«اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَاقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، وَاخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، وَبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ، وَحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ، وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ، وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَامْلَأْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ، وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ».. (من دعاء أهل الثغور للإمام زين العابدين عليه السلام).
وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ:
وهذه الفقرة تشير إلى ضرورة وضع خطط لتحركات تضليلية تؤدي إلى بعثرة جهد العدو، وعدم قدرته على تحديد وجهة سير العمليات القتالية، وهذا أمر ضروري جدّاً في جميع المهمات، وقد يحتاج ذلك إلى بعض العمليات الصغيرة هنا وهناك.. أو تحريك بعض القطعات العاملة باتجاه.. في حين يكون الهدف الأساس في اتجاه آخر.
وقد يحتاج ذلك إلى التظاهر بسرية تلك التحركات، ثم تسريب معلومات عنها بطريقة ذكية ومدروسة. وقد يكون الهدف من ذلك هو تشتيت قوى العدو، ونقل اهتماماته، أو تحريك النخبة عنده نحو مواقع موهومة، أو غير ذات أهمية، أو ليست هي المقصودة، وإلهائه عن النقطة الحساسة التي يراد ضربها.. كما أن تعمية السبل على العدو في الوصول إلى أهدافه، وتضليله عنها مهم جدّاً في زرع الفشل والشعور بالخيبة لديه..
والخلاصة: أن التخفي في التحركات، وتضليل العدو عن أهدافه، وجره إلى أهداف موهومة.. أمر هام جداً وأساسي للنجاح في الحرب. بل لا يجوز تمكينه من معرفة الأهداف الكبرى والحقيقية بأي حال..
وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ:
ومما يزيد في شعور أفراد العدو بالخيبة، وفي تشكيكهم بجدوى مخاطرتهم بأرواحهم أن تحاصر وتعزل القوات العاملة، وتمنع من الحصول على المساندة والدعم، ولا أقل من أن يشعروا بأن إنجادهم بالمقاتلين وقت الحاجة يعاني من مشكلات، ويصطدم بموانع.
وهذا يؤكد لديهم الشعور بضعف الاستعدادات، أو ضعف التدبير لدى قادتهم، ويعطيهم الشعور بالهيبة لعدوهم، وقيام الاحتمالات لديهم بأن عدوهم يملك قدرات مؤثرة في حسم الحرب لصالحه. وبذلك تصبح مقاومتهم غير ذات جدوى، بل هي مجرد هدر للطاقات، وتعرض للخطر بلا موجب..
وربما يكون نفس شعور الأفراد باختلال خطوط الإمداد، كافياً لإثارة شكوكهم في سلامة التدبير العسكري في سائر المجالات.. ومع اختلال الوضع في هذه الجهة، فإن كل فرد منهم سوف يعتبر أن أي خسارة يتعرض لها فريقه، ربما لا تتهيأ الفرصة لتعويضها، وستزيد بذلك قوة عدوهم وقدرته على إلحاق المزيد من الأذى بهم، أي أن إحساسه بالخطر سوف يتنامى ويكبر في كل لحظة. وسيزداد اهتمامه برصد الخسائر التي تلحق بفريقه، وسيكون لها تأثيرها القوي في نفسه، لأنها تنقص من احتمالات السلامة لديه، وربما ينتهي الأمر إلى أن يصبح القليل أعظم أثراً في نفسه، وأضخم وأكبر من حجمه الطبيعي. ويزيد شعوره بأنه محاصر بالخطر، وأنه يقترب منه، ويزحف نحوه شيئاً فشيئاً.
وقد يفكر أيضاً في أن عدوه أصبح أكثر ميلاً للحرب، لشعوره بأن قوته قد تضاعفت، فيكون على حد قول أمير المؤمنين «عليه السلام»: «ما لقيت رجلاً إلا أعانني على نفسه» (1)، وذلك لأنه «عليه السلام» مصمم على قتله، وهو أيضاً يحدث نفسه بأن علياً «عليه السلام» سوف يقتله. فهو إذاً يكون بانتظار ما يرد عليه، ولا يكون فاعلاً ولا مبادراً.
وقطع المدد بالرجال قد يحتاج إلى إشغال القطعات التي يتوقع إمدادها له بحروب جانبية، والسعي إلى تشتيت جهده القتالي.. أو زرع الخوف في طرق الوصول، ولو بعمليات خاطفة، أو نصب كمائن ذكية، أو زرع ألغام، أو غير ذلك مما يؤثر في زيادة الإحساس بخطر التردد في المسالك..
وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ:
وتتحدث هذه الفقرة أيضاً عن المقاتلين في جيش العدو بما هم أفراد، لا عنهم بما هم جماعة. فإن من المفيد جدّاً: أن يضاف إلى ما تقدم، العمل على استنزاف طاقات العدو البشرية، وسلب قدرته على القتال المجدي، ولو عن طريق السعي لتوجيه ضربات، من شأنها أن تنقص من عديد أفراده، وإخراجهم من ساحة الحرب، إما بقتلهم أو بجرحهم، أو بإيجاد أجواء ومناخات تساعد على حملهم على التراجع، والانكفاء، واتخاذ خطوات ناقصة، ثم تقوية الدواعي لتركهم ساحة القتال.
فإن ذلك سيؤثر على معنويات الباقين، ويضعف اندفاعهم للحرب، ويزيد من ميلهم إلى خلق الذرائع، اللحاق بمن خرج منها.. حتى لا يُلْحِقَهم عدوهم بمن قتل أو جرح من إخوانهم..
وذلك يعني: أن ظهور النقص في عديد العدو مطلوب ولازم، لإيجاد المناخ النفسي الذي يضعفهم، ويقلل من خطرهم، ويقوي من عزائم أهل الحق في مواجهتهم، ويطمعهم بالنصر عليهم..
وَامْلَأْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ:
وقد روي عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنه قال: «نصرت بالرعب». مما يعني: أنه لا بد من توجيه ضربات صاعقة، قادرة على نشر الرعب في قلوب الأعداء، فإن ذلك يهيؤه نفسياً للهزيمة، ويشل قدرته على القيام بدوره.. ويلاحظ هنا: أن المطلوب هو الامتلاء بالرعب، لا مجرد دخول الرعب إلى القلوب.. كما أن المطلوب هو امتلاء الأفئدة، لا القلوب. ولعل الفرق بينهما أن الفؤاد هو القلب لتوقده أو لتحركه، لأن أصل الفأد الحركة والتحريك، وقيل: الفؤاد هو العقل..
فاستعمال هذه الكلمة دون كلمة القلب، لإفادة خصوصية تحرك الرعب في قلوبهم باستمرار، أو توقده، وحرارته، أو أن تصبح العقول غير قادرة على الإدراك والتدبر، فيكون حالها كحال الممتلئ رعباً. وربما يقصد بالفؤاد: القلب وسواه مما في داخل الإنسان.
وفي جميع الأحوال، نقول: لا بد من انتهاج سياسة تؤدي إلى أن تمتلئ أفئدة الأعداء رعباً، ويسيطر على كل وجودهم، بحيث يذهلهم عن كل تفكير وتدبير، فإن ذلك من بشائر النصر، بل هو من مكوناته الأساسية.
وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ:
والمطلوب أيضاً: تعطيل قدرة العدو على الحركة، وجعله في موقع العجز عن تحقيق أي إنجاز، فلا يكفي أن لا تمتد أيديهم إلى قتال، بل المطلوب هو: أن تنقبض تلك الأيدي، وتتراجع إلى حد القيام بعمل مضاد لما يطلب منها في ذلك. لأن تلك العناصر قد فقدت الداعي والمحرك للقتال، الذي يكون هو الداعي لبسط اليد، كما أشير إليه في قوله تعالى: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) (2).
ويلاحظ: أن المطلوب هو: أن تقبض أيديهم عن البسط، لا أنها تقبض عن أهل الإيمان. أي أنهم لا يريدون لأيديهم أن تبسط لأي شيء. مما يعني أن حركتهم قد تعطلت بالكلية.. وأن الرعب قد أفقدهم القدرة على أية مبادرة مهما كانت، ووضعهم في حالة انكماش وانطواء طبيعي..
وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ:
والمطلوب أيضاً: محاصرة العدو، وإجباره على السكوت، فلا يستطيع أن يتكلم بشيء، لأن أي كلام يصدر عنه سيكون في مصلحة أهل الإيمان، وسوف يعود بالضرر عليه.. يقال: خزم اللؤلؤ، شكه ونظمه. والبعير جعل في جانب منخره الخزامة. وخزم أنف فلان، أذله وتَسَخَّره. فإذا خزم اللسان، فإنه لا يعود قادراً على النطق.
وهذا الرباط المهيمن على اللسان لا بد أن يتكوَّن وفق خطة مرسومة، إن في مجال الإعلام، وإن في مجال العمل الميداني العسكري، أو في غير ذلك من مجالات.
وهذا يحتاج أيضاً إلى رصد لكل ما يقوم به العدو، وإلى هيمنة تامة على حركته، وجعله عاجزاً عن الحركة في جميع الاتجاهات، حتى حين يريد أن يتحدث عن قوته، أو حين يريد أن يعبئ جنوده روحياً، ويرفع من معنوياتهم. وغير ذلك.. وسبب هذا هو: أنه يرى جهده هذا سينقلب عليه خيبة وفشلاً وخسراناً.
وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ:
لقد طلب «عليه السلام» أن توجه ضربات قوية ومدوية إلى الحد الذي يخيف القوات التي لم تشارك بعد بالقتال، ويدفع العدو إلى ارتجال مواقف غير مدروسة، وتأكيد الشعور لديه بعدم جدوى العمل بالخطط المقررة، وإن ذلك من شأنه أن يربك حركته، ويفقده القدرة على الإمساك بزمام الأمور.
بل لا بد من إنزال ضربات هائلة بمقاتلي العدو، تكون بحيث إذا رآها من خَلفهم من القوات المهيأة للقتال، دعاهم ذلك إلى نفور عاجل، يصاحبه اضطراب وتشويش، ومن دون تحديد هدف.. وهذا هو معنى التشريد بهم، أي أن تشعرهم تلك الضربة بالخطر الجسيم يتهددهم، من خلال تصورهم لحجم الأضرار التي حلت بأولئك، الذين كانوا في المواجهة، وكانوا يملكون القوة، والخبرة، والخطة، والسلاح وغير ذلك!! ويتضاعف شعورهم بهذا الخطر بسبب فقدهم لأية ضمانة وحماية من الخطر الذي يتوقعونه، وهم لا يملكون شيئاً من الخبرة، أو الإمكانات، أو الإعداد والاستعداد، أو الخطط، أو المعلومات عما آلت إليه الأمور، فلا يرون لأنفسهم خلاصاً إلا بالنفور والفرار من مواقعهم، إلى مواضع أكثر أمناً، وهم لا يعرفونها بالتحديد، لأن الأمن أصبح خاضعاً لإرادة عدوهم، ولتحولات لم يعرفوا عنها شيئاً، فيتفرقون مع اضطراب وتشويش، ومن دون أن يكون لهم هدف محدد..
وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ:
ثم إن انفراط جمع العدو على النحو الذي ذكرناه آنفاً، وإن كان إنجازاً كبيراً وهاماً جداً، ولكنه يبقى غير حاسم. فقد يكون ثمة من يعيد لملمة القوات المنتشرة، وربما يضم إليها طائفة ممن شهدوا عن كثب ما جرى لهم، ويفهمهم أن الجيش قد يتعرض لنكسة، ولكن ذلك قد لا يفقده القدرة على إعادة تنظيم صفوفه، ثم الدخول في التجربة من جديد، على أساس استخلاص الدروس والعبر..
فالمطلوب هو: أن توجب الضربة التي تنزل بالعدو تشريده، بحيث يكون هذا التشريد قد حصل لهم بسبب شعورهم بالألم الحاد لما يرونه من حالهم.. مما يعني: أنه لا بد أن تظهر آثار تلك الضربة في مقاتلي العدو جراحاً، وذلاً، واندهاشاً، ورعباً.. ينعكس على من خلفهم فراراً ذليلاً، واندهاشاً ومعاناة ورعباً. وذلك من موجبات انقطاع آمالهم بأي نصر، وانصرافهم عن التفكير بأية حركة..
وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ:
والخزي: الهوان. وأصله ذل يستحيا منه. وغني عن البيان: أن الذي يرى هزيمة غيره، قد يتوّهم أنه لو كان مكانهم لم يجر له ما يجري لهم، لأنه يرى نفسه أصح تدبيراً، وأمضى عزماً منهم، وأن ما جرى لهم لعله كانت نتيجة خلل في خطتهم، أو فشل في عزيمتهم.
كما أن كل واحد من المنهزمين قد يلقي تبعة ما جرى له على غيره. وذلك يخفف من وقع ذل الهزيمة عليه، ويفتح له باباً للتفكير بأن يجرب حظه في مقارعة أهل الإيمان من جديد. ولكن هذا التفكير قد يتضاءل تأثيره حين يرى أن حجم ما جرى على المنهزمين من ذل وهوان، وخزي، لا يمكن تحمله لأحد من البشر، ولا يستطيع هو أن يرضاه لنفسه مهما كان الثمن.
وإذا تمثل نفسه بهذه الحال، لو حل الفشل فيه، فسيضطر إلى البحث عن ضحية يحملها تبعة الهزيمة، وسيجد أن ذلك لن ينفعه في تخفيف وقعها عليه، لأن النتيجة هي ذل يستحيا منه، ولن يكون في هذه الحال قادراً على مواجهة الناس ليقدم لهم عذره.. ولو تشجع وظهر لهم، فسوف يسقط نفس ظهوره هذا ما يعتذر به عن صلاحية التأثير، حين يكون سبباً في ازدرائه، وازدراء كل ما يصدر منه وعنه.
وهذه عقبة أخرى تعترض تفكيره بأي شيء يحمل معه احتمالات فشل آخر يؤدي إلى مثل هذه الحالة. وسوف يبحث عن المعذرات له سلفاً، وسينأى بنفسه عن أن يمر حتى في وهمه خيال معاودة الكرة.. فيكون خزيهم نفسه من موجبات قطع أطماع من بعدهم في تحقيق أي نصر، أو في الحصول على أية نتيجة.
والخلاصة:
إن الهزيمة في الحرب تنشأ عن الشعور بعدم جدوى القتال.. سوىَ تكبُّد المزيد من الخسائر.. فلا بد من العمل على تكوين هذا الشعور لدى الأعداء، من خلال الضربات التي توجه إليه، ثم توظيف تلك الضربات في المجال الإعلامي وغير ذلك..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج 4 ص 75 والبحار ج 34 ص 347 وشرح النهج للمعتزلي ج 19 ص 226.
(2) الآية 28 من سورة المائدة.
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد علي عباس الموسوي
د. سيد جاسم العلوي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشهيد مرتضى مطهري
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ترتيب السُّور من حيث تاريخ النزول
لماذا يجب التركيز على الآخرة في التربية؟
لماذا مقاومة الضغوط الاجتماعية أصعب مما يُتصور؟
سياسة القتال (2)
دقائق في القرآن هي روائع في التعبير (5)
(مرافئ شعريّة) أمسية شعريّة ختاميّة لنادي (صوت المجاز)
(التّدخين) عنوان الحلقة الجديدة من برنامج (قصّة اليوم) لسينما قروب
امتناع الرؤية البصريَّة وقوله تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
بمَ ينتصر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
(بحيرة القنادس) المجموعة القصصيّة التّاسعة للكاتب جواد المرهون