مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيدة بنت الهدى
عن الكاتب :
ولدت الشهيدة آمنة بنت آية الله السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عام 1356هــ 1937م في مدينة الكاظمية، عرفت بالذكاء الوقاد، وسرعة الحفظ، وقد لعبت دوراً فعالاً وملموساً في هداية الفتيات، مارست عملها التبليغي عبر إلقاء المحاضرات والكتابة في مجلة "الأضواء" ثم مارست كتابة القصة لمخاطبة الجيل الناشيء بأسلوب قصصي بسيط، من مؤلفاتها: الفضيلة تنتصر، ليتني كنت أعلم، امرأتان ورجل، صراع مع واقع الحياة، لقاء في المستشفى، الخالة الضائعة، الباحثة عن الحقيقة ،كلمة ودعوة، ذكريات على تلال مكة، بطولة المرأة المسلمة، المرأة مع النبي (ص) . استشهدت مع أخيها السيد محمد باقر الصدر عام 1980.

ذكريات على تلال مكة (9)

إذ إن مشتريات الأيام الثلاث كانت قد انتثرت بين جوانبها، ومشتريات تلك الساعات الأخيرة كانت مكدسة تنتظر الشد.. وعلى كل حال، فما أن انتهينا من الصلاة والغذاء، حتى نادى المنادي بنا أن هيا نحو السيارات للعودة إلى مكة.. وسارت بنا السيارة ونحن نودع في أبصارنا وأفكارنا هذه المعالم الحبيبة.. فكم هو من الصعوبة بمكان أن ينظر الإنسان إلى ما يحب نظرة وداع قد لا يكون من ورائها لقاء.. هذا الشعور هو أقسى ما يحسه المفارق فيود لو تزود معه بأكثر مقدار ممكن من الذكريات..

 

وطلبنا من الله تبارك وتعالى أن يرزقنا العودة ثانيًا.. ثم وصلنا إلى مكة حيث آوينا إلى غرفتنا في العمارة التي كنا ننزل فيها قبل الخروج إلى عرفات.. وغرفتنا تلك صغيرة.. ونحن كنا بمجموعتنا سبعة، وقد عرض علينا المتعهد منذ البداية أن نتنازل عن اثنتين منا أو ثلاث يلتحقن في غرفة ثانية، ولكنني وقد عز عليّ التفريق والتميز وصعب عليّ أن افترق مع من صحبتهن منذ بداية الرحلة، رفضت ذلك وآثرت ضيق المكان مع الجماعة على سعته مع الفرقة.. ولهذا فقد كنت قد أخرجت أمتعتي إلى الفسحة التي تجمع باقي الغرف لكي أوفر شيئًا من المكان..

 

وكنت قد صادفت منذ ساعة ورودنا مكة قبل سفرنا إلى عرفات، بعض المتاعب من قبل إهمال بعض رجال القافلة. إذ كان الواحد منهم يصعد في طلب زوجته أو أمه أو أخته، ويدخل الشقة بدون استئذان ولا يهمه أن تكون هناك امرأة مارّة، أو أن يكون هناك باب من أبواب الغرف مفتوحًا، ولكنني وجدت أن هذا أمر لا يستحب السكوت عليه، فطلبت من المتعهد أن يمنع ذلك، وخولته أن يوجه الطلب باسمنا إذا كان يخشى من التأثرات.. ولكنه استجاب للأمر برحابة صدر ونادى في طابق الرجال قائلًا: لا يصح لرجل أن يجتاز باب شقة النساء في الطابق الثاني.. واستجاب الرجال لذلك والحمد لله، فكان واحدهم يقف وراء باب الشقة، ثم يطرقها مناديًا على من يريد من السيدات..

 

 كان هذا هو وضع غرفتنا في مكة.. وكانت الشقة تحتوي على حمام واحد ودورتين للمياه.. وليت هذا الحمام لم يكن موجوداً لأنه أصبح مصدر متاعب للجميع، وطالما نجمت بسببه الكثير من الخلافات والنزاعات.. أما ماء الشرب فقد كان مالحاً جدًّا، وظني أن المتعهد كان قد عجز عن توفير ماء للشرب لكثرة ما تستهلك النساء منه لغسيل الملابس والأجسام، ولهذا كنا نتجرع مرارة الماء وملوحته بصمت.. ما دامت تلك المرارة بسبب من حلاوة العبادة... وأصبح علينا صباح اليوم الثالث عشر ونحن في مكة، ومكة بلدة تضفي على من يؤمها جوًّا من الانطلاق الروحي والانشراح النفسي، فهي بجميع معالمها محببة إلى النفس، قريبة الى الروح وعلى القرب منها غار حراء.. وهو على قمة جبل عظيم هائل الارتفاع، وإذا أردنا أن نعين موقعه في ذلك الجبل وجدناه ينحدر عن القمة من الجانب الثاني نازلًا من الناحية الثانية لكي نجد فتحة الغار الصغير.. هذا الغار الذي انطلقت من بين جدرانه أقدس رسالة عرفها التاريخ، فإن أحجاره هي تلك الأحجار التي استقبلت ميلاد شريعتنا الخالدة.. حيث دخل إليها محمد بن عبد الله (ص) لكي يعتزل الناس وينصرف إلى عبادة الله الواحد القهار، ثم خرج عنها وهو حامل لرسالة السماء... هذه الساعات التي احتضنت محمدًا داخل الغار، كانت هي الحدّ الفاصل بين الظلمات والنور، بين الحياة والدمار، فما أعظمها من ساعات كانت الأرض خلالها قد تفتحت لتستقبل رسالة السماء، ويالها من خطوات تلك التي خطاها محمد بن عبد الله (ص) وهو خارج من هذا الغار، ليطل على العالم برسالته مضيئًا في معانيها مشاعل نور، وواضعًا من مفاهيمها سفن نجاة.. نعم إنه غار حراء حيث شقت في الجبل المؤدي إليه بعض خطوط ملتوية بين صخور وأحجار، يتمكن الصاعد أن يجد آثارها كلما صعد، وحيث يطل الصاعد إليه على مكة بجميع مبانيها ومعالمها، فيقف خاشعًا أمام تصوره لحقيقته الشامخة.. حقيقة أن يكون الإسلام قد انطلق من بين هذه الأحجار الصلبة الجرداء، ليهدد كسرى في إيوانه، وهرقل في عزته وسلطانه، كما وأن الزائر في مكة يمكن أن يزور مقابر قريش حيث رقدت أم المؤمنين خديجة وفاطمة بنت أسد أم الإمام أمير المؤمنين وأجداد النبي وأعمامه.. ووقفنا عند قبر خديجة الذي لا يكاد يعرف لولا بعض أحجار صغيرة فوقه.. وسرح بنا الفكر إلى حيث كانت السيدة خديجة تحتضن الرسالة وتتبناها، كما احتضنت صاحب الرسالة وتبنته من قبل.. نعم السيدة خديجة هذه التي يعلمنا تاريخها أن للمرأة لو أرادت أن تكون ركيزة في وجود الأمم وبانية من بناتها.

 

ووقفنا على قبرها نتساءل: أين نحن من خديجة؟ ثم لنتساءل أيضًا وبعد أن نعرف مدى البون الشاسع الذي يفصلنا عنها،  أترانا مسلمات حقًّا؟ وما هي علامات إسلامنا يا ترى؟ إن الجانب الإيجابي وحده لا يكفي لأن يوجد من الإنسان إنسانًا مسلمًا حقًّا، لأن جميع العبادات المفروضة هي مما ينفع الناس ويحقق لهم المصالح الخاصة والعامة. أما الجانب الذي يحقق للفرد إسلامه ويخوله أن ينتسب إلى الإسلام مانحًا إياه أحقية ذلك الانتساب، هو الجانب السلبي من جوانب العبادة.. والجانب السلبي هو ترك ما نهانا الله عنه واجتناب ما أمرنا الله باجتنابه.. فهل نحن مسلمات حقًّا؟ وكان علينا أن نبقى في مكة مدة ثلاثة أيام، ثم نسافر بعدها متوجهين نحو المدينة المنورة... وفي اليوم المقرر للسفر ذهبنا إلى الحرم الشريف لنطوف طواف الوداع.

 

وكان المطر ينهمر بغزارة فيغسل جدران الكعبة، ويضفي على الموقف بشكل عام هيبة جديدة من نوع فريد، وكان الوداع قاسيًا جدًّا لولا بصيص الأمل في عودة اللقاء وقديـمًا قيل: «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل».

 

وعدنا من البيت الحرام ونحن نلتفت وراءنا لنلقي آخر نظرة على ما نحب، وكأننا مع كل لفتة كنا نجدد عهدًا جديدًا في الولاء، ونؤكد وعدًا مسبقًا في وحدانية العبودية وخلوص الطاعة.. كانت نظراتنا تلك حكاية عن قلوب عاشت سعادة الروح في القرب وها هي تسير نحو مرارة الشوق في البعد.. حكاية أرواح وجدت راحتها حيث تسير منطلقة نحو مناها السحيق..

 

نعم لقد كانت تلك النظرات حكاية عسى أن يحققها الله لقلوب أملتها في صدق وأرواح أوحتها في إخلاص.. وعدنا إلى النزل حيث وجدناه صاخبًا ثائرًا يشوبه جو من التوتر، وتنطلق من إحدى زواياه ثورة عارمة ونقمة مدمرة، فراعنا الموقف وتساءلنا عن السبب؟ ثم عرفنا أن بعض الحجاج كانوا قد اقترحوا على المتعهد أن يؤخر لهم نقلًا خاصًّا بهم نحو المدينة وذلك عن طريق سيارة صغيرة مستقلة لكي يتجنبوا مضايقات المطار، ويبدو أن هناك بعض المعاكسات غير المقصودة قد حالت بينهم وبين مواصلة السير، وتسبب ذلك في ضياع جوازات السفر العائدة إليهم! وجلسنا ننتظر انتهاء هذا الموقف المسرحي، ولكن أين جلسنا يا ترى؟

 

كان الفراش قد تجمع في ساحة الشقة مقدمة لنقله، والأمتعة قد رميت فوق بعضها استعدادًا لتحميلها في السيارة.. فجلسنا على أطراف سجاجيد!! وأمرنا لله الواحد القهار.. بعد أن عرفنا أننا لا يمكن أن نخرج من مكة إلا بعد الحصول على الجوازات الضائعة!! وكان لهذا الصخب واللغط أسوأ الأثر في تلوين انطلاقتنا الروحية التي عشناها في عيون مودعة دامعة وقلوب مشفقة خائفة.. فقد بدأ الماء يسري إلينا ونحن نجلس وسط ساحة حرب نبالها الكلمات وقذائفها الدعوات.. وكلما حاولنا رد الغيبة أو تلطيف الموقف، زاد الطين بلة حتى كاد أن يصيبنا شيء من ذلك الرشاش!!

 

فسكتنا وأمرنا لله، ولكن وضعنا النفسي كان قد تدهور جدًّا، وبدأت أعصابنا تنذر بالإرهاق. وأخيرًا وبعد ساعات طوال، سمعنا بنبأ الحصول على الجوازات المفقودة، فألف الحمد لله رب العالمين.. وانطلقنا من الشقة خفافًا كأننا طيور طال بها السجن في قفص من حديد، وذهبنا إلى حيث كانت السيارات.. فصعدنا إلى أماكننا فيها.. وسارت بنا على اسم الله وبركاته.. وبذلك غادرنا مكة تلك البقعة الحبيبة.. ولكن شتان بين دخولنا إليها ملبيات وبين خروجنا عنها مرهقات متعبات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد