مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

الأبوّة شرط القيادة

"أَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ‏ الْأُمَّة". [رسول الله(ص)]

 

ثمّة نوعان من القيادة في هذا العالم. قيادة يصنعها الناس، فتكون وليدة إرادتهم والمعبِّرة عن رغباتهم وتوجهاتهم؛ وقيادة يصنعها الله تعالى للناس؛ هذا، وإن كان النوع الأول هو صنيعة الله بمعنًى من المعاني. ولعلّ الجملة المشهورة بين الناس "كما تكونون يولّى عليكم" تشير إلى النوع الأول.

 

حين تكون القيادة مظهرًا لإرادة الله تعالى فسوف يكون صاحبها مؤيَّدًا ومسدَّدًا؛ فلن يخذله الله ولن يخزيه حتى في المواقف التي لا تكون له فيها القدرة أو الدراية والمعرفة. ولكي يصبح القائد مسدَّدًا، فإنّ الشرط الأول الذي يجب أن يلتزم به منذ البداية وحتى النهاية هو ألّا يكون راغبًا ومندفعًا وطالبًا للرئاسة والزعامة والترؤُّس على الناس بأي شكل. وقد أُشير إلى هذا الشرط في أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، كما جاء عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص)‏ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ للْإِمَارَةَ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ: مَنْ سَأَلَ الْإِمَارَةَ لَمْ يُعَنْ عَلَيْهَا وَوُكِلَ إِلَيْهَا وَمَنْ أَتَتْهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِينَ‏ عَلَيْهَا.[1]

 

والشرط الآخر الذي قد لا يقل أهمية عن الأول هو أن يتمتع القائد بروح الأبوّة تجاه كل الرعية دون استثناء، حتى العاصي منهم والمارق، بل المعارض والجاحد. والأبوة مظهرٌ خاص للرحمة الإلهية الواسعة التي لولاها لما استقامت الحياة البشرية ولا صلُحت. وتبرز بوضوح في الحياة العائلية حيث يفرض الانتماء بالنسب ورابطة الدم والرحمية مثل هذه العاطفة على الوالد الذي ينال مرتبة الأبوة تجاه أولاده وبطريقة سهلة جدًّا، قد لا يدرك سرّها ومنشأها الواقعي.

 

الأب الحقيقي هو الذي يهتم بمصلحة أبنائه بمعزل عن أي شيء آخر؛ ورغم وجود مصالح شخصية له، إلا أنّه يتخلى بسرعة عن مصلحته حين تتزاحم مصلحة الابن معها، ولا يتردد لحظةً واحدة في ذلك؛ ثم يفني بقية عمره من أجل تأمين مصالح أبنائه مهما كانوا، لا يفرّق بين أحدٍ منهم إلا بما يفرّقون هم ويفترقون، وذلك بحسب ما يستقبلونه من أبوته ورعايته.

 

فالأصل عند الأب هو مدى تقبُّل الأبناء واستقبالهم لعنايته دون أي شيء آخر. ولهذا، تراه يهتم بمريضهم أكثر من سليمهم، ويرعى ضعيفهم أو يهدي ضالّهم إلى الدرجة التي يظن الأصحاء منهم والأقوياء والمهتدون أنّ والدهم يفضّل واحدًا منهم عليهم ويميّزه بلا سبب أو مبرّر!

 

وهذه الأبوة المشهودة في الحياة الأسرية قد تتّسع في بعض الأفراد خاصة، فتصبح شاملة لكل أبناء المجتمع؛ وبذلك يتّسع صدر هذا الأب الكبير، ويكون قد حقق شرطًا مهمًّا من شروط القيادة الإلهية التي تجلب كل أنواع المدد والعون والسدد.

 

وحين يضيق صدر القائد والمسؤول إلى الدرجة التي تصبح معها جميع حساباته مرتبطة بمصالحه وشخصيته ومشروعه وإنجازاته، فإنّه سيفقد حتمًا ذلك التسديد والتأييد، ويصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يُخزى، لولا عصمة في الدنيا تمنعه. أما حاله في الآخرة فالفضيحة والعار والشنار والندامة والخزي كما جاء في وصية النبيّ الأكرم لأبي ذر بشأن المسؤولية: "وإنّها يوم القيامة خزي وندامة".[2]

 

إنّ أحد أوجه الاستغلال السيئ للرئاسة والمنصب الاجتماعي (الذي يُفترض أن يتحمل فيه المسؤول مهما كان مهمة رعاية الآخرين والاهتمام بهم) هو أن يفقد المسؤول هذه الروحية الأبوية، ولا يتوجه إلى كل من يُفترض أن يكون تحت رعايته وولايته توجُّهًا أبويًّا يكترث فيه لأمره ويتابع شؤونه ويعمل على إصلاحه إن فسد ويسعى بكل الطرق لاستقطابه وجذبه وتقويته، فتراه يعمل على تقوية شأنيته الخاصة وتحقيق إنجازاته التي تعود عليه بالنفع والشهرة، وتطبيق بنات أفكاره وهو غير عابئٍ بأفكار ومقترحات من هم تحته.

 

إنّ من أهم شؤون الولاية الإلهية أن يتخلّى القائد عن رغبته بتحقيق الإنجازات المتعلقة به لصالح تحقيق رغبات الرعية. فلنفترض أنّ هذا القائد شاعر، والشاعر يحب أن يستمع الناس إلى شعره ويقرؤوه، لكن ولسببٍ ما يعلم أنّ طباعة ديوانه الشعري تتزاحم مع طباعة دواوين غيره بسبب قلة مواد الطباعة والورق، نتيجة الحصار الذي يفرضه الأعداء على بلده. فهذا القائد إن كان أبًا حقيقيًّا لشعبه لن يتردد لحظةً واحدة في تقديم طباعة دواوين شعراء أمته وشعبه على طباعة ديوانه. وهكذا في كل شيء يرتبط بالمشاريع والأعمال والإنجازات.

 

والقائد الأب هو الذي يحرص على معرفة كل أبنائه فردًا فردًا ولا يستثني منهم أحدًا. فيبتكر الآليات الإدارية الذكية التي تمكّنه من التعرُّف إلى جميع الطاقات الموجودة تحت رعايته، حتى لو كانت هذه الطاقات عشرات ملايين الأشخاص أو كان بعضها متواجدًا خارج نطاق بلده. ولو أهمل التعرُّف إلى الطاقات البشرية خارج بلده، فإنّ ولايته ستتحدّد ضمن إطار بلده فقط، حتى لو اعتقد من هم خارج البلد بولايته؛ فيكون بذلك قد فقد التسديد الإلهي بمجرّد أن حسر أبوته وحصرها في نطاق شعب بلده. وحين يتّخذ القرارات بخصوص من هم في الخارج، فلن يكون مسدّدًا من الله أو موفَّقًا.

 

ولئن كانت آلة الرئاسة سعة الصدر، فإنّ هذه القدرة على تحمُّل الجميع واستيعابهم تبدأ بالمعرفة والتشخيص. وهذا ما يتطلب تلك الآليات الإدارية التي يبتكرها العقلاء كل يوم دون أن يتهيبوا من الأعداد الكبرى للناس والمراجعين والمتابعين والعاملين والزبائن و.. ولأجل ذلك كانت الإدارة بمعناها الحديث وكذلك حسن التدبير؛ حيث يمكن للمدير الناجح أن يستمر في عملية الاتساع والتوسع إلى ما لا نهاية، وذلك بفضل ما يبتكره من آليات فعالة.

 

إنّ القائد الأب هو الذي يحدّد نوعية الطاقات الإنسانية ومراتبها ودرجاتها وأهميتها، وذلك بحسب المشروع الكبير الذي يقود المجتمع فيه نحو تحقيق الأهداف الإلهية. وعلى ضوء ذلك يقوم بالبحث عن هذه الطاقات والتنقيب عنها، ليس في مجال محيطه ومعارفه والناس الذين يستميتون للتواصل معه فحسب، بل في أقاصي الأرض وأنأها وأبعدها. وبفضل هذا الحس الأبوي ينبعث ذلك الحس الاكتشافي العجيب الذي يمكّنه من استشمام الطاقات المفيدة ولو كانت في آخر بلاد العالم.

 

ولا أتحدث هنا عن ميزة إلهية خاصة لا يمكن كشفها، بل أقصد تلك الآليات الإدارية الذكية التي تمكّنه من التعرُّف إلى جميع الطاقات، ما خفي منها وما ظهر.

 

الأب الحقيقي لا يمكن أن يهمل شأن أبنائه، ولا يمكن ألّا يعرف كل ما يرتبط بهم ويهمّهم؛ وهو لا ينتظرهم حتى يحدّثوه أو يصارحوه حتى يكتشف ذلك؛ بل هو المراقب المتابع المواكب لأحوالهم منذ بدء النشوء، فيكون أعرف بهم من أنفسهم.

 

والقائد الأب لا يستثقل المزيد من المطالب والاحتياجات بحجة كثرة المتابعات وضغوط الخواص والمطالبات؛ بل لا يقدّم على هذه الأبوة أي شيء مهما عظم. وكيف يفعل ذلك وهي مهمته الأولى ومسؤوليته الكبرى والتي تتجلى في تربية الطاقات وهدايتها وتوجيهها؟! وماذا سيكون عذره يوم القيامة حين يسأله الله عمّا فعل مع فلان الذي كان يعيش في قريةٍ نائية وكان بالإمكان أن يعينه خير إعانة على تحقيق أهدافه التي هو مسؤول عنها أكثر من أي شيء؟

 

لا شك بأنّ هناك معاناةً كبيرة عند المسؤولين والقادة على صعيد تحقيق الأهداف، فقلّما تجد قائدًا لا يشكو من ذلك ويتمنى لو أنّ له بهم قوة أو يأوي إلى ركن شديد. لكن هل سيكون معذورًا حين يُطلعه الله تعالى يوم الحساب على بعض الأشخاص الذين كان بإمكانهم أن ينصروه ويحققوا له ما كلّفه الله به؟

 

أجل، إذا كان القائد قد حقق الأهداف، فربما يحق له أن يرتاح ويأخذ إجازة ويستقيل من هذه المهمة الكبرى ولن يكون مسؤولًا عن ذلك أو محاسَبًا، لكن أن تسمع قائدًا يعاني ويعترف بأنّ الأهداف لم تتحقق، ثم تراه يشكو من كثرة المتابعات وتزاحم المواعيد ويتمنى لو أنّ هذا العدد الكبير من الناس لا يرجعون إليه ولا يراجعوه عسى أن يهدأ باله قليلًا، فهذا قائدٌ قد فقد روح الأبوة منذ زمنٍ بعيد وهو لا يدري.

 

إنّ الحديث الذي يقول: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ يُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا لِلنَّاسِ فَإِذَا مَنَعُوهَا حَوَّلَهَا مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِم"،[3] ‏يشير إلى هذه الحقيقة الكبرى في الإدارة والقيادة. فالله تعالى قد جعل تأييده وإمداده للقادة ما داموا آباءً حقيقيين للناس ضمن حيطة ولايتهم، حتى إذا ضاقوا ذرعًا بالناس وأهملوا شأن البعض بحجة الاهتمام بالبعض الآخر فإنّ الله سيسلبهم هذا التأييد ولن يوفَّقوا بعدها في تحقيق الأهداف؛ هذا إذا بقيت هذه الأهداف حاضرة في وجدانهم.

 

بعض القادة الصالحين يفقدون صلاحهم بسبب ضعف إدارتهم. وتضعف إدارة الصالحين بسبب ضعف إبداعهم. فالإدارة التي يُراد لها أن تشمل الجميع وتحقق الأبوة القيادية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل إبداع الأساليب وابتكار الآليات الإدارية التي تمكّن القائد من التواصل مع الجميع إلى الدرجة التي لا يبقى عند أحدهم أي مطالبة له، بل يكون هو المُطالب حقًا وفعلًا.

 

الأبوة الحقيقية هي التي تستوعب حاجات الأبناء وتوفرها لهم قبل أن يفكروا بها. الأب الحقيقي يحدد حاجة ولده إلى اللباس الفلاني في الوقت المحدَّد قبل حلوله، فيكون هذا اللباس متوفرًا لولده في اللحظة المناسبة تمامًا.

 

الأب الحقيقي يعلم جيدًا أنّ الله تعالى وبمجرد أن جعله أبًا فسوف يرزقه ويعينه على تأمين حاجات أبنائه الأساسية التي بها ضمان مصالحهم الأخروية وكرامتهم الدنيوية، ولا يمكن أن يهينه الله أو يسقط أبوّته أو يضعفها في عيون أبنائه إلا إذا توانى وأساء الظن بالله تعالى أو ساء تدبيره.

 

أجل، يمكن للقائد الأعلى أن يكون أبًا حقيقيًّا لشعوبٍ بأسرها مع كل هذه المجالات العظيمة والآفاق اللامتناهية للإبداع الإداري الذي سنتحدث عنه أكثر فأكثر.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. مستدرك الوسائل، ج17، ص407.

[2]. شرح الكافي، ج9، ص285.

[3]. عوالي اللئالي، ج1، ص372.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد