مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبدالشّهيد الثّور
عن الكاتب :
عبدالشّهيد الثّور، كاتب وشاعر وخطّاط ورادود، ولد في العام 1965 بقرية السّنابس في البحرين، انجذب باكرًا إلى الخطّ العربيّ وعمل على تحصيل أسرار جماليّاته، بدأت مسيرته مع المواكب الحسينيّة مع نهاية العام 1979، فكوّن لونًا خاصًّا به في أداء العزاء الحسينيّ، يعدّ من الرّعيل الأوّل لرواديد البحرين الذين قادوا حركة التّجديد في العزاء في المنطقة، التي تزامنت مع انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران، وهو من القلائل الذين قاموا بتوثيق تجاربهم في المواكب الحسينيّة، له كرّاس بعنوان: (تجارب موكبيّة في سيرة رادود)، وكتاب في السيرة الذاتية بعنوان (أيام في ذاكرة الوطن)، ورواية بعنوان: (قاهر الموت) توثّق للأجواء الشّعائريّة العاشورائيّة بلغة شعريّة، وسوى ذلك من المؤلّفات. ينظم الشّعر بغزارة، وصدر له ديوان بعنوان (الدّموع الجارية)، وله العديد من المقالات المنشورة في المجلّات والمواقع الإلكترونية.

كيف نصنع رادودًا؟!

حتى عندما كنا صغارًا، كنا نتطلع لمحاكاة كل مايصدر عن الرادود في قريتنا، كنّا نُكبره ونحسده أحيانا، ونرى فيه مخلوقًا ينبغي أن يكون مميزًا في كل ما يصدر عنه، ربما كان هذا الرادود رادود الهوسات، كنّا نلاحق حركاته ونحاول تقليدها منفردين بأنفسنا، منذ تلك اللحظة كان الرادود محطة تقصدها أحلامنا ورغباتنا.

أتكلّم عن حقبة تبعد عنا بأربعة عقود تقريبًا أو أكثر، حيث لم يكن هناك هذا الزخم المتدفق من المواكب والرواديد ومنصات الإعلام المتنوعة، إذن منذ البداية كانت هناك العدسات مسلطات على الرادود بشكل خاص دون باقي مفردات الموكب، تلك عدسات القلوب لا عدسات الكاميرات.

 

الآن وقد أصبح الموكب هو الأكثر استقطابًا للمشاعر المساهمة في مواساة أهل البيت، أخذ الموكب المساحة الأكبر من الاهتمام دون المنبر، وإن كانت هذه الحقيقة تحتاج لتمحيص ومتابعة، إلا أنها هي الحقيقة التي لا مفر منها.

هكذا وتبعًا لهذا البروز كان الرادود هو المحطة الأولى في دائرة الاهتمام، يتصدر الرادود كل التفاصيل من المناسبة والمكان والزمان وغيرها، ولأن الرادود يمثل دورًا حساسًا ومؤثرًا في الموكب ثم في المجتمع، كان من الواجب الاعتناء بإبراز النموذج الأفضل، ليتخذ دوره المطلوب في تأدية الرسالة الملقاة على عاتقه.

وإذا ما أردنا أن نصنع رادودًا نموذجيًّا، كان علينا الاعتناء بكل ما يجعله في مراتب الكمال الأولى، ومتحليًا بالمواصفات التامة بقدر الإمكان، لذا ومن منطلق تجربة طويلة في أروقة المآتم ودهاليز المواكب وتفاصيلها، رأيت أن أضع خارطة مبسطة نستهدي بها في سبيل الخروج برادود متكامل الإمكانيات.

بعد التحصل على كل المقدمات اللازمة للشروع في سلك الرادودية من التزام ديني وعقائدي، وبعد التأكد من حقيقة العزم والرغبة في ارتداء هذا الدور التكليفي، وبعد اليقين أنها ليست رغبة آنية، نأتي إلى فهرسة أولية لخطوات لابد من خطوها في هذا الجانب.  

 

أولًا: الاطلاع على تجارب الآخرين استماعًا وتشخيصًا، ومن الجميل لو ضم لها التجارب القرآنية والمنبرية والإنشادية في بعدها الصوتي، ففي الاطلاع عليها إثراء للذائقة اللّحنية والصوتية، واكتنازًا متراكمًا من المسموع الذي سيتوارى في العقل الباطن، وسيشكل مادة أولية لكل ما سيبرز من اجتهاد لحني في مستقبل أيامه اللاحقة، ومن الجميل أيضًا لو اتبع السماع بذائقة نقديه بينه وبين نفسه، ليضع تصوره حول كل ما يسمعه، ويدرك موقع القوة من موقع الضعف فيما يرد على سمعه، ولا يستهينن بما لكثرة السّماع من شحذ لمقدرته اللحنية، والارتقاء بها إلى مستويات متقدمة من الكفاءة، ولو تمكن من التحصّل على لقاءات مباشرة مع أصحاب التجارب، فسيكون أثرها عليه واضحًا، وسيكون لها فضل في اختصار الطريق مستعينًا بفوائد مجربة.

 

ثانيًا: لابد للرادود في مراحله الأولى من أن يكون مقلدًا لنموذج ما ومتأثرًا به ولو بنسبة ضئيلة، لكن عليه محاولة التخلص من عباءة الاتباع في الأسلوب، إلى مرحلة الأسلوب المنفرد والنَفَس اللحني المستقل، وهذا لا يتأتى بسهولة، ولا يكون إلا بعد جهد وضنى ومكابدة، النسخة المتكررة تكون مهملة فليكن نسخة متفردة، استقلالية الأسلوب تجعله منطلقًا محلقًا بإمكانياته الذاتية غير منغلق في إطار نمط الآخرين.  

 

ثالثًا: هناك ثوابت لابد من الوقوف عندها وعدم تجاوزها، بينما هناك متغيرات يمكنه أن يعمل على تحريكها، فيمكنه أن يجدد مع محافظته على الأصالة، وهذه مسألة شائكة تحتاج إلى دقة وحذر في التشخيص، فليست كل الأمور هي من الأصالة، إنما كلما تبصر الرادود في محيطه وألّم بتفاصيل ما يدور حوله بعين اليقين مصحوبة بمبادرة المشورة، تمكن من النفاذ إلى التجديد دون التجاوز على الثوابت، مثلًا الأوزان وعددها مع اختلافنا على عددها المبالغ فيه، فهي ليست من الثوابت مثل الوقار والحزن والرسالة والإخلاص والحماس دون الخروج إلى الخفة وما لا يليق على مستوى اللحن، أمّا الطريقة والطريق والأسلوب والقوالب فهي من المتغيرات، كما هي الأوزان، وإن كان لابد من اختيارها بعناية.   

 

رابعًا: كلما كان الرادود حذرًا في خطواته كان موفقًا في طريقه، لا يخلو الموكب من موجات غير مدروسة بين فترة وأخرى، فإذا انزلق الرادود فيها أخذته في لججها إلى أمر لا تحمد عقباه، فبعض الموجات ضعيفة، إلا أنها تتقوى بالرادود في ترسيخ هيمنتها، فعندما يكون الرادود غافلًا عن حقيقة بعض الممارسا،ت قد ينخدع بالظاهر، فيُساق إلى دعم دعوة هشة تستهلك من قوة الموكب الكثير، مثل موجة الآهات التي ظهرت في الآونة الأخيرة في غير البحرين، فإنك ترى الرادود يذهب في آهة طويلة تستمر لمدة لطمات كثيرة لمجرد الترنم، ويتبعه كثير من الرواديد سباقًا ومحاكاة بآهات مختلفة، وهذا يضيّع الرسالة ويأخذ المستمع إلى تطلب النغم. 

 

خامسًا: من الضروري جدًّا تفعيل آلية النقد الذاتي لدى الرادود نفسه، ليس عليه أن ينتظر الآخرين ليضعوا أصابعهم على مواطن الضعف لديه، كلما كان مبادرًا  لطلب التوجيه والتصحيح من المتابعين والملمين بمواضع الخلل، كان أقرب إلى تلمس الطريق الصحيح، على أن لا يكون طلب الرأي من الآخرين بهدف المدح والإطراء. إن الإطراء يضل من يصغي لصداه ويعميه عن رؤية الحقيقة، بالعودة للنفس يتمكن الرادود بينه وبين نفسه من تصيّد مواقع الضعف في أدائه على كل المستويات من السلوك إلى الإعداد والأداء وما بعد ذلك من مراحل.

 

سادسًا: ملكة التطلع إلى الابداع ملكة تنقل صاحبها إلى مراتب متقدمة ومتفوقة، نُسخ الرواديد في عالم الموكب كثيرة، وإنما يميّز رادود عن آخر بعد الجوانب السلوكية والمعرفية، هو جانب التميز والتفوق في تقديم العمل المتقن، لا ننكر أن العمل في الموكب مرتبط بالنية والإخلاص، إلا أنه ما أحلى النية الحسنة المخلصة حين يصاحبها عمل متقن في إعداده وأدائه وإبرازه.

 

سابعًا: ليس على الرادود استهلاك نفسه في الجانب الفني فقط، مطلوب منه جهد أكثر من الآخرين في تحصيل المعارف كلما أمكن، سيما في المجالات المتعلقة بالحقول المحيطة بالقصيدة واللحن والمعارف الإسلامية، ومن الطبيعي أن يكون لهذه المجالات دور في صقل تجربته ومهارته والتقدم بها للأمام، المواكب ترتقي بالصوت الواعي المتمترس بالمعرفة.  

 

ثامنًا: المراقبة الشخصية الدائمة، كثيرًا ما ينغمس الرادود في دوره غافلًا عن مراقبة نفسه وهو تحت الأضواء في كل تحركاته، فما هو مقبول من أي أحد قد لا يليق به، وما يصدر عنه يشكل قدوة لكثيرين، هو يشكل شخصية توجيه لجيل واسع من الشباب، لذا كلما اقترب من السمو في السلوك والحركة والممارسة والمظهر، كان أحق بنيل الثناء الجميل، حتى الألفاظ ينبغي أن يدقق فيها حتى وإن كانت في حالات المزاح فهي مرصودة وتحت المجهر.  

 

تاسعًا: الاستعداد لصنوف الابتلاءات، بحجم ما يرتقي الرادود في سلّم البروز، تتالى عليه الابتلاءات بصنوفها، فحينًا يراوده العجب ويزين له أعماله ويضعها في خانة الأساطير،  وتارة يتناوشه المعجبون من أطرافه مدحًا وتفخيمًا فينتشي ببالون الغرور، ومرة يُبتلى بالحاسدين والكائدين يتربصون به، وهكذا يرى أمر الابتلاءات غير منته وهي كثيرة لا عد لها ولا حصر، وهي أين ما وجدت ضعفًا فيه تمكنت منه وراحت تهشم أعماله وتحولها هباءً منثورًا، هي النفس إذن عليه أن يوطنها لتجاوز الابتلاءات بعبور ناجح دون خسران.

 

بكل تلك النقاط الفائتة نكون قد وضعنا فهرسًا أوليًّا مبسطًا لمتطلبات دور الرادود، الحامل لثقل الرسالة الموكبية، وان كانت المحاور السالفة موضع نقاش وأخذ ورد في بعض دقائقها، لكن لابد من الإشارة إلى أنها قد لا تكون متحققة على أرض الواقع بالنسبة المرجوة، وذلك لخلل في عملية تهيئة الرادود لتسلم دوره الموكبي، ولكن يمكننا أن نتدارك الخلل بمعالجته في المراحل المتقدمة قضاء وتصحيحًا.  

كل هذا الطرح قد لا يمكّننا من الوصول إلى رادود نموذجي بالنسبة العالية، وما هو موجود لدينا ولله الحمد من النماذج المشرفة كثيرة،  ولكن لا نزال في شتات في آلية تأهيل الرادود للموكب، لذا أقترح عمل معهد تأهيل تحت مظلة علمائية يتم فيه إعطاء برنامج تعليمي متكامل من العقائد والفقه الموكبي والمقامات الصوتية وعلم العربية بفروعه والعروض والتاريخ وكل ما يتعلق بالجانب الرادودي وما ينمي قدرته الشخصية والسلوكية والفنية، وهذا لا يمنع من أن تبادر كل منطقة بإنشاء برنامج تعليمي مصغر يختصر الخطوات على المعهد المقترح.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد