مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

معرفة النفس طريق إلى معرفة الله

الآيات الأنفسيّة تعني: ذات الإنسان، أي أنْ يعرف الإنسان الله من خلال ذاته، وهو طريق جيّدٌ جدّاً، بحيث أنّ الإنسان يعرفُ ربّه بواسطة نفسه وذاته، فيعرف نفسه حتّى يعرف ربّه.

 

فهل يمكن للإنسان أنْ يعرف ربّه بواسطة نفسه؟! نعم.. لأنّ الله أقرب إلى الإنسان من الإنسان نفسه، فلّله معيّة مع وجود الإنسان، لأجل ذلك، تكون حقيقة وجود الإنسان مندكّة في ذات الله، وإن يحوم الإنسان حول وجود نفسه، ويستكشف نفسه، فسوف يجد الله، بذلك كانت معرفة الذات طريقاً للوصول إلى الله.

 

يقولون: إنّ الشخص الفلانيّ عارفٌ حكيم، يعني قد أحكمَ السيطرة على ذاته ونفسه، فنحن قلوبنا مشتّتة ضائعة، وهي مسلّطة علينا، فهي تستجلب الأفكار الغريبة والعجيبة وتدخلها في قلوبنا، وذلك بدون اختيار منّا، وأمّا العارف الذي جاهد نفسه وروّض قلبه إلى الحدّ الذي أصبحَ لا يدع طريقاً لدخول أيّ شيء من التخيّلات والمتاهات، فهو متسلّط على قلبه، وهذا يقال له: قويّ القلب، قويّ الضمير، فقويّ القلب هو الشخص الذي أشرفَ على معرفة نفسه ووجدَ ذاته، فالوصول إلى الذات ملازم لمعرفة الله.

 

جاءت إحدى نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألته:

 

هل يعرف الإنسان ربّه؟

 

فقال لها النبيّ: من عرف نفسه عرف ربّه.

 

هذه الرواية نقلها المرحوم السيد المرتضى في كتاب "الغرر والدرر" المعروف بـ "الأمالي".

 

وهناك رواية أخرى ينقلها السيّد المرتضى في كتابه "الغرر والدرر"، من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه.

 

وقد سألوا الإمام الباقر أو الصادق عليه السلام (حسب الظاهر) عن رواية مرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، من أنّ النبيّ قال: اطلبوا العلم ولو بالصين، فأيّ علمٍ هو هذا العلم الذي يطلبه الإنسان حتّى وإنْ كان في الصين؟ فأجاب الإمام: هو علم معرفة النفس فاطلبوه حتّى وإنْ كان في الصين، فمراد النبيّ من "اطلبوا العلم" هو ما كان من هذا النوع من العلوم، فعلم معرفة النفس مهمّ جدّاً.

 

هناك رواية تنقلُ عن أمير المؤمنين عليه السلام وهي: من عرف نفسه عرف ربّه أو فقد عرف ربّه أو كلاهما، هذه الرواية رواها الآمدي في كتابه "الغرر والدرر" عن أمير المؤمنين، ونقلها الشيعة والسنّة كذلك عنْ النبيّ الأكرم بهذا الشكل: من عرف نفسه عرف ربّه.

 

وينبغي أنْ نحدّد معنى هذه الرواية أولاً، ثمّ بعد ذلك نبحث عمّا يتعلّق بها ويدور حولها.

 

"من عَرَفَ نفسه عرف ربّه"؛ "من عرف نفسه" هي الموضوع، "فقد عرف ربّه" هي المحمول، وحينئذٍ يكون من المحتوم أنه من توصّل إلى معرفة نفسه يكون قد حصلت لديه معرفة الله، لأنّ المحمول "فقد عرف ربّه" جاء مترتّباً على الموضوع "من عرف نفسه"، ومن الواضح أنّ المحمول لا ينفكّ عن موضوعه، فمعرفة الله ملازمة لمعرفة النفس، وهو إمّا لازم مساوٍ أو أعمّ، وعلى جميع الأحوال سوف تكون معرفة الله ملازمة لمعرفة النفس، تماماً كما نقول إنّ: "الإنسان ناطق"، فهي تعني أنّه لا يمكن أن نجدَ إنساناً غير ناطق، فللإنسان مقارنة مع الناطقيّة، والناطقيّة ملازمة للإنسان، فلا يتصوّر أنّ أحداً يبلغ مرتبة معرفة نفسه ولا يكون قد وصلَ إلى معرفة ربّه، هذا من جهة.   

 

ومن جهة أخرى، هل يمكن أن يصدق من عرف ربّه فقد عرف نفسه؟ لا؛ لأنّ المحمول أعمّ، أي هو لازم أعمّ، وحينما يكون لازماً أعمّ، فمن الممكن أن يُتوصَّلَ إلى معرفة الله دون أن يكون ذلك بواسطة معرفة النفس، وذلك من خلال الآيات الآفاقيّة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي بإمكان الإنسان أن يعرف لله بواسطة الآيات الأنفسيّة كما يمكنه معرفته بواسطة الآيات الآفاقيّة.

 

{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ففي الأرض آياتٌ لأهل اليقين وكذلك في أنفسكم، إذاً هناك طريقان: طريق الآفاق وطريق الأنفس، ولا يمكننا القول: من عرف ربّه فقد عرف نفسه.

 

وبالإضافة إلى ذلك، فقد بيّن علماء "علم المنطق" أنّه حينما يثبتُ لدينا قضيّة معيّنة، بأن نرتّب المحمول على الموضوع ونحكم به عليه، ليس من الضروري أن يصدق عكسه بصورة كليّة وعلى الدوام، وإنّما يصدق على نحو الموجبة الجزئيّة، فعكس الموجبة الكليّة موجبة جزئيّة، وليس موجبة كليّة، فلا يمكننا أن نقول حينئذٍ: كلّ من عرف ربّه عرف نفسه.

 

ثمّ هل يمكننا أن نقول: من لمْ يعرف نفسه لم يعرف ربّه؟ كلاّ، لا يمكننا ذلك، إذْ من الممكن أنْ يكون قد عرف الله من خلال الآيات الآفاقيّة والحال أنّه لم يعرف نفسه، نعم يمكننا أن نقول: من لم يعرف ربّه لم يعرف نفسه، وذلك بعكس النقيض.

 

حسناً التفتوا! حينما يكون الإنسان ناطقاً، فإنّ بإمكاننا أن نقول: كلّ من ليس بناطق ليس إنساناً، وذلك بعكس النقيض.

 

وكذلك كلّ قضيّة صادقة، فإنّ عكس نقيضها صادق أيضاً، فما هو عكس النقيض لقولنا: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"؟ عكسُ نقيضها هو: من لم يعرف ربّه لم يعرف نفسه، أي من لمْ يعرف الله أصلاً، فإنّ من المحتوم به أنّه لم يعرف نفسه.

 

إلى هنا تلخّص لدينا عدّة أبحاث:

 

البحث الأوّل: هو أنّ الأفراد الذين يدّعون أنّهم توصّلوا إلى معرفة نفسهم والحال أنّهم لم يعرفوا الله، وذلك مثل الماديّين وأرباب الملل وأصحاب المذاهب التي لا تعترف بالله وإنّما ينكرون وجوده، فهؤلاء لم يعرفوا أنفسهم أيضاً، فالمتخصّص بعلم النفس والمطّلع على خصوصيّاتها إن كان منكراً لله فهو يدلّ على عدم بلوغه رتبة العلم بالنفس، دون شكّ أو تردّد.

 

البحث الثاني: وهو ما ينبغي أن نقف عليه ونتأمّل فيه، هو أنّ عكس النقيض في قولنا: من لم يعرف ربّه لم يعرف نفسه، حيث إنّها عبارة عن عكس النقيض للقضيّة: من عرف نفسه فقد عرف ربّه، فقد ورد في القرآن الكريم فيما يتعلّق بالأشقياء {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أي حينما نسوا الله، أنساهم الله أنفسهم، والنتيجة أنّهم نسوا أنفسهم، وهو معنى عكس نقيض القضية: من عرف نفسه فقد عرف ربّه.

 

وكلّ قضيّة صادقة فإنّ عكس نقضيها صادق أيضاً، فقولنا: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أليس هي آية قرآنية؟! من المسلّم صدقها، فلو عكسنا بعكس النقيض ينتج: من عرف نفسه فقد عرف ربّه. أي إنّ عكس نقيض قضية: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} هو من لم ينسَ نفسه لم ينسَ ربّه، يعني: من عرف نفسه فقد عرف ربّه، أي من لم يغفل عن نفسه لم يغفل عن ربّه، بمعنى أنّ: من عرف نفسه فقد عرف ربّه.

 

"من عرف نفسه فقد عرف ربّه" عكس نقيضها هو: من لم ينس الله.. أي ذكر الله.. ما هو معنى الآية {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}؟ يعني: من لم ينس نفسه لم ينس ربّه، وهو عكس نقيض "من عرف نفسه فقد عرف ربّه".

 

وبما أنّ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} هي آية قرآنيّة، فإنّ عكس نقيضها يثبت قطعاً، وليس لأحدٍ أنْ يشكّك بصحّتها ويقول إنّها ليست رواية صحيحة، فحتّى لو لم نتفحّص السند، فإنّ متنها ثابت بواسطة الآية القرآنيّة، والنتيجة هي أنّ الطريق إلى معرفة الله يكون بواسطة معرفة النفس.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد