الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ إسماعيل المشاجرة: بنية المجتمع سنة 60 هـ كمرجعية لنسج أحداث كربلاء

الليلة الثالثة محرم 1446 هـ
الشيخ إسماعيل المشاجرة
بنية المجتمع سنة 60 هـ كمرجعية لنسج أحداث كربلاء
مجمع أهل البيت - عمان - مسقط -

 

لكِنَّ الأمرَ والمرجعَ لله، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم.

ورد عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين في خطبة خطبها يوم العاشر من محرم: "ويحكم، أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ بلى والله، غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم، وتأزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمرة، شجًى للناظر وأكلة للغاصب". صدق سيدنا ومولانا ابن رسول الله صلوا عليه وآله، اللهم صلِّ على محمد وآل محمد.

هذا المقطع من خطبة سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين يشير إلى عامل اجتماعي مهم من العوامل التي تسببت في وقوف ذلك المعسكر الكوفي في وجه الحسين يوم عاشوراء. فيشير إلى أثر التنشئة الاجتماعية، أكل الحرام والغصب، والملابسات التي انزلق فيها مجتمع أهل الكوفة، فآلت النتيجة إلى هذا الموقف أن يشهروا سيفهم في وجه إمام زمانهم. وهذه نقطة جدّاً مهمة، والإمام أكد عليها في عدة من خطبه في يوم عاشوراء. وهذه تفتح ذهننا إلى مسألة غاية في الأهمية عند قراءة الأحداث التاريخية وتحليلها، أن البنية الاجتماعية في أي مجتمع من المجتمعات هي التي تأخذه إلى مساراته في معترك الحياة. يعني لا تتصور أن الموقف الذي يقفه مجتمع من المجتمعات هو وليد لحظة أو وليد حدث، لا، وإنما هو وليد تنشئة اجتماعية، وليد بنية اجتماعية هي التي تسوق المجتمعات لاتخاذ المواقف. وهذا ما يدعونا للحديث حول عنوان بنية المجتمع سنة 60 للهجرة، السنة التي تاخمت شهادة الإمام الحسين سلام الله عليه، ودور هذه البنية الاجتماعية في نسج الأحداث التي آلت إليها قضية الإمام الحسين سلام الله عليه. فتعالوا نتحدث عن هذا العنوان ضمن محاور ثلاثة:

في المحور الأول: نتناول جانبًا نظريًّا أكدته المناهج التاريخية المعاصرة ونتحدث عن دور البنية الاجتماعية في رسم الأحداث.

وفي المحور الثاني: نطل على واحد من المجتمعات الأساسية في حدث القضية الحسينية، المجتمع المدني.

وفي المحور الثالث: نطل على مجتمع آخر أكثر أهمية من المجتمع المدني في رسم أحداث كربلاء وهو المجتمع الكوفي. فإذا تتشكل عندنا ثلاثة محاور: محور تاريخي نظري ومحور تطبيقي على المجتمع المدني ومحور تطبيقي آخر على المجتمع الكوفي.

تعالوا إلى المحور الأول، أشرنا ليلة البارحة إلى أنه من أهم المدارس التاريخية المعاصرة التي ظهرت مؤخرًا وبالتحديد بدايات الثلث الثاني من القرن العشرين سنة 1929م، ظهرت مدرسة تاريخية مهمة تسمى مدرسة الحوليات الفرنسية ولا زالت هذه المدرسة هي المدرسة التي تتحكم بمشهد العلوم التاريخية إلى اليوم. يعني المدرسة المعاصرة التي ترسم مناهج الدراسة في الأكاديميات التاريخية هي مدرسة الحوليات الفرنسية. هذه المدرسة بدأت بإصدار مجلة تسمى مجلة الحوليات الفرنسية للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي. التفتوا إلى عنوان هذه المجلة وهو من أهم الأمور، هذا العنوان من أهم الأمور التي تلفت إلى منهج هذه المدرسة التاريخية المعاصرة. لماذا التركيز على التاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي؟ لأن رواد هذه المدرسة لاحظوا أن المدارس التاريخية الماضية كلها كانت تركز على دراسة الحدث السياسي. التفتوا، هذه نقطة مهمة جدًّا ينبغي التوعية لها والالتفات إليها. فهذه المدرسة قالت ليس من الإنصاف أن تختصر حياة أمم وشعوب في دراسة شخصيات محددة سياسية تحكمت في المشهد السياسي، فتصادر حياة مجتمعات برمتها من أجل كتابة التاريخ لشخصية سياسية واحدة. وفعلًا هذا أمر واضح. نحن اليوم إذا أردنا أن نتحدث عن تاريخ الإسلام في العصر الأموي أو تاريخ الإسلام في العصر العباسي، تشوف كل الكتب التاريخية العمود الفقري لحديثها عن تاريخ الأمة الإسلامية في العصر الأموي وفي العصر العباسي يختصر في تاريخ الحكام الأمويين والحكام العباسيين. تدرس سيرة معاوية وسيرة يزيد ابن معاوية، ثم سيرة المروانيين مروان بن الحكم وأبنائه.

 

ويختصر مشهد أمة كاملة تتضمن ملايين الأفراد في سيرة أفراد بعينهم. هذا في الحقيقة بحسب وجهة نظر هذه المدرسة ظلم للمجتمعات. أنت حينما تختصر تاريخ الإسلام في تاريخ هؤلاء الأفراد أو تدرس تاريخ العصر العباسي وتختصره في تاريخ أبو جعفر المنصور وهارون والمتوكل والمعتصم وثلة من الأفراد، وتعتبر دراسة تاريخ هؤلاء هو تاريخ الأمة. هذه المدرسة، مدرسة الحوليات الفرنسية، تقول هذا من أكثر الأمور التي ظلمت علم التاريخ من جهة وظلمت المجتمعات والأمم والحضارات من جهة أخرى. نحن إذا أردنا أن ندرس تاريخ الأمة الإسلامية يجب أن تنبسط الدراسة على كل الأحداث وكل الأفراد التي تنتمي إلى هذه الأمة. أما أن يختصر تاريخ أمة من الأمم وحضارة من الحضارات في تاريخ أفراد بعينهم وفي حفنة من الأحداث، مجموعة من الأحداث البسيطة، أحداث تاريخية، معارك ومواقف سياسية خاضها الأمويون أو خاضها العباسيون، هذا بلا ريب لا يعطي دراسة حقيقية لتاريخ الأمم والمجتمعات. ومن هنا نادت هذه المدرسة بأن المنطلق لتجاوز هذه الحالة ولتصحيح المسيرة التاريخية والمنهج التاريخي أن ننفتح على التاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي.

 

لماذا؟ لأن التاريخ الاجتماعي هو تاريخ الناس، حياة الناس، كيف كان الناس يعيشون؟ ما هي فئات المجتمع؟ ما هي شرائح المجتمع؟ ما هي ثقافة المجتمع؟ ما هي بنية المجتمع القبلية؟ ما هي بنية المجتمع الدينية؟ إذًا حينما ننفتح على التاريخ الاجتماعي فنحن نتجاوز التاريخ السياسي وتاريخ شخصيات بعينها إلى تاريخ الناس، تاريخ البشر، تاريخ الأمة الإسلامية، يعني تاريخ الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الأمة. وكذلك إذا انفتحنا على التاريخ الاقتصادي فنحن أيضًا ننفتح على الأمة. نشوف ماذا كان هذا المجتمع يمارس من سبل تحصيل الرزق؟ شنو المهن التي ينشغل بها؟ شنو الجوانب الاقتصادية التي كانت تتحكم في مسيرة المجتمع؟ إًذا تنادي هذه المدرسة بضرورة أن يصحح المسار في علم التاريخ. فبدلًا من أن تختصر حياة الأمم والمجتمعات في دراسة أفراد بعينهم وأحداث سياسية محدودة ينبغي أن تكون الدراسة التاريخية منبسطه على كل أفراد المجتمع. هذا أمر مهم جدًّا.

 

الأمر الآخر الذي نادت به هذه المدرسة أنك لا تدرس حدثًا بعينه من دون الرجوع إلى أمد تاريخي أبعد. وهذا ما يعرف عندهم بالزمن التاريخي القصير والزمن التاريخي الطويل والزمن التاريخي المتوسط. ماذا يريدون بهذه المصطلحات؟ يقولون أنت مثلًا تريد تدرس حدثًا تاريخيًّا وليكن مثلًا أحداث عاشوراء وما جرى على الإمام الحسين سلام الله عليه في يوم كربلاء. يقول أصحاب هذه المدرسة لا يمكن لك أن تفهم ملابسات هذا الحدث إذا ركزت دراستك على الفترة الزمنية البسيطة التي تحققت فيها هذه الأحداث. يعني تدرس الأشهر المحدودة التي ابتدأت بخروج الإمام الحسين سلام الله عليه من المدينة إلى أن استشهد في كربلاء. خرج الإمام الحسين من المدينة في شهر رجب سنة 60 للهجرة واستشهد في كربلاء يوم العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة. إذًا أنت تدرس بضعة أشهر فقط وتريد من خلالها أن تحلل حدثًا في غاية الأهمية والخطورة.

 

أصحاب مدرسة الحوليات يقولون لا يمكن أن تمسك بالحدث التاريخي إذا جعلت نظرك قصيرًا ويركز فقط على الأحداث في زمنها القصير. إذا أردت أن تدرك وتتعرف على ملابسات هذا الحدث فيجب أن تنفتح على الزمن الطويل. يعني تدرس بنية المجتمع الإسلامي قبل سنة 60 للهجرة، ترجع إلى الوراء عشر سنوات، 20 سنة، 30 سنة، 50 سنة، ربما تمسك بجوهر العوامل وجوهر البنية الاجتماعية التي رسمت هذه الأحداث. ومن هنا فنحن إذا أردنا أن نحلل الأحداث التي جرت في حق الإمام الحسين سلام الله عليه ومواقف المجتمعات من الإمام الحسين، لماذا موقف أهل المدينة كان بهذه المثابة ولماذا موقف أهل الكوفة كان بهذه المثابة، فيجب أن ننفتح على تاريخ هذين المجتمعين على أقل تقدير إلى 50 سنة إلى الوراء. وهذا ما نحاول أن نطبقه من خلال المحورين القادمين. تعالوا ندرس المجتمع المدني وندرس المجتمع الكوفي من خلال هذه الرؤية وهذه المنهجية التي زودتنا بها هذه المدرسة التاريخية المعاصرة.

 

فتعالوا إلى المحور الثاني: بنية المجتمع المدني. مجتمع المدينة المنورة حينما وفد إليه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حينما هاجر من مكة إلى المدينة كان يتشكل من بنية اجتماعية معروفة. وربما طرقت مسامعنا الكثير من العبارات التي تشير إلى تصنيف المجتمع المدني، لكننا فقراء جدًّا حول الثقافة المرتبطة بالبنية الاجتماعية لمجتمع المدينة المنورة. نعرف أن مجتمع المدينة المنورة يتشكل من الأنصار ومن المهاجرين، وربما سمعنا أن الأنصار كانوا يتشكلون من قبيلتين كبيرتين هما الأوس والخزرج. في الحقيقة لا، بنية المجتمع المدني أوسع من هذا. المجتمع المدني كان يتشكل من الأوس والخزرج الذين مثلوا فيما بعد الأنصار الذين آزرو النبي صلى الله عليه وآله وناصروه، والمهاجرين الذين وفدوا مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من مكة المكرمة. لكن أيضًا كان اليهود كان لليهود حضور قوي في المدينة المنورة. وتصور أن اليهود برغم قلتهم في المدينة المنورة، يعني إذا ما قيسوا بالأوس والخزرج، هم لا يمثلون أغلبية، لا يمثلون أكثرية، لكن كان اليهود يتحكمون بمفاصل الاقتصاد في المدينة المنورة. ولذلك يرجع بعض الباحثين أن دعوة الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله من أجل الحضور إلى المدينة المنورة كان يتحكم فيها عاملان:

 

العامل الأول: العامل الديني، رأى الأنصار أن من وظيفتهم أن يؤازروا النبي صلى الله عليه وآله في بناء دعوة، كأنما آمنوا بالدعوة وبالرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله. رأوا المبادئ والقيم التي ينادي بها النبي مبادئ وقيم عليا فأدركتها ثلة منهم فآمنوا بهذه الدعوة. فإذا العامل الأول عامل ديني.

لكن العامل الآخر وهو عامل مؤثر: عامل اقتصادي، لأن الأنصار نتيجة الحروب التي وقعت بينهم بين الأوس والخزرج ونتيجة تحكم اليهود في المفاصل الاقتصادية في المدينة المنورة أصبح المجتمع الأنصاري يعيش حالة من العجز الاقتصادي أمام تغول الرأسمال اليهودي. كان اليهود يعملون بالربا، يعني كانت عملية الربا من أهم أساليب التجارة التي كان يمارسها اليهود. وعن طريق المراباة وضعوا الأنصار في موقف لا يُحسدون عليه بحيث أصبحوا يتحكمون في أموالهم، يتحكمون في مواقفهم، يتحكمون في تحالفاتهم السياسية، كل ذلك بسبب تغول رأس المال اليهودي. فالأنصار حينما عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله على النصرة وفتحوا له الباب أن يفد إلى المدينة المنورة، كان العامل الاقتصادي أيضا دخيلًا في هذه المعاهدة التي وقعوها مع النبي صلى الله عليه وآله في بيعة العقبة الأولى والثانية. هذه نقطة جديرة بالاهتمام. لما جاء النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة المنورة حقق للأنصار كلا الغرضين. من جهة عقد حلف كبير مع الأنصار في المؤازرة وأنهم يؤازروه في نشر دعوته، ونجح الأنصار في تحقيق هذا الغرض للنبي، فتحقق هدف النبي من جهة وهدف الأنصار لأنهم كما قلنا دعوا النبي صلى الله عليه وآله من منطلق ومن عامل ديني يريدون لهذه الدعوة أن تنتشر.

 

من جانب آخر أيضًا، النبي صلى الله عليه وآله اتخذ مواقف وتدابير مهمة استطاع من خلالها أن يعيد توازن القوى الاقتصادية داخل المدينة المنورة. فأول ما جاء النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة أمر الأنصار أن يركزوا على الموارد الاقتصادية المهمة في المدينة، وكان المورد الاقتصادي الأول في المدينة هو الزراعة، فأمر النبي صلى الله عليه وآله الأنصار أن يضاعفوا من اهتمامهم بالزراعة. فبدأ الأنصار كل واحد يضاعف مساحته من الأرض الزراعية، وكان النبي صلى الله عليه وآله يشجعهم على غرس النخيل لأنها ثمرة مهمة ولها دور كبير في النهوض بالحالة الاقتصادية في المدينة. فعلًا تقول المصادر التاريخية أنه توسعت الحالة الزراعية في السنوات الأولى لقدوم النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة وتحسن الوضع الاقتصادي للأنصار. من جهة أخرى حرم النبي صلى الله عليه وآله الربا، فبدأ الأنصار يتحرجون من الدخول في معاملات ربوية مع اليهود. فجفف النبي بهذا الموقف القانوني الفقهي منابع التغول الاقتصادي عند اليهود، جفف منابع المال عندهم لأنه حرم الربا. وهكذا بدأ ينحسر النفوذ الاقتصادي لليهود ويترقى النفوذ الاقتصادي للأنصار. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله حريصًا على أن يجعل للأنصار حضورًا قويًّا في المدينة المنورة. تصور لما النبي عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وأراد جملة من الأنصار أن يعطوا مزارعهم للمهاجرين. النبي سوى مؤاخاة بين كل أنصاري ومهاجري، والأنصار قاسموا أموالهم مع المهاجرين. بعض الأنصار أراد أن يعطي شيئًا من مزرعته وبساتينه للمهاجرين، منعهم النبي صلى الله عليه وآله قال لا هذه بساتينكم فلا تعطوها لغيركم. وأكد النبي على المهاجرين أن لا ينخرطوا في الزراعة، لا يشتغلوا بأمور أخرى. ولذلك انفتح المهاجرون على مورد اقتصادي آخر وهو التجارة.

 

ودونت لنا المصادر التاريخية أن ثلة من المهاجرين اشتغلوا بالتجارة. عبد الرحمن بن عوف مثلًا، الخليفة الأول، الخليفة الثاني كانوا يشتغلون بالتجارة. إذًا المهاجرين ركزوا على الجانب التجاري بينما الأنصار ظلوا يتعاطون الزراعة. وهكذا خلق النبي صلى الله عليه وآله موازنة في المجتمع المدني جعل من مجتمع المدينة بعد سنوات محدودة يصبح العامل الاقتصادي بيد المسلمين بدلًا من أن كان بيد اليهود. مضاًفا طبعًا إلى المعارك والوقائع التي جرت بين المسلمين من جهة واليهود من جهة أخرى والمواقف السياسية ساهمت أيضًا في تعزيز موقع المسلمين في المدينة المنورة. هذه نبذة مختصرة جدًّا عن حال المجتمع المدني في أيام النبي صلى الله عليه وآله.

 

في عصر الخلفاء تحول المشهد حينما بدأت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الأول والخليفة الثاني، وبالتحديد حينما فتحت الشام سنة 14 للهجرة. بدأ فتح الشام في أيام الخليفة أبي بكر ثم أتم الفتح في أيام الخليفة الثاني. وكذلك فتحت العراق سنة 15 للهجرة في معركة القادسية، وفتح بيت المقدس في السنة اللاحقة. وهكذا فتحت مصر أيضًا سنة 20 من الهجرة في أيام الخليفة الثاني. فأصبحت الدولة الإسلامية دولة مترامية الأطراف. التفتوا إلى هذه النقطة المهمة التي تمثل تحولًا مهمًّا في تاريخ الإسلام، وبالتحديد في بنية المجتمع، البنية الاجتماعية من جهة والبنية الاقتصادية من جهة أخرى لأننا نركز على هذين الأمرين. أصبح المجتمع المدني في عهد الخلفاء مجتمعًا يحكمه الجانب الإداري. أصبحت دولة مترامية الأطراف كان للخليفة والٍ على الشام، والٍ على مصر، والٍ على العراق مثلًا. عين الخليفة الثاني معاوية بن أبي سفيان واليًا على الشام. وهنا بدأت الولايات تدر أموالًا طائلة على بيت المال عند الخليفة. صارت أموال طائلة إلى المسلمين وبدأت تمشي أرزاق يعني بمثابة الضمان الاجتماعي يعطى لأفراد المسلمين. فتحولت الحياة الاقتصادية وتبعًا لذلك تحولت الحياة الاجتماعية في مجتمع المدينة المنورة تحولًا جذريًّا. أصبح جل أهل المدينة من الناحية الاقتصادية يرتزقون من بيت المال، يعني بتعبيرنا اليوم أشبه بالموظف الذي يمشي إلى راتب مهيأ وجاهز. فأصبح المجتمع المدني ينشغل بكمالات أخرى، يهتم بثقافته، يهتم بوعيه. بينما هذا المعنى ما كان متاحًا في العهد السابق بسبب الانشغال بلقمة العيش من جهة وبسبب الانشغال بالحروب والمعارك السياسية الداخلية التي كانت مثلًا مع اليهود أو مع قريش في مكة المكرمة.

 

إذًا بدأ يحصل تحول في البنية الاجتماعية للمجتمع المدني. أكثر من ذلك بدأ الولاة وخصوصًا في عهد الخليفة الثالث يطالبون برواتب عالية. يعني مثلًا معاوية بن أبي سفيان كان واليًا على الشام، فكان راتبه في أيام الخليفة الثاني يعطى 80 دينارًا من الذهب في كل شهر، وهذا مبلغ مو قليل، مبلغ كبير جدًّا في ذلك الزمان. لكن معاوية في أيام الخليفة الثالث لم يكتفِ بهذا المقدار فطلب من الخليفة أن يقطعه مزارع وبساتين وأراضي خراجية في الشام وأن يجعلها له حتى يتقوى بها على ولايته، ووافق الخليفة الثالث. فأقطعه بساتين كبيرة من بلاد الشام. ومن هنا بدأت تقوى شوكة معاوية واستطاع فيما بعد أن يقف موقف القتال والخصومة مع أمير المؤمنين سلام الله عليه. إذًا لاحظوا التحولات الاقتصادية والتحولات في البنية الاجتماعية هي التي تخلق الأحداث السياسية. في المقابل، مجتمع المدينة المنورة بدأ يتعود على الجانب المالي، جانب الرفاه الاقتصادي. حتى أن بعض الكتب التاريخية تذكر أن الولاة إذا رجعوا إلى المدينة المنورة يعطون هبات لأهل المدينة. يعني هذا والي جاي من بلدة بعيدة ويريد أن يحتفي به مجتمع أهل المدينة فيوزع هدايا وأموالًا. ولذلك تذكر المصادر التاريخية أن عبد الله بن عامر بن كريز، هذا ابن خال الخليفة عثمان الذي كان واليًا على البصرة في أيام خلافة الخليفة عثمان، لما وفد إلى المدينة المنورة أمره الخليفة أن يركز في هباته وصلاته على القرشيين. تقول الرواية فبدأ يبعث لكل قرشي 3000 درهم وهذا مبلغ مو قليل في ذلك الوقت، ثم ضاعف لهم العطاء في الزيارة الثانية إلى أن بلغت عطاءاته وهباته حينما يعود إلى المدينة إلى المدينة المنورة 20000 درهم للفرد الواحد.

 

إذًا نحن أمام تحول اقتصادي مهم في المجتمع المدني، هذا ساهم في تغير البنية الاجتماعية للمجتمع المدني، فأصبحت النظرة في المجتمع المدني للحالة الاقتصادية نظرة بارزة بحيث ينظر إلى الفرد بقدر ما يتمكن من الجانب الاقتصادي، يعني بقدر مكنته الاقتصادية يقام له ويقعد. ومن هنا بدأت تتشكل، بتعبير بعض الكتاب كطه حسين، بدأت تتشكل حالة طبقية أو أرستقراطية في المدينة المنورة في نهاية خلافة الخليفة الثالث. وهذا ما ساهم في ثورة ومجيء أهل الأمصار من مصر والبصرة والكوفة ووقوع ما وقع في أيام الخليفة الثالث الذي انتهت الأحداث بقتل الخليفة. إذًا نحن أمام مجتمع بدأ يتحول تحولات جذرية. من بعد خلافة الخليفة الثالث جاء أمير المؤمنين سلام الله عليه. أمير المؤمنين هاجر من المدينة المنورة إلى الكوفة. بعض المحللين يذكر عاملًا مهما لعله هو الذي دعا الإمام أمير المؤمنين للهجرة، أنه رأى المجتمع المدني مجتمعًا تغلب عليه التحالفات السياسية والاقتصادية وأصبح مجتمعًا معقدًا يصعب تسيير الأمور في ظله. ولعل ما يكشف عن هذا ما جرى أيام الخليفة الثالث، فرأى أمير المؤمنين سلام الله عليه أن الطريقة الناجعة لتجاوز هذه الحالة أن ينقل عاصمته إلى الكوفة ويبدأ مع مجتمع جديد يشكله كما يريد ويبني من خلاله منهجه السياسي ومنهجه الاجتماعي ومنهجه التوعوي والتثقيفي. وفعلاً قام أمير المؤمنين سلام الله عليه بنفس الطريقة والمنهجية التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله.

 

النبي لما رأى أن دعوته ورسالته في مكة غير قابلة للتطبيق هجر مكة وانفتح على مجتمع جديد هو مجتمع المدينة المنورة وبنى هناك مشروعه. أمير المؤمنين سلام الله عليه كذلك لما رأى المجتمع المدني أصبح مجتمعًا تتحكم فيه الأطماع المالية والأطماع السياسية هاجر المدينة المنورة واتخذ من الكوفة عاصمة له. ما الذي حصل في المدينة المنورة؟ زاد تعقيد البنية الاجتماعية في المجتمع المدني، وزادت تعقيد هذه القضية أكثر وأكثر بعد شهادة أمير المؤمنين سلام الله عليه وتسلط معاوية على المدينة المنورة، إذ أصبح معاوية هو المتحكم في المشهد داخل المدينة المنورة. ومن يقرأ زيارات معاوية للمدينة المنورة قبل سنة 60 للهجرة يرى كيف كانت سطوة معاوية كبيرة في مجتمع المدينة المنورة. وهذا ما يفسر لنا لماذا حينما خرج الإمام الحسين سلام الله عليه من المدينة، والإمام أعلن عن رفضه لبيعة يزيد بن معاوية وأعلن عن رغبته في التحرك في وجه يزيد بن معاوية، لماذا لا نجد أنصارًا للإمام الحسين من أهل المدينة؟ تحدثنا الروايات بأن الإمام الحسين خرج من المدينة وليس معه إلا أهل بيته من الهاشميين. أين بقية المجتمع المدني؟ لماذا لم يكن للمجتمع المدني حضور في حركة الإمام الحسين سلام الله عليه؟ لأن أغلب البنية الاجتماعية في المدينة المنورة كانت تميل إلى الطرف الآخر، تميل إلى الجانب الأموي. قد يقول قائل لا والله، الإمام الحسين خرج على حين غرة في الليل، خرج من المدينة المنورة ومضى إلى مكة. بقي الإمام الحسين في مكة أشهرًا طويلة، فلو كان هناك من المدنيين من يرغب في الالتحاق بركب الإمام الحسين سلام الله عليه لكان يسعه المجال أن يلتحق بركبه. لكن هذا يكشف عن أن ولاء أهل المدينة للإمام الحسين سلام الله عليه كان شحيحًا. ولذلك عندنا رواية عن الإمام الباقر سلام الله عليه يصف أحوال أهل مكة والمدينة في تلك المرحلة يقول: "ما كنا نجد في مكة والمدينة أكثر من 20 رجلًا معنا أو يحملون الولاء لنا". إذًا هذه هي البنية الاجتماعية للمدينة المنورة.

 

تعالوا إلى المحور الثالث: المجتمع الكوفي. المجتمع الكوفي أيضًا كيف تشكل؟ كيف نشأ مجتمع الكوفة؟ الكوفة بنيت سنة 16 للهجرة، بناها سعد بن أبي وقاص بأمر من الخليفة الثاني، وكانت تعرف بكوفة الجند. يعني الخليفة أرادها أن تكون محطًّا لجيوش المسلمين ومعسكر المسلمين، ولذلك أمره أن يجعل مسجدها مسجدًا كبيرًا يسع كل الجنود. ولذلك تقول الروايات إن سعد بن أبي وقاص جعل مسجد الكوفة يسع لأربعين ألفًا، وهذه سابقة في تاريخ الإسلام، يعني من أكبر الجوامع التي بنيت في تلك الفترة جامع الكوفة. ثم لما جاء زياد بن أبيه سنة 50 للهجرة أيضًا عمل توسعة لجامع الكوفة، فصار يستوعب 60 ألفًا. إذًا بداية تشكيل الكوفة أنها قاعدة للعسكر، قاعدة للجند. لكن سرعان ما أصبحت الكوفة محلًّا يستقطب الناس لأنك تتحدث عن العراق، عن أرض السواد، عن أرض خصبة، أرض صالحة للزراعة، أرض قادر كل إنسان على أن يستثمر فيها ويحسن من أوضاعه الاقتصادية. لذلك حصلت هجرات عديدة من أطراف الجزيرة العربية واستوطنت كثير من القبائل اليمنية والقبائل النجدية في الكوفة منذ بدايات نشأتها وتأسيسها. ومن هنا تطلعنا المصادر التاريخية على أن تركيبة سكان أهل الكوفة تقسم إلى عدة أقسام:

 

أول تقسيمة: أن المجتمع الكوفي ما كان حكرًا فقط على المسلمين، بل أيضًا غير المسلمين جاؤوا واستوطنوا في الكوفة. قسم من أهل فارس من غير المسلمين من المجوس في ذلك العصر، قسم من المسيحيين الشاميين جاؤوا أيضًا وقطنوا في الكوفة، قسم من نصارى نجران جاؤوا أيضًا واستوطنوا في الكوفة مجاراة للقبائل اليمنية التي جاءت واستوطنت في الكوفة، فكان هناك عدد ليس بقليل من غير المسلمين مستوطنين في الكوفة. في المقابل المسلمون الذين استوطنوا الكوفة أيضًا على صنفين: العرب وهم القبائل العربية التي كانت مؤمنة بدعوة النبي صلى الله عليه وآله، وغير العرب ممن آمن بدعوة النبي صلى الله عليه وآله من الفرس والترك والديلم وغيرهم، فهؤلاء أيضًا كانوا يشكلون جزءًا من تركيبة المجتمع الإسلامي. العرب أيضًا قسمهم الخليفة الثاني في وقته حين تشكيل الجانب الإداري للكوفة إلى أربع أرباع: ربع أهل المدينة، ربع مدحج وأسد، ربع ربيعة وتميم، وقسمهم إلى أربعة أرباع. على كل حال، كل ربع كان عليه زعيم. ما يهمنا أما نتحدث عن الجانب الثقافي والجانب الديني لمجتمع أهل الكوفة، دعك من الجانب الاقتصادي تحدثنا عنه في المجتمع المدني. لكن تعالوا نتحدث عن الجانبين الثقافي التوعوي عند أهل الكوفة والجانب الديني عند أهل الكوفة. أما الجانب الثقافي التوعوي، فتشير بعض المصادر، التفتوا إلى هذه النقطة المهمة، إلى أن مجتمع أهل الكوفة حينما أنشأه الخليفة الثاني، وبالتحديد على يد كما قلنا سعد بن أبي وقاص، حينما أنشئ المجتمع الكوفي في تلك الفترة كانت الثقافة السائدة ثقافة غير روائية. لأن الخليفة كان ينادي بضرورة التأكيد على القرآن (حسبنا كتاب الله) وكان يخشى من إشاعة الروايات والأحاديث النبوية أن يحصل اختلاط بين القرآن والسنة، وهذا اجتهاد منه. لكن في المقابل هذا ترك أثرًا كبيرًا على المجتمعات الإسلامية، بحيث أصبحت روايات النبي صلى الله عليه وآله ليست محفوظة عند كثيرين، فضلًا عن مجتمع جديد في بدء التشكل، والمجتمع الكوفي. فكان المجتمع الكوفي في بدايات تشكله، ثقافته ثقافة قرآنية محضة ولا توجد عنده ثقافة روائية. إذًا، إذا تحدثنا مثلًا عن الروايات والأحاديث النبوية التي تتحدث عن مناقب أهل البيت ومناقب أمير المؤمنين سلام الله عليه، سنجد أن المجتمع الكوفي ما كان يحمل وعيًا واضحًا في هذا المسار إلى أن جاء إلى الكوفة عمار بن ياسر حينما ولي على الكوفة في نهايات عهد الخليفة الثاني.

 

عمار بن ياسر كان يحمل منهج أمير المؤمنين سلام الله عليه من خلص أصحابه، وعمار بن ياسر من كبار الصحابة فكان أهل الكوفة يجلونه كثيرًا. من هنا انطلق عمار بن ياسر بشكل عفوي وتلقائي يحدث مجتمعه الكوفي الذي هو أصبح واليًا عليه بالأحاديث والمناقب الواردة في حق أمير سلام الله عليه وفي حق أهل البيت. فبدأت تتشكل نواة الحب لأهل البيت سلام الله عليهم إلى أن جاء عهد أمير المؤمنين سلام الله عليه. بعد لما انتقل أمير المؤمنين إلى الكوفة بدأت تصبح ثقافة محبة أهل البيت هي الثقافة الرسمية، هي الثقافة السائدة في المجتمع الكوفي. ومن هنا أصبح جل أهل الكوفة محبين لأهل البيت سلام الله عليهم. لكن تقسمهم الروايات، رواية عن الإمام الصادق ورواية عن الإمام الباقر، تقسم شيعة أهل البيت في الكوفة إلى طبقات ثلاث. طبعًا هذا لا يعني أنه لا توجد فئات أخرى لا تحمل الولاء والحب لأهل البيت، لا، توجد فئات أخرى. هناك فئات موالية للأمويين، هذه الفئة ليست قليلة. هناك فئة تسمى بالفئة اللامبالية أو الفئة الانتهازية كما يعبر عنها بعض الباحثين.

 

يقول هؤلاء يطلبون الراحة ويطلبون مصالحهم. فإذا كانت الأجواء مع أهل البيت يميلون مع أهل البيت، إذا كانت الأجواء مع غيرهم يميلون مع غيرهم. لكن حينما نتحدث عن المحبين لأهل البيت في المجتمع الكوفي فهم على طبقات ثلاث كما تقسمهم روايات أهل البيت:

الطبقة الأولى: هي الطبقة المحبة المخلصة، أمثال حبيب بن مظاهر. إذا نتكلم عن سنة الستين وما قبلها حبيب بن مظاهر الأسدي ومسلم بن عوسجة الأسدي وغيرهم من هؤلاء الخلص الذين في نهاية المطاف جاؤوا إلى نصرة الإمام الحسين سلام الله عليه. هذه الطبقة الأولى.

الطبقة الثانية: هي الطبقة المنافقة، التي الإمام الباقر يقول: "يستأكلون بحبنا"، يعني يظهرون حب أهل البيت ولكن في الباطن هم أصحاب مصالح، هم أصحاب مصالح. التقى بالإمام الحسين كالفرزدق وغيره في طريق الإمام الحسين إلى الكوفة يقول له هؤلاء سيوفهم عليك وإن كانوا يظهرون على ألسنتهم أنهم معك، لكن سيوفهم عليك.

 

الطبقة الثالثة: من تظهر الخوف، لكن في الداخل محبة لأهل البيت، القلوب مع أهل البيت لكن السيوف على أهل البيت. وهؤلاء أيضًا وصفهم الفرزدق في كلامه إذ قال قلوبهم معك وسيوفهم عليك. لكن ما يلفت النظر أن الحالة المعيشية أيضًا أثرت أثرًا بالغًا في تحريك الأحداث ضد الإمام الحسين سلام الله عليه. لأن مجتمع الكوفة لما زادت دخل الخراجات في الكوفة، أصبح والي الكوفة تصل إليه أموال طائلة، بدأ يمشي أرزاقًا لعموم الناس، رواتب بتعبير اليوم. هذه الرواتب جعلت المجتمع الكوفي مجتمعًا كسولًا كما يصفه بعض الباحثين. يقول أغلب مجتمع أهل الكوفة ما كان يتعاطى الكسب وإنما كان يوكل الأعمال للموالي، الذين غالبًا هم الذين يقومون بشؤون العمل للقبائل العربية ولأصحاب الوجاهة من أهل الكوفة، بينما عموم المجتمع الكوفي يكتفي بالأرزاق التي تمده بها بيت المال.

 

وهذا ماذا يعني؟ هذا يعني أن للأرزاق وللأموال دورًا كبيرًا في التحكم بمواقف أهل الكوفة. ولذلك لما التقى الإمام الحسين سلام الله عليه بأحد الخارجين من الكوفة وهو في طريقه إلى كربلاء، سأله الإمام الحسين عن أوضاع أهل الكوفة، فقال له أما الكبار فقد عظمت رشوتهم. يعني هؤلاء الأموال هي التي تتحكم في مواقفهم، ولذلك لا تنتظر من هؤلاء يا أبا عبد الله موقفًا ناصرًا لك، لأن هؤلاء بعد مع الهوى مع هوى السلطة مع المال. وهذا ما يفسر لنا لماذا تخاذل الكوفيون عن نصرة مسلم بن عقيل، لأنه ما دام وصل ابن زياد إلى الكوفة وأصبحت السلطة بيد الأمويين، كل هؤلاء تراجعوا عن مواقفهم مع مسلم بن عقيل. لكن في المقابل كانت هناك قلوب محبة لأهل البيت. يذكر الطبري في بعض ترجماته أن عبيد الله بن زياد، التفتوا لهذه النقطة، ربما لا تذكر كثيرًا، كان لما علم بخروج الإمام الحسين من مكة وتوجهه إلى كربلاء، أرسل وفودًا لقتال الإمام الحسين، كتائب، كل كتيبة تتشكل من ألف فارس. لكن تذكر هذه النقولات التي ينقلها الطبري أن جملة من هذه الجموع التي كان يرسلها ابن زياد يرسل في الكتيبة ألف شخص، لكن لا يصل إلى كربلاء إلا 400 و300، والبقية يتفرقون في الأمصار لأنهم لا يريدون قتال الإمام الحسين.

 

هذا ماذا يكشف؟ هذا يكشف عن أن قسمًا من هؤلاء كانوا يحملون ولاء وحبًّا لأهل البيت، أو لا أقل معرفة بمقام الإمام الحسين سلام الله عليه. لكن لأن السلطة الأموية استطاعت أن ترشي هؤلاء، استطاعوا أن يجيشوا الجيوش على الإمام الحسين سلام الله عليه. ولذلك الإمام الحسين كان يعرف بأن مصيره إلى القتل والشهادة، وكان يعلم بأن سلطة بني أمية قادرة على أن تطاله ولو كان في مكة المكرمة ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة. ولذلك خشي الإمام الحسين سلام الله عليه أن تنتهك حرمة البيت الحرام بسببه، ولهذا عزم على الخروج من مكة المكرمة. لكن ينقل بعضهم أن الإمام الحسين لما أراد الخروج من مكة، جاء إلى زينب فطلب منها ثوبا. قال أخيّة زينب أريد ثوبًا لأصنع به عمامتي. يعني هذا مشهد متوقع أن الإمام الحسين شؤونه تقوم بها الحوراء زينب سلام الله عليها. قال أريد أن أحل من إحرامي. زينب مضت لتحضر هذا الثوب للإمام الحسين ودموعها تجري على خديها. لماذا؟ لأنها تعرف، هذا اليوم تقدم للإمام الحسين ثوبًا مخيطًا وبعد مدة تقدم للإمام الحسين جواد المنية. جاءت زينب بهذا الثوب للإمام الحسين، مضى الإمام الحسين يريد أن يتمم مناسكه ليعدل من إحرام الحج إلى إحرام العمرة المفردة. فجاء إلى البيت الحرام، طاف بالبيت، سعى بين الصفا والمروة. ولك أن تتصور عيون المسلمين تلاحقه، لكن قالوا ربما الإمام الحسين يأتي بأعمال عمرة التمتع، يعني لازال الإمام الحسين ناويًا على الحج. لكن حينما جاء الإمام وطاف طواف النساء، عرف المتابعون والمراقبون أن الإمام الحسين عدل عن الحج إلى العمرة. لذلك كانوا يترقبون من الإمام الحسين أن يكشف لهم عن الخبر.

 

تقول الرواية اعتلى منبرًا وأسند ظهره إلى جدار الكعبة وخطب خطبته المعروفة، يريد أن يفصح عن هدفه، عن رغبته في الخروج من مكة، أن عنده مشروعًا آخر الإمام الحسين، فخطب: "بسم الله وما شاء الله وصلى الله على جدي رسول الله، خُطَّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهنى إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا ملاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشًا جوفًا وأجربة سغبًا، لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين. ألا لن تشذ عن رسول الله لحمته، وأنها مجموعة له في حظيرة القدس تقر بها عينه وينجز بها وعده. ألا ومن كان باذلًا فينا مهجته - نادي نادي لبيك أبا عبد الله، كلنا كلنا بصوت واحد لبيك يا حسين - ألا ومن كان باذلًا فينا مهجته موطنًا لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل غدًا مصبحًا إن شاء الله".

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد