من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد مغنية
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد مغنية، ولد عام 1322ﻫ في قرية طير دبّا، إحدى قرى جبل عامل في لبنان، درس أوّلاً في مسقط رأسه ثمّ غادر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وحين عاد إلى وطنه، عُيّن قاضيًا شرعيًّا في بيروت، ثمّ مستشارًا للمحكمة الشرعيّة العليا، فرئيسًا لها بالوكالة. من مؤلّفاته: التفسير الكاشف، فقه الإمام الصادق(ع)، في ظلال نهج البلاغة، الفقه على المذاهب الخمسة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، الإسلام والعقل، معالم الفلسفة الإسلامية، صفحات لوقت الفراغ، في ظلال الصحيفة السجادية، وسوى ذلك الكثير. تُوفّي في التاسع عشر من المحرّم 1400ﻫ في بيروت، ثمّ نُقل إلى النجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي، ودُفن في حجرة 17 بالصحن الحيدري.

دنيا عليّ عليه السّلام (2)

طعامه:

 

دخل عليه بعض أصحابه، فوجد بين يديه إناء فيه لبن تفوح منه رائحة الحموضة، وفي يده رغيف ظهر فيه قشار الشّعير، وهو يكسره بيده، ويطرح الكسر في اللّبن، فقال له الإمام: أدن وأصب من طعامنا. فامتنع الرّجل، وقال لفضّة خادمة الإمام ألا تتقون اللّه في هذا الشّيخ؟! ألا تنخلون هذا الطّعام من النّخالة؟. قالت: أمر أن لا ننخل له طعامًا «1».

 

وعن الإمام الصّادق أنّه أهدي إلى أمير المؤمنين طست من فالوذج، وكان في نفر من أصحابه، فقال مدوا أيديكم، فمدوها ومد يده الشّريفة، ثمّ رفعها، فقالوا له: أمرتنا أن نمد يدنا، ففعلنا، ومددت يدك، ثمّ قبضتها؟.. فقال: ذكرت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يأكله، فكرهت أكله «2».

 

وذكر صاحب سفينة البحار في مادّة «كبد» عن كتاب مصباح الأنوار: بلغنا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام اشتهى كبدًا مشوية على خبزة لينة، فأقام حولًا يشتهيه . ثمّ ذكر ذلك للحسن عليه السّلام، وهو صائم يومًا من الأيّام، فصنعها له: فلمّا أراد أن يفطر قرّبها إليه، فوقف سائل بالباب، فقال: يا بني احملها إليه لا نقرأ صحيفتنا غدًا: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) «3».

 

ولو صدر هذا الإيثار من غير عليّ لتعجبنا، وبحثنا عن سببه، أمّا وقد صدر عن الّذي يرجح إيمانه على السّموات السّبع، والأرضين السّبع «4» فلا عجب، وإنّما العجب أن لا يصدر منه ذلك.

 

وإذا تنافس المتنافسون من أهل الجهالة والضّلالة على المأكلّ والمشارب وتكالبوا على الجاه والمال وتسابقوا إلى اقتناء السّيارات الحديثة الفارهة، وبناء العمارات الضّخمة، فإنّ أولياء اللّه وأصفياءه يتسابقون إلى مرضاة اللّه وثوابه، ويتأسون بموسى وعيسى ومحمّد، فلقد جاء في بعض خطب نهج البلاغة:

 

«ولقد كان في رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - كاف لك في الأسوة، ودليل لك على ذمّ الدّنيا وعيبها، وكثرة مخازيها  ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطّئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها.

 

وإن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - حيث يقول: (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) «5». واللّه، ما سأله إلّا خبزًا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله، وتشذّب لحمه».

 

وإن شئت ثلّثت بداود - صلّى اللّه عليه وآله - صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنّة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها! ويأكل قرص الشّعير من ثمنها.

 

وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم - عليه السّلام - فلقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجش ، وكان إدامه الجوع، وسراجه باللّيل القمر، وظلاله في الشّتاء مشارق الأرض، ومغاربها، وفاكهته، وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذلّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه» «6».

 

تأسى عليّ بمحمّد وموسى وعيسى؛ لأنّه من هذا البيت، بيت الرّحمة، ومن هذه الشّجرة، شجرة النّبوّة، أمّا أبناء الدّنيا فقد ساروا بسيرة ابن العاص الّذي باع دينه بولاية مصر وخراجها لمن بايع وتابع وشايع الشّيطان، قال الإمام: «الدّنيا جيفة، فمن أرادها فليصبر على مخالطة الكلاب» «7». ولذا لفظها الإمام لفظ النّواة، وكانت عنده أحقر من حذائه، ومن ورقة في فم جرادة تقضمها» «8».

 

قال الأستاذ العقاد في آخر كتاب «عبقرية الإمام»: «أمّا معيشة عليّ في بيته بين زوجاته وأبنائه فمعيشة الزّهد والكفاف، وأوجز ما يقال فيها أنّه كان يتّفق له أن يطحن لنفسه، وأن يأكل الخبز اليابس الّذي يكسره على ركبته، وأن يلبس الرّداء الّذي يرعد فيه، وأنّ أحدًا من رعاياه لم يمت عن نصيب أقل من النّصيب الّذي مات عنه، وهو خليفة المسلمين» «9».

 

بيته:

 

حين بنى رسول اللّه المسجد في المدينة بنى حوله عشرة بيوت: تسعة منها لأزواجه، وعاشرها لعليّ وفاطمة، وكان في وسط البيوت، وكان يسكنه مدّة وجوده في المدينة، ثمّ سكنه من بعده أولاده وأحفاده إلى أيّام عبد الملك بن مروان، فاغتاظ من وجوده، وأراد أن يهدمه محتجًّا بتوسيع المسجد، وكان فيه الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، فطلبوا أن يخرج منه، فقال: لا أخرج، ولا أمكّن من هدمه، فضرب بالسّياط، وأخرج قهرًا عنه، وهدّم الدّار، وزيد في المسجد «10».

 

ولـمّا بويع الإمام بالخلافة، وانتقل إلى الكوفة «أبى أن ينزل القصر الأبيض المعروف بقصر الإمارة إيثارًا للخصائص الّتي يسكنها الفقراء، ولم بين آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة» «11».

 

إنّ عليًّا لا يهتّم بالقصر الأبيض ولا بغيره بعد أن قال له النّبيّ: «أنت معي في قصري في الجنّة» «12»، وقال رسول اللّه: «الجنّة تشتاق إلى ثلاثة: عليّ، وعمّار، وسلمان» «13»، وقال رسول اللّه: «إنّ اللّه اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً، وإنّ قصري في الجنّة، وقصر إبراهيم متقابلان، وقصر عليّ بن أبي طالب بين قصري وقصر إبراهيم، فيا له من حبيب بين خليلين!...» «14»، وقال رسول اللّه: «يا عليّ معك يوم القيامة عصا من عصي الجنّة تذود بها المنافقين عن الحوض» «15».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر، الغارات : 2 / 707 ، المناقب للخوارزمي : 118.

(2) انظر، المحاسن : 2 / 410 ح 135 ، مناقب آل أبي طالب : 2 / 99 ، كشف الغمّة : 1 / 163.

(3) الأحقاف : 20 . وانظر ، مصباح الأنوار : 314 ، سفينة البحار : 2 / 458 ، مستدرك سفينة البحار :

9 / 6.

(4) جاء في كتاب الرّياض النّضرة للمحب الطّبري من السّنة : 2 / 300 طبعة عام ( 1053 ) عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : أشهد على رسول اللّه لسمعته يقول : لو أنّ السّموات السّبع والأرضين السّبع وضعت في كفّة ، ووضع إيمان عليّ في كفّة لرجح إيمان عليّ . منه قدّس سرّه ، وانظر ، تأريخ مدينة دمشق : 42 / 341 ، كنز العمّال : 6 / 156 ، كفاية الطّالب : 129 ، مناقب آل أبي طالب : 2 / 191 ، ذخائر العقبى : 100 ، مناقب الخوارزمي : 78 ، كشف الغمّة : 1 / 288 ، ينابيع المودّة : 2 / 188.

(5) القصص : 24.

(6) انظر، نهج البلاغة : الخطبة ( 160 ).

(7) انظر، كنز العمّال : 3 / 719 ح 8564 ، كشف الخفاء : 1 / 409 ح 313 ، الدّر المنثور : 3 / 301 ، أسد الغابة : 4 / 23 ، سبل الهدى والرّشاد : 11 / 301.

(8) انظر، نهج البلاغة : الخطبة ( 224 ).

(9) انظر، كتابه « عبقرية الإمام » : 57.

(10) انظر ، مناقب آل أبي طالب : 2 / 38 ، نهج الإيمان ، ابن جبر : 443 ، السّيّدة فاطمة الزّهراء ، محمّد بيومي : 123.

(11) انظر، عبقرية الإمام ، العقاد ، وأسد الغابة ، لابن الأثير . ( منه قدّس سرّه ) . وانظر ، الكافي : 8 / 130 ح 100 ، أمالي الصّدوق : 356 ح 14 ، مناقب آل أبي طالب : 1 / 365 ، أسد الغابة : 4 / 24 ، الكامل في التّأريخ : 3 / 160 ، فضائل الصّحابة لأحمد بن حنبل : 1 / 536.

(12) انظر، الإمام أحمد في المناقب ، والمحبّ الطّبري في الرّياض النّضرة : 2 / 277 . ( منه قدّس سرّه ) . وانظر ، نظم درر السّمطين : 95 ، كنز العمّال : 9 / 167 ح 25554 ، الكامل في التّأريخ : 3 / 207 ، تأريخ مدينة دمشق : 21 / 416 ، سير أعلام النّبلاء : 1 / 142 ، أحمد بن حنبل في كتابه المناقب : 2 / 638 / 1085 ، وابن عساكر في تأريخه : 6 / 107 و 201 ح 148 و 150 ، والبغوي في مصابيحه :2 / 199 ، فرائد السّمطين للجويني : 1 / 115 و 121.

(13) انظر، الإمام أحمد في المناقب ، والمحبّ الطّبري في الرّياض النّضرة : 2 / 277 . ( منه قدّس سرّه ) . وانظر ، تأريخ مدينة دمشق : 21 / 182 و : 60 / 177 ، نظم درر السّمطين : 95 ، كنز العمّال : 13 / 256 ح 36757 ، أنساب الأشراف : 5 / 122 ، مستدرك الحاكم : 3 / 137 ، مروج الذّهب : 2 / 21 و 22 ، مسند أحمد : 1 / 99 و 123 و 125 و 130 و 137 و 404.

(14) انظر، الإمام أحمد في المناقب ، والمحبّ الطّبري في الرّياض النّضرة : 2 / 279 . ( منه قدّس سرّه ). وانظر، نظم درر السّمطين : 113 ، كنز العمّال : 11 / 616 ح 32988 ، جواهر المطالب ، لابن الدّمشقي : 1 / 231 .

(15) انظر، الإمام أحمد في المناقب ، والمحبّ الطّبري في الرّياض النّضرة : 2 / 280 . ( منه قدّس سرّه ) . وانظر ، المعجم الصّغير : 2 / 89 طبعة المدينة المنورة ، مجمع الزّوائد : 9 / 135 ، الصّواعق المحرقة : 104 ، جواهر المطالب لابن الدّمشقي : 1 / 233 ، ينابيع المودّة : 2 / 375 . المعجم الأوسط : 7 / 343 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 19 ، شواهد التّنزيل : 2 / 459 الطّبعة الأولى تحقيق المحمودي 1125 - 1148 ، لسان الميزان : 1 / 175 ، أنساب الأشراف : 2 / 103 و 113 ، ذخائر العقبى : 88 و 102 ، وروح المعاني : 30 / 207 طبعة مصر.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد