحار 55 : 28 / 46.
(10) المعاني : 29 / 1 ؛ البحار 55 : 28 - 29 / 47.
(11) الزمر 39 : 62.
(12) الدرّ 2 : 16 ؛ الطبري 3 : 15 - 16 / 4515 - 4516 ؛ ابن أبي حاتم 2 : 490 - 491 / 2599 ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : 553 . الثعلبي 2 : 232 ، عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد ؛ التبيان 2 : 309 ؛ مجمع البيان 2 : 160 ، عن ابن عبّاس ومجاهد وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السّلام ؛ أبو الفتوح 3 : 409 ، عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد ؛ الوسيط 1 : 368 ، بلفظ : روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : وسع علمه السماوات والأرض.
عدنان الحاجي
د. سيد جاسم العلوي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حيدر حب الله
الشيخ باقر القرشي
إيمان شمس الدين
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
كيف يصنع الدماغ العادة أو يكسرها؟
إنتروبيا الجاذبية والشروط الابتدائية الخاصة في لحظة الانفجار الكونيّ العظيم (1)
العرش والكرسيّ (1)
حقيقة التأويل في القرآن الكريم (1)
حين لا نتقدم.. ما هي السنّة الإلهية التي قد تجري؟
ما يجوز على أهل البيت وما لا يجوز
الذّكر والتّقوى، أمان وقوّة
حين تضيع القيَم!
تفسير سورة الفاتحة
حقيقة بكاء السماء والأرض في القرآن الكريم