مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

المحطّة الأولى من سفر الكمال.. وشروطها العشرة

إذا عزم الإنسان على السفر إلى الله وأدرك أنّ كماله الحقيقيّ إنّما يكون في ظلّ القرب الإلهيّ، الذي يتحقّق بفضل العبوديّة التامّة، فربما يجد نفسه غير منسجمة مع متطلّبات هذا السفر.

 

ولأنّ الإنسان في بدء الأمر يكون أسير النفس والهوى، فلا بدّ أن يعمل على تبديل نفسه وهواه، وإلّا لم يتسنَّ له السفر. وهنا ينشأ الصّراع وتبرز الحاجة فيه إلى المجاهدة والمقاومة.

 

في البدء تكون النفس حاكمة على جميع التوجّهات، وتكون رغباتها مسيطرة؛ فلا بدّ من مقاومة هذه الرغبات على طريق إخضاع النفس للتوجّهات السليمة التي تنشأ بفضل نور العقل والفطرة. وبذلك ينفتح الباب أمام تبديل النفس إلى نفس مطمئنّة مشرقة بنور العقل الهادي إلى الله.

 

ولأجل النجاح في هذه المرحلة الحسّاسة، يجب الالتزام بعشرة شروط أساسية، وهي: اليقظة والتوبة والمحاسبة والإنابة والتفكّر والتذكّر والاعتصام والفرار والرياضة والسّماع.

 

اليقظة

 

والمقصود فيها إيقاظ النفس وتنبيهها إلى ما أعدّ الله لها من كرامات، وحذّرها من مغبّات، وهيّأ لها من فُرص لا تُعوّض. ففي اليقظة يسطع نورٌ إلهيّ في القلب، يعزم صاحبه بفضله، على القيام لله تعالى وجعل حياته كلّها لله تعالى. فإذا كنت ترى هذا العزم في قلبك، فاعلم أنّك قد اتّصلت بمنبع النور، وما عليك إلّا أن تسلك طريق اليقظة من خلال تقوية ملاحظة النعم الإلهية التي لا تُحصى، ومطالعة أخطائك وذنوبك التي حجبتك عن الحقيقة ومنعتك من السير إلى الله، والانتباه إلى تقصيرك وتفويتك للكثير من الفرص التي مرّت وتمرّ في حياتك.

 

إنّ من أهم علامات اليقظة التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار السرور، حيث تغلب الخيارات الأخروية على الرغبات الدنيوية.

 

التوبة

 

ولأنّ الذنوب والمعاصي هي موانع السّير وعقبات السلوك، فلا بدّ من الإقلاع عنها بالندم والتوبة ممّا سبق منها. ولهذا، يحتاج المسافر إلى معرفة مسؤوليّاته وواجباته وما حرّم الله عليه وحظر، لكي يدرك جيّدًا ما قصّر فيه وما اجترح وما تعدّى وما أهمل. وبالإضافة إلى ذلك، يحتاج إلى معرفة حقيقة الذنب ومعناه الواقعيّ وما يتركه من أثر وتبعات في النفس.

 

إنّ الندم على التفريط والعصيان يدلّ على رسوخ تلك المعرفة، وهو بذاته أحد أركان التوبة والرجوع عن المعصية.

 

المحاسبة

 

لا تتم التوبة إلّا بتدارك ما فات وإصلاح ما فسد؛ وهذا ما يتطلّب محاسبة مستمرّة للنفس. ففي المحاسبة مشارطة للنفس أن لا تعود إلى العصيان وأن تلتزم بالتقوى والانقياد، وفيها معاتبة وملامة للنفس يتبعها تأديب بحسب الذنب. ولا توفيق لذلك إلّا في ظلّ المراقبة الدقيقة للأعمال والتصرّفات.

 

الإنابة

 

فبعد الرجوع عن المخالفة إلى الموافقة، وعن العصيان إلى الانقياد، يجب الرجوع إلى الله تعالى. وهذا ما يحصل من خلال الرجوع إليه تعالى إصلاحًا، بعد أن رجع إليه اعتذارًا، والرجوع إليه للوفاء بالعقد والميثاق كما رجع إليه وفاءً للعهد، والرجوع إليه تعالى بالحال بعد المقال، كما رجع إليه مستجيبًا لدعوته.

 

التفكّر

 

المحجوب عن الله بالاستغراق في الآثار، يجب أن يرجع إليه بمعرفة منشأ الآثار. ولا يحصل هذا إلا بفضل التفكّر، الذي هو تلمّس البصيرة لأجل الوصول إلى الغاية.

 

التفكّر الهادف هو البحث عن الله تعالى في الآفاق والأنفس لإدراك آياته وعظيم قدرته ولطف صنعه وقوّة حضوره. فإذا استقرّ التفكّر في النفس وصار ملكة راسخة فيها، لم يحجبها الوهم عن إدراك الحقيقة؛ فتدرك داعي الله في خلقه وفعله وآثاره، وتعلم أنّها مخاطبة في كلّ ما يجري حولها. وهكذا يستقر النداء الإلهيّ في القلب.

 

التذكّر

 

بالتفكر يجتني ثمار الأفكار بصورة الحقائق، وبالتذكّر يستحضر هذه الحقائق ويعيش معها. ولهذا، لا فائدة من الفكر إن لم يكن ذكر. فبالتذكّر يمزج الإنسان نفسه بعجين الحقيقة، حتى تتّحد معها وتصير جزءًا منها وتتنوّر بها.

 

قد يبلغ أحدنا أجمل الأفكار وأروع الحقائق، لكنّها قد تفرّ منه ولا تعود، أو تبقى معلّقة في غرفة الذاكرة كأي ذكرى مرّت معه. وما لم يعرض هذه الحقائق على نفسه ويتقبّلها بقلبه، فمن المُستبعد أن ينتفع بها. وهذا هو دور التذكّر الذي يحدث في النفس ذكرًا.

 

الاعتصام

 

الاعتصام بحبل الله هو المحافظة على طاعته مراقبًا لأمره، والاعتصام بالله هو الترقّي عن كلّ موهوم والتخلّص من كلّ تردد. وإنّما يتدرّج المسافر من الاعتصام بحبل الله حتى يصل إلى الله تعالى. وحبل الله الأوثق هو شريعته وطريقته، ولا يكتمل إلا بالانقطاع التام عمّا سواه، فيكون له الاتّصال وهو غاية الاعتصام.

 

الفرار

 

وهو الهروب من كل ما سوى الله إلى الله تعالى، كما قال عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ‏}.[1]ولأنّ كل ما عدا الله هو سبب للنقمة والعذاب والخسران والحرمان، ولأنّ النفس تسوق الإنسان نحو هذا الخسران ـ كما قال تعالى: {وَالْعَصْر * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفي‏ خُسْر}[2]ـ فلا بدّ من الفرار للنجاة. والمقصود من كل ما سوى الله هو الجهات الغيريّة في الأشياء، التي تكون الدنيا مظهرها الأتم، ولهذا كانت الدنيا المانع الأكبر من الوصول إلى الله تعالى.

 

الرياضة

 

والرياضة هي تمرين للنفس على قبول الصدق. وهي أن يعوّد نفسه الصدق بالتكلّف في القول والعمل والنية، ويصدّق ما جاء من الحقّ تعالى، فيكون مطابقًا في كلّ وجوده لما هو حقّ في كلّ الوجود. كما قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.[3] إنّ النفس تميل إلى الكذب حين يوافق مصلحتها المزعومة أو حين يهدّد الحقّ رغباتها وآمالها. والحقّ هو الوجود، والوجود هو الخير؛ ولا يمكن أن يكون الصدق مانعًا من الخير. فمن طلب الكمال وجب عليه أن يوافق الحقّ في كل شيء وإن رأت نفسه خلافه.

 

السماع

 

والسماع إدراك لداعي الله ونداءاته المبثوثة في كلّ أرجاء الوجود؛ من الزّجر والدعوة والجذب، التي يدرك السالك فيها المقاصد والغايات، فيعلم مراد الله منه في كلّ شيء. ولهذا قالوا أن نكتة السماع هي الانتباه. فمن بحث عن الله سمع نداءه وأدرك مراده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. سورة الذاريات، الآية 50.

[2]. سورة العصر، الآيات 1-2.

[3]. سورة الأحزاب، الآية 23.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد