مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

رسالة عاشوراء الكبرى

يفتح التأمّل في واقعة عاشوراء أبوابًا عديدة تطلّ على قضايا الإنسانيّة في جميع أحوالها. ففي هذه الواقعة الكبرى، أخرج الإنسان كلّ ما فيه من خير وشر، فكان معسكر الإمام الحسين مظهر الخير المطلق في الإنسان، وكان معسكر يزيد بن معاوية مظهر الشّرّ المطلق فيه.

شاء الله تعالى أن يباهي ملائكته بعظمة الإنسانيّة وسموّها واستحقاقها لمقام الخلافة العظمى، وأراد إبليس أن يثبت انحطاط الإنسان وبشاعته وفساده لكي يؤكد مقولة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}!

ومنذ ذلك الزمن والصّراع مستمرّ بين النّموذجين:

نموذج يستلهم من الحسين وأصحابه، فيقدّم أروع صور الإنسانية في بطولتها.

ونموذج يستمرّ على نهج يزيد، فيقدّم أبشع صور الشّرّ والانحطاط.

وإذا أردنا لعاشوراء أن تنتصر، ينبغي أن نعمل على أن ينتصر الخير في الإنسان، وذلك إنّما يتحقّق حين تصبح أمّة النّبيّ المصطفى خير أمّة أُخرجت للناس، تستلهم من نهضة الحسين وشهادته لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

إنّ التأمّل في واقع الأكثريّة السّاحقة من هذه الأمّة اليوم يبيّن أنّ هذه الأمّة الأفضل لم تتحقّق بعد؛ ولأجل ذلك فما زال أمام عاشوراء الكثير الكثير ممّا تقوله.

 

وأقوى الأقوال في كربلاء هو أنّ ما حدث فيها قبل حوالي أربعة عشر قرنًا من الزمن، كان يكشف عن علاقة هذه الأمّة بنبيّها الأكرم صلى الله عليه وآله.. هذا النّبيّ الذي رأته مؤسّسها وعزّها وسبب أمجادها وازدهارها وما وصلت إليه، كقوّة عالمية أسقطت إمبراطوريّات زمانها وأرعبتها وزلزلت عروشها.

لقد كان الأذان يصدح كلّ يوم خمس مرّات وأكثر باسم النّبيّ المصطفى، في كلّ بقعة من بقاع المسلمين الممتدّة نحو الهند شرقًا ونحو سواحل المحيط الأطلسيّ غربًا، فيتذكّر المسلمون أنّ هويّتهم وشأنهم قد رسمه هذا الإنسان العظيم؛ فهم أبناؤه وصنيعته، وأيّ شيء حققوه فقد كان بفضله.

لم تقدم السلطات، التي تعاقبت على حكم المسلمين من بعد هذا النّبيّ العظيم، على التّنكّر لهذه الحقيقة؛ بل أدركت أنّ بقاءها وقدرتها مرهونة بالحفاظ على اسمه وسمعته، وأنّها كلّما تمسكت به ازدادت قوّة وشرعيّة.

وفي ذروة هذا الظّهور، حدثت عاشوراء وصُدم العالم المسلم كلّه بنبأ قتل سبط النّبيّ وحفيده، الذي كان يحبّه أشدّ الحبّ ويعلن على الملأ انتماءه له، وأنّه قرّة عينه، وأنّه سيّد شباب أهل الجنّة.

وقفت الأمة الإسلاميّة مذهولة أمام هذا النّبأ العظيم، وبدأت تعيد حساباتها تجاه السّلطة المسؤولة عن هذه الجريمة النّكراء، والفاجعة التي لم يشهد المسلمون مثلها منذ صدر الإسلام.

 

وهنا احتدم الصّراع بين طائفتين أساسيّتين كانتا في صراعٍ دائم منذ أن بدأ مجد الإسلام والنّبيّ يعلو:

الطّائفة التي آمنت حقًّا في الإسلام والرّسالة

والطّائفة التي وجدت في إخفاء الكفر وادّعاء الإسلام وسيلةً مهمّة لتحقيق المصالح الدنيويّة المنحطّة

وبينهما جمّ غفير من السّذّج والمتفرّجين والمنتظرين الذين سيميلون دومًا إلى جهة الحاكم المتقدّر.

كان على الطّائفة الأولى أن تفسّر حقيقة قتل سبط النّبيّ، حبيب الأمّة، بما يتناسب مع الوجدان الإنسانيّ السّليم، فتكشف الأقنعة المتراكمة عن وجه النّفاق الذي تغلغل في جميع مفاصل المجتمع المسلم.

وكان على الطّائفة الثّانية أن تفسّر ما جرى على أنّه خروج عن الإسلام والنّبيّ والقرآن.

لكنّ الأمر المهم قد حصل، فقد أخذ الإمام الحسين عليه السلام الصّراع إلى حيث ينبغي أن يكون، إلى النّبيّ المصطفى، إلى جوهر الدّين والرّسالة، إلى معدن القرآن؛ وحفّز المسلمين على التّفكير بعمق بشأن حبّهم وانتمائهم لرسول الله الذي صنع لهم كلّ هذا المجد.

فهل يقتل محبّ الرّسول حفيده؟

وهل يسبي محبّ الرّسول حرمه؟

وهل يرتكب محبّ النّبيّ أبشع الجرائم بحقّ آله؟

 

لقد كان هذا التّفكير كفيلًا بأن يوقظ المسلمين ويكشف لهم القناع عن المنافقين الذين تسلّطوا على مقدّرات المسلمين وأسروا الإسلام، يعملون فيه بالهوى ويطلبون به الدّنيا.

وأينما استيقظ هذا التّفكّر وتفاعل مع واقعة عاشوراء، أدّى إلى اليقظة والنّهوض والنّدامة والتّوبة؛ كما أدّى إلى المسارعة في الإجهاز على حكومة بني أميّة، والقضاء على مجدهم بغير رجعة.

وقد علم طواغيت العصور اللّاحقة أنّ الّسبيل الوحيد للقضاء على إنجازات عاشوراء هذه، يكمن في تحريف هذه الواقعة من خلال القضاء على القضيّة المحوريّة فيها، وذلك إنّما يتمّ من خلال الفصل بين الحسين وجدّه النّبيّ الرّسول المصطفى؛ فقامت سلطات النّفاق على مدى العصور بأوسع وأعمق عمليّات الفصل التي طالت ذهنيّة المسلمين بمختلف مذاهبهم ومشاربهم، ولم تستثنِ منهم أحدًا.

وبالرّغم من وضوح الرّابطة النّسبيّة بين الحسين وجدّه الأمين، وبالرّغم من استحالة إحداث فصل تامّ بينهما، إلا أنّه أينما وُجدت هذه السّلطات كانت تسعى جاهدةً لجعل هذه الرّابطة في أدنى مراتبها. وأدنى المراتب هي التي تحصر العلاقة في إطار النّسب والرّابطة العاطفيّة التي تتشكّل بصورة طبيعيّة بين الجدّ وحفيده.

وهكذا سيطر على المسلمين في كلّ بقاع العالم كراهيّة شديدة لقَتَلة الحسين بن الزّهراء لأنّهم قتلوا حفيد النّبيّ الذي يحبّونه، من دون أن يعني ذلك أيّ شيء إضافيّ. فقد تمّ إفراغ هذه العلاقة من أهمّ ما فيها ومن أعظم ما تمثّله، وهي أنّ الحسين قبل أن يكون الحفيد، كان استمرارًا لنهج النّبيّ ورسالته ومشروعه وقيمه وإنسانيّته ومقامه ومنزلته المعنويّة.

 

وبسبب عمليّة التّفريغ هذه، فقدت عاشوراء دورها الاستنهاضيّ وضمرت أهدافها؛ حتى وصل الأمر إلى حدّ تقبّل التّفاسير التي قدمها وعّاظ السّلاطين بأنّ القاتل في عاشوراء والمقتول كانا يجتهدان، فاصأب أحدهما وأخطأ الآخر. وللمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ واحد.

إن أُريد لعاشوراء أن تكون كما أراد الإمام الحسين، بل كما أراد رسول الله، نهضة تجتثّ أصول الكفر والنّفاق من داخل الأمّة الإسلاميّة، فينبغي أن يكون الأصل في رسالتها وبيانها أنّها جريمة بحقّ النّبيّ الأكرم بما يمثّله هذا النّبيّ من رسالة الله.

في عاشوراء تلقّت هذه الرّسالة أقوى ضربة منذ قيامها، وتتالت هذه الضّربات فيما بعد على أيدي الجاهلين والمحبّين الذين غفلوا عن هذا الأصل أو عجزوا عن تقديم هذا الرّبط الإسلاميّ.

فالكثير من المسلمين اليوم تمرّ عليهم ذكرى عاشوراء من دون أن يتفكّروا فيها ولو للحظة، وبعض المسلمين يكتفون بالبكاء والحزن على الإمام الحسين، مندفعين بمشاعر الفاجعة التي تُستحضر فيها خسائر الوالد لطفله الرّضيع أو ولده الأكبر أو أخيه أو أخته، فترى هناك من يضخّ هذه المشاعر من دون أيّ عمق، فتختفي معها الأهداف الكبرى والمعاني الأساسيّة.

خرّيجو هذه الأجواء المميّزون قد ينتفضون حين تتعرّض عوائلهم ونساؤهم لخطر هجوم الأعداء، وهم مستعدّون للمواجهة إلى حدّ بذل النّفوس؛ أمّا خرّيجو هذه الأجواء الذين لم يدركوا سوى الحزن والمأساة، فقد يقتلهم الحزن إلى الدّرجة التي تجعلهم ينادون إخوانهم متوسّلين أن لا يخرجوا لمبارزة المعتدين خشية أن تتكرّر كربلاء فيهم!

فقط أولئك الذين كانت عاشوراء في فكرهم ووجدانهم مواجهة بين الإيمان والنفاق، مواجهة بين الرّسول وأعدائه، مواجهة بين الرّسالة ومعارضيها، هم الذين يستفيدون من نهضة الحسين أبي الأحرار ليكونوا حاضرين في ساحة الصّراع الكبرى اليوم؛ هذا الصّراع الذي يتطلّب الكثير من الفكر والعقل والقليل من العاطفة والحماس؛ لا لأنّ عاشوراء لا تشعل القلوب وتفجّر المشاعر، بل لأنّ قوّة الشّعور فيها هي من الدّرجة بمكان، بحيث إنّ القليل القليل منه مع الوعي والبصيرة كفيل بتغيير العالم كلّه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد