مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الحالة العامة في معسكر الأعداء (1)

«اللَّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَيَبِّسْ أَصْلَابَ رِجَالِهِمْ، وَاقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، لَا تَأْذَنْ لِسَمَائِهِمْ فِي قَطْرٍ، وَلَا لِأَرْضِهِمْ فِي نَبَاتٍ».. (من دعاء أهل الثغور للإمام زين العابدين عليه السلام).

 

اختلاف الممارسة تابع لاختلاف النظرة:

 

لقد أثبت الإسلام عمليًّا في حروبه الكثيرة التي خاضها النبي «صلى الله عليه وآله» وعلي «عليه السلام» التزامه بالرحمة الإنسانية، وبالقيم الأخلاقية.. ولكنه حين حورب من قبل أعداء القيم، والطغاة والجبارين لم يجد فيهم من يستشعر شيئاً من الرحمة في قلبه، أو من يؤمن بأي من القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية، أو يتعامل في حروبه على أساسها.. ولذلك جرت الأمور بما لا تشتهي السفن.. ومن جهة أخرى لا بد من الاعتراف بأن أهداف الحروب تختلف وتتفاوت..

 

إزدواجية المعايير:

 

فهناك من يحارب لأجل دفع الأعداء عن نفسه، وعن قيمه، وعن منجزاته.. وهذه هي حال المسلمين مع أعدائهم. وهناك من يحارب بهدف الإبادة والاستئصال، أو بهدف محو هوية الشعوب وتشويه قيمها، واقتلاع دين الله من جذوره، وهم أعداء الإيمان وأهله.. وهؤلاء، وإن كانوا قد وضعوا للحروب قوانين، ولكنها قوانين لا تعنيهم هم، وإنما تعني ضحاياهم، لأنهم إنما يجرونها على الضعفاء، لا على الأقوياء..

 

ومهما يكن من أمر، فإنهم قد وضعوا قوانين دولية تُحَرِّم استعمال بعض أنواع الأسلحة، ومنها: أسلحة الدمار الشامل، كالقنابل الذرية، والأسلحة الجرثومية، والكيماوية، والعنقودية، وما إلى ذلك.. ولكن نفس تلك الدول التي تدعو إلى عدم استعمال هذه الأسلحة في الحروب هي التي تتولى صناعتها وإنتاجها، وتحتفظ بمخزونات هائلة منها وتوزعها في السر وفي العلن.. وتبيع منها كميات هائلة بصورة أو بأخرى إلى الفئات المتحاربة، أو إلى هذه الدولة أو تلك، لأسباب مختلفة..

 

وقد استعملت بعض الدول الكبرى هذه الأسلحة في هيروشيما وناكازاكي.. واستعملت بعض أنواعها في الحرب ضد الجمهورية الإسلامية، وضد الأكراد.. كما أن الحروب الباردة بين الدول في الشرق والغرب تقوم على أساس الاستكثار من هذه الأسلحة بالذات، وتطويرها، ورفع مستوى القدرة على الاستفادة منها..

 

رغم أن صراع هذه الدول إنما هو على مكاسب مادية وأهداف تسلطية، لا أكثر من ذلك.. فلماذا يجعلون الحاكم في هذا الصراع الدنيوي المصلحي هو هذه الأسلحة الفتاكة بالذات.. فيتعرض شعب للإبادة والقضاء عليه، وعلى كل مفاهيمه وقيمه، ودينه وفكره بأبشع الصور كما نشهده الآن في كثير من بقاع العالم دونما رادع من ضمير أو وازع من وجدان. ولماذا يُحَرِّم امتلاك السلاح الرادع عن ارتكاب جرائم الإبادة على هذا الفريق، ولا يكون حراماً على أولئك الذين يستعملونه لأهداف دنيوية وتسلطية؟!.

 

وحين يمتلك عدوك هذا السلاح، أو ذاك، ويستعمله ضدك، أو يهددك باستعماله، فَلِم لا يجوز لك أنت أن تمتلك، ولو من دون أن تستعمل ما هو أقل منه خطورة، ولو لمجرد الردع عما هو أشر وأعظم.. من أجل ذلك نجد: أن هناك من يقول: إن أضعف الإيمان في هذه الأحوال هو القبول بجواز الاستفادة من هذه الأسلحة للمظلومين والمعتدى عليهم على قاعدة المقابلة بالمثل..

 

ولأجل ذلك قد يرى هذا البعض: أن هذا الدعاء قد جاء ليشير إلى بعض الوسائل التي يستخدمها أولئك الجبارون المجرمون.. ليلمح إلى أن الأعداء حين يفرضون عليك معركتهم، ويفرضون عليك أساليبها، حين لا تستطيع أن تردعهم عنها إلا إذا احترقوا هم بنارها..

 

فإذا قابلتهم بالمثل، لا من أجل التشفي والانتقام. بل من أجل ردعهم عن طغيانهم، وإخضاعهم لأحكام الضمير الإنساني.. فإنك لا تكون ظالماً، ولا بعد ذلك تجاوزاً للقوانين. إلا إذا أريد الكيل بمكيالين.. ولعل لمن يفكر بهذه الطريقة أن يقول: إن الشاهد الصريح على ما يقول هو: أن الإمام «عليه السلام» قد صرح في نفس دعائه هذا: بأن الهدف من الطلب من الله أن يعقم أرحام نساءهم، وأن يجعل الوباء في مياههم، والأدواء في طعامهم، ونحو ذلك: هو دفع غائلتهم عن النفس وعن الدين، وإخضاعهم لإرادة الله، لا لإرادة عبيده، لكي يقروا له بالوحدانية، ولتكون كلمة الله هي العليا.. بدلاً من أن تكون الأهواء هي التي تحكم وتسيطر على القرار، وتدفع إلى الدمار والبوار، واقتلاع الآثار..

 

ونتيجة ذلك هو: أن الإمام «عليه السلام» في هذا الدعاء لا يريد تشريع استعمال الأسلحة المحرمة دولياً بالمطلق، بل يريد إعلامنا: بأنه لا مانع من المقابلة بالمثل، حيث لا يمكن دفع العدو إلا بذلك.. ولكن مما لا شك فيه هو: أن الأصل هو الرحمة الإلهية للبشر، وأن يفرض أهل الإيمان قيمهم، وأساليبهم المشروعة على أعدائهم، وأن لا يرضوا لأنفسهم بالانجرار إلى أساليب لا أخلاقية، وغير منسجمة مع معاني الرحمة. فالإسلام يريد سعادة البشر، حتى لو كانوا أعداءه، ويسعى إلى فرض السلام عليهم واستصلاحهم، ولا يسعى إلى التنكيل بهم، على سبيل التشفي والانتقام..

 

وبعد ما تقدم نقول على سبيل الخلاصة: إن رد العدوان والظلم، ودفع العدو المحارب واجب عقلاً وشرعاً، شرط أن يكون ذلك بالوسائل التي أباح الشارع استعمالها. وإن احتاج هذا الردع إلى قتل المهاجمين مهما كثر عددهم، وقد قال تعالى:  (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)  (1)، ثم بين سبب طلبه هذا، فقال: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَ فَاجِراً كَفَّاراً) (2).

 

ومن الوسائل التي ورد النهي عن الاستفادة منها في الحرب إلقاء السم في أرض العدو (3). وقد أفتى جماعة من العلماء بمضمون هذه الرواية، كابن إدريس، والشيخ الطوسي في النهاية، وغيرهما وحكموا بتحريم ذلك، ومنع منه بعض آخر (4). وليس في الرواية ما يدل على جواز ذلك في صورة المقابلة بالمثل..

 

كما أن بعض من أفتى بالمنع لم يقل: إن الحرمة مقيدة بصورة احتمال إصابة السم لغير الأعداء في ساحة القتال. أي أنه لم يقل: إن نشر السم إنما يحرم في صورة ما لو أصاب غير المقاتلين سواء أكانوا ممن لا تعنيهم تلك الحرب ولا نزاع معهم، أو كانوا من الذين يؤازرون المعتدين ويشجعونهم على مواصلة القتال ضد أهل الحق.

 

ومع ملاحظة ذلك، نقول: إننا حين نقرأ ما ورد في هذا الدعاء الشريف من قوله: «اللَّهُمَّ عَقِّمْ رْحَامَ نِسَائِهِمْ ». وقوله: «لَا تَأْذَنْ لِسَمَائِهِمْ فِي قَطْرٍ، وَلَا لِأَرْضِهِمْ فِي نَبَاتٍ». وقوله: «اللَّهُمَّ وَامْزُجْ مِيَاهَهُمْ بِالْوَبَاءِ، وَأَطْعِمَتَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ» ونحو ذلك.. لا بد لنا من فهم ذلك كلّه، وفق الضوابط المقررة شرعاً..

 

فهل نقول: إنه «عليه السلام» لم يقصد بهذه الفقرات ما يشمل السم الذي استثنته الرواية، وحرمت الاستفادة منه في الحرب؟! أو نقول: إن المنع عنه خاص بصورة ما لو تعدى الضرر المقاتلين إلى غيرهم، خصوصاً إذا كانوا من عامة الناس الذين لا ناقة ولا جمل لهم في الحرب.. وربما كانوا ضدها؟!

 

أو نقول: إن ذلك ممنوع إلا في صورة استعمال العدو لهذه الوسائل الممنوعة، ولم يكن ردعه إلا بالمقابلة بالمثل فيها، فيجوز ذلك على قاعدة:  (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (5). أو نقول: إن الكلام جارٍ على سبيل التخويف للعدو، وتهديده لردعه عن ارتكاب هذه الحماقة. حتى لا يكون شعوره بالأمن مشجعاً له على ذلك، فالمطلوب هو إيهامه بأن المنع مشروط بامتناعه..

 

فإذا بادر هو إلى جعل الوباء في الماء وإلى معالجة التربة، بحيث لا تعود صالحة للإنبات، وإلى بث ما يوجب العقم، ونحو ذلك، فعليه أن يتوقع الرد بالمثل، صاعاً بصاع، وذراعاً بذراع. والبادئ أظلم.. أو نقول: إنه «عليه السلا » أراد أن يطلب من الله سبحانه أن يحوِّل هذه النعم التي يتقوى بها الأعداء على أهل الحق، إلى وسائل لكبح جماحهم، وموانع تمنعهم من البغي والعدوان، فبدل أن تكون هذه النعم غذاء ولذة وراحة لأولئك الطغاة المجرمين، يكون فيها لهم الضرر والبلاء، والتعب والعناء، وبدل أن تكون دواءً وشفاءً تصبح مرضاً ودواءً.. وبدل أن تكون مصدر قوة، وسبب اندفاع تصير من موجبات الوهن لهم، والضعف والضياع..

 

وفي جميع الأحوال نعود فنؤكد على أننا لا نشك في أن الإمام «عليه السلام» لا يدعو إلا بما يجوز الدعاء به، وبما لا مانع من وقوعه، وإيقاعه بالمدعو عليهم، وبأي نحو كان.. ولو بإيجاد وسائله الطبيعية، أو غير الطبيعية، ومنها التسبيب بواسطة الدعاء للتدخل الإلهي، لكي يشغلهم عن العدوان بأمثال هذه الأمور، ويحول نعمه عليهم إلى نقم تمنعهم من مواصلة البغي والعدوان، ومن الإمعان في الإجرام والطغيان. فلذلك قال «عليه السلام»: اللَّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الآية 26 من سورة نوح.

(2) الآية 27 من سورة نوح.

(3) راجع: الكافي ج 5 ص 28 والأشعثيات ص 80 وجامع أحاديث الشيعة ج 13 ص 153 وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج 6 ص 143 وتذكرة الفقهاء (ط حجرية) ج 1 ص 402 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج 15 ص 62 و (ط دار الإسلامية) ج 11 ص 46 ومستدرك الوسائل ج 11 ص 41 و (ط حجرية) ج 2 ص 249 وجواهر الكلام ج 21 ص 67 والبحار ج 19 ص 177.

(4) راجع مصادر ذلك في كتابنا: الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل ص 62.

(5) الآية 194 من سورة البقرة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد