الليلة السادسة محرم 1446 هـ
الشيخ إسماعيل المشاجرة
البعد الحضاري الوافد ضمن نسيجنا المعرفي
مجمع أهل البيت (ع) - عمان (مسقط) -
من خطبة لسيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين خطبها في كربلاء، إن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت، يعني صارت مرة واستمرت حتى لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه.
صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. هذا المقطع من خطبة خطبها الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه في كربلاء حينما وصل معسكر عمر بن سعد، فكأنما هذه الخطبة تصف حالة الاستياء التي شعر بها الإمام الحسين سلام الله عليه حينما رأى كثرة جنود الباطل، هؤلاء أهل الكوفة الذين يمثلون شريحة مهمة من المجتمع الإسلامي، فهذه صورة مصغرة لواقع الأمة في ذلك العصر. فالإمام الحسين سلام الله عليه يبدي تذمره وتحسره وتألمه على هذا الحال الذي آلت إليه الأمة في تلك الفترة: "إن الدنيا قد تنكرت وتغيرت وأدبر معروفها واستمرت"، يعني صارت مرة حتى لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون أن الحق لا يُؤمر به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه. إذن هذا هو واقع الأمة لتلك المرحلة. الإمام الحسين سلام الله عليه يظهر تذمره وتألمه وتحسره على الوضع الذي آلت إليه أمة النبي المصطفى. هذا المعنى يعطي صورة مصغرة للواقع الذي نعيشه نحن اليوم. القرآن الكريم يصف آخر الزمان بأنه زمان تنتشر فيه المنكرات: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس". والروايات عن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله والعترة الطاهرة تصف هذا الحال: "القابض على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمر".
وفعلاً حينما تلقي نظرة بانورامية للواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية بل الأمة الإنسانية اليوم، ترى أن الظلم والجور والفساد والحرمان والفقر اجتاح الأرض. وهذا معنى أن الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف إذا خرج يملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. إذن واقع الأمة اليوم والواقع المعاصر للمجتمع تسوده ثقافة مادية، ثقافة لا ترحم، ثقافة أتت على حالة الرحمة، وحالة الرأفة، وحالة التراحم التي كانت سائدة في المجتمعات السالفة جفّت اليوم. أصبح المجتمع مجتمعاً مادياً بامتياز. ومن هنا نطرح تساؤلاً مهماً ونعنون به محاضرتنا حول البعد الحضاري الوافد ودوره في النسيج المعرفي للأمة. ونحن هنا نتحدث عن الأمة الإسلامية، كم يشكل من هذا الفكر وهذا البعد الحضاري الوافد. نحن في عصر العولمة، في عصر انفتحت فيه التيارات وأصبحت الأفكار الوافدة تغزو المجتمعات بلا ضابط. أصبح الفكر يصل إلى بيتك وإلى غرفتك من دون استئذان. وسائل التواصل الاجتماعي، الفضائيات، المنصات الإلكترونية كلها وسائل وأبواب توصل هذه الثقافة الوافدة، وأصبح المجتمع اليوم يعيش هذه الحالة. فتعالوا نتأمل حول هذه النقطة. نحن تحدثنا في الليالي الماضية في عدة محاضرات، كانت وجبة من هذه المحاضرات محاضرات تاريخية ترتبط بعاشوراء ونهضة الإمام الحسين سلام الله عليه على وجه التحديد. كانت مجموعة من المحاضرات التاريخية ثم انتقلنا إلى وجبة أخرى محاضرات فكرية، وبنائي أن أختم هذه الوجبة في الليلة القادمة، ثم من بعدها نشرع في محاضرات تربوية، ومن بعدها محاضرات عقائدية كوجبة أخيرة. لكن هذه الليلة ليلة جمعة وطبيعة ليلة الجمعة تحتاج إلى موعظة، تحتاج إلى رقة. لذلك لن أسهب كثيراً في البحث النظري الفكري، وإنما سأقسم المحاضرة إلى ثلاث وقفات أو ثلاثة محاور:
محور فكري تنظيري تنويري،
ومحور أو وقفة وعظية،
ومحور أخير وقفة حسينية.
تعالوا إلى الوقفة التنظيرية التنويرية، نطرح فيها تساؤلاً عريضاً: كيف استطاعت الثقافة المعاصرة، ونحن هنا نتحدث عن الثقافة الغربية على وجه الخصوص، هذا الفكر الوافد الذي أصبح اليوم مستشرياً في كل المجتمعات الإنسانية وليس فقط المجتمع الإسلامي، كيف استطاعت هذه الثقافة الوافدة ضمن مشروع حضاري نشهد آثاره، له ما له وعليه ما عليه، وعليه أكثر مما له؟ لكن مع شديد الأسف، نحن ننبهر بالمظاهر ونغفل عن الجواهر والمضامين التي بدأت تتفشى وبدأت تستشري وتتضح وتظهر للعيان آثارها الآن في السنوات الأخيرة. بدأنا نشهد انكشاف عورة هذا المشروع الحضاري: كيف أن فيه إجحافاً، كيف أن فيه ظلماً وغطرسة، وكيف أن الشائع والذائع من هذا المشروع هي قيم أصبحت اليوم تتنافى حتى مع الفطرة الإنسانية. مشروع للترويج للمثلية، مشروع للترويج للجندرية، مشروع للترويج للنسوية التي أصبحت تفكك الأسر.
أسر المجتمع الغربي أصبحت اليوم مفككة، ومع شديد الأسف بدأت هذه الظاهرة تسري إلى مجتمعاتنا وترمي أيضاً بآثارها وبثقلها على واقع مجتمعنا اليوم. فتعالوا نتساءل كيف استطاعت هذه الثقافة وهذه الحضارة، إن صح التعبير، أن تتغلغل في المجتمعات الأخرى وتسيطر على أفكارها. اليوم لك أن تتساءل كم مساحة هذا الفكر المعاصر في أذهان شبابنا وأبنائنا، بل وأذهاننا نحن أيضاً؟ وفي المقابل، كم نمتلك من ثقافة قرآنية، من ثقافة إسلامية؟ يعني إذا تعمل مقياساً وموازنة بين ما نمتلكه من معارف تنتمي إلى هذا المشروع الحضاري الوافد وبين ما نمتلكه من معارف تنتمي إلى تراثنا وإلى قيمنا وإلى قرآننا، لا ريب أن الكفة ستميل إلى الجانب الآخر. من هنا نطرح هذا التساؤل: ما هي الأسباب وما هي الاستراتيجية التي أوصلت هذا المشروع وهذا الفكر الوافد إلى هذه الحالة من الهيمنة والسيطرة؟ هنا، في الحقيقة، المنظرون والمفكرون الإسلاميون الذين كتبوا حول هذا السياق وفي هذا الموضوع أشاروا إلى بعدين: البعد الأول الأسباب، وهذه أظنها واضحة للجميع: القوة الاقتصادية التي يمتلكها المشروع الغربي، القوة الفكرية، القوة السياسية والعسكرية، القوة الإعلامية، القوة العلمية والتكنولوجية. بلا شك، هذه الأسباب هي أهم الأسباب التي جعلت هذا المشروع يسود في كثير من المجتمعات الإنسانية، باعتبار أنك إذا كنت تملك نقاط القوة فمن الطبيعي أن المجتمعات الضعيفة ستسعى إليه. إذاً الأسباب واضحة والحديث عنها يصبح حديثاً مكرراً ومعاداً.
لكن البعد الآخر، وهو الذي نريد أن نركز عليه الحديث في هذا المحور، ما هي الاستراتيجيات التي سلكها أصحاب هذا المشروع من أجل بث أفكارهم ونشر قيمهم ومبادئهم بهذه الحالة التي أصبحت كل المجتمعات الإنسانية اليوم تعيشها؟ نوع من التبعية، نوع من الهيمنة للفكر الوافد. هنا، في الحقيقة، يطرح المنظرون الإسلاميون عدة أطروحات وعدة تصورات. نحن نتعرض إلى اثنتين أو ثلاث من هذه الأطروحات.
الأطروحة الأولى ما يمكن أن نصفها باستراتيجية النفوذ. هذه الاستراتيجية يمكن استلهامها من كتابات بعض المفكرين الإسلاميين. لاحظ مثلاً عندنا مفكر فلسطيني أمريكي اسمه إدوارد سعيد. هذا بالرغم من أنه عاش في أمريكا إلا أنه عنده كتب نقدية كثيرة حول الحضارة الغربية. من أهم هذه الكتب كتاب يعتبر أهم كتبه على الإطلاق اسمه "الاستشراق". طبعاً نحن حينما نستحضر اسم مفكر من المفكرين ومنظر من المنظرين، لا يعني أننا نتقبل كل أفكاره وننزهه ونقدمه كنموذج ينبغي أن تقرأ أفكاره ونتأثر به لا، إنما نستحضر فكرة من أفكاره لكن تبقى الشخصية الفكرية لها ما لها وعليها ما عليها. ما نريد أن نستحضره من فكر هذا الرجل هو ما ذكره في كتابه "الاستشراق". طبعاً هذا توفي عام 2003، كتابه "الاستشراق" لا يزال إلى اليوم محل دراسات كثيرة وكتبت حوله رسائل جامعية. يقول في كتابه أن المشروع الاستشراقي هدفه الأول هو فرض الهيمنة الثقافية على الشعوب والمجتمعات النامية، دول العالم الثالث بتعبيرنا اليوم. ويشير في كتابه إلى عدة نقاط تؤكد هذه الأطروحة وتعمقها.
النقطة الأولى، طبعاً مشروع الاستشراق أشرت في الليلة الماضية إلى أنه بدأ في نهايات القرن السابع عشر الميلادي وبدايات القرن الثامن عشر واستمر إلى يوم الناس هذا. حركة الاستشراق في الحقيقة لم تخبُ ولم تنتهِ كما يشير إلى ذلك صاحب هذا الكتاب. يقول من أهم الأمور التي جعلت لمشروع الاستشراق أثراً كبيراً في هذه الاستراتيجية التي أشرنا إليها وعنونّاها في استراتيجية النفوذ أن هذا المشروع يقوم على عدة أمور.
الأمر الأول يقول إدوارد سعيد من الخطأ أن ننظر إلى أدوار المستشرقين على أنها أدوار فردية. كثير منا إذا قرأ سيرة ومواقف المستشرقين يقرأ سيرهم فرداً فرداً. يقول من الخطأ أن تنظر إلى حركة الاستشراق على أنها حركة أفراد عفوية، لا، لا. يقول هي حركة جماعية وقائمة على التدبير وعلى التخطيط وعلى توازع الأدوار وعلى الاستفادة من بعضهم البعض. يعني هو يعبر عن حركة الاستشراق بأنها حركة مؤسسية وليست حركة فردية. كثير ممن كتب حول الاستشراق والمستشرقين يدرس سير المستشرقين كأفراد فرد فرد، لا، إدوارد سعيد يقول إنها حركة جمعية، حركة مؤسسية، حركة قائمة على التدبير، حركة قائمة على خطط. يقول هذه نقطة ينبغي الالتفات إليها.
الأمر الثاني، أنها حركة تراكمية يعني ليست حركة جمعية على مستوى عرضي وأفقي فقط، لا، وإنما أيضاً حركة جمعية على مستوى عمودي، يعني كل من المستشرقين، كل طبقة من المستشرقين جاءت تستفيد من الطبقة التي قبلها والطبقة التي بعدها تستفيد منها. إذاً هو عمل تراكمي، وطبيعة الحال إذا كان العمل عملًا جماعيًّا وعملًا تراكميًّا ستصبح التجربة أعمق وأهم.
الأمر الثالث، يقول كانت حركة الاستشراق تتحرك جنباً إلى جنب مع ما يعرف بحركة الاستعمار، الاحتلال والنفوذ الذي مارسه الغرب بقواه العسكرية. لكن الفارق أن حركة الاستعمار كانت أدواتها المدفع والسلاح بينما حركة الاستشراق كانت أدواتها القرطاس والقلم. ولذلك يقول بقدر ما كان مشروع الاستعمار يبحث عن الثروات الاقتصادية كان مشروع الاستشراق يبحث عن المعارف والثقافات التي كانت سائدة عند الشعوب. كان همّ المستشرقين المكتبات والمخطوطات، ولذلك انتقل كم هائل من المخطوطات العربية والإسلامية إلى المجتمع الغربي وبعض هذه المخطوطات إلى اليوم لم يفصح عنها المستشرقون. يعني قسم من المخطوطات التي كانت معروفة في المجتمعات الإسلامية قبل ٢٠٠ و ٣٠٠ سنة أخذها المستشرقون وإلى اليوم لا يزال بعضها مخفياً وغير معلن.
الأمر الرابع، أن حركة الاستشراق لم تركز فقط على التراث الثقافي والمعرفي، لا، وإنما أيضاً درسوا العادات والتقاليد وطرق العيش ونقاط القوة ونقاط الضعف لكل مجتمع من المجتمعات. وهذه أعطتهم خبرة كبيرة في توظيف أدواتهم فيما بعد.
النقطة الخامسة، أن هذا المشروع مشروع الاستشراق كان يمتلك خطة تدبيرية مع أصحاب النفوذ في المجتمع الغربي، يعني كان أصحاب السياسة والهيمنة والقوة في المجتمع الغربي يستفيدون بقوة من معطيات حركة الاستشراق.
الأمر الأخير الذي يختم به إدوارد سعيد كلماته، طبعاً كلامه مبثوث ومن كتابه، أنه واهم من يقول إن حركة الاستشراق توقفت. لا، يقول لا نزال نعيش إلى اليوم حركة استشراق، لكن بأثواب مختلفة وبألبسة مختلفة.
إذاً من خلال هذا المشروع الذي قام على دراسة مجتمعنا والتعرف على نقاط القوة والضعف عندنا ودراسة عاداتنا وتقاليدنا استطاع المشروع المعاصر أن ينفذ وعرف كيف يسوق لأفكاره وكيف يوصل ثقافته إلى مجتمعاتنا. ومن هنا يطرح بعض المفكرين الإسلاميين أيضاً كمعالجة لهذه الحالة يقول ينبغي للمجتمع الإسلامي بشكل عام والمجتمع العربي بشكل خاص أن يستفيد من دراسة مشروع الاستشراق وينحى كردة فعل ومعالجة لهذا الواقع الذي نعيشه اليوم. إذا أرادت الأمة الإسلامية أن تنهض من هذه الحالة ومن حالة التبعية الفكرية للمعسكر الآخر فينبغي أن يكون عندها مشروع مضاد. ما هو المشروع المضاد الذي يقترحه بعض الكتاب؟ ما يطرحه دكتور حسن حنفي. هذا من المفكرين المصريين له ما له وعليه ما عليه، لكن يطرح مشروعًا مقابلًا لمشروع الاستشراق يسميه مشروع الاستغراب. يعني يجب أيضاً أن نمارس نحن نفس الدور، فنقوم بدراسة الواقع والمجتمع الغربي ونتعرف على نقاط القوة عندهم فنستفيد منها ونتعرف على نقاط الضعف عندهم حتى نقاوم الأفكار الوافدة ونقاوم الثقافة الوافدة التي أخذت من مجتمعاتنا مأخذاً كبيراً.
إذاً الأطروحة الأولى تسمى أطروحة النفوذ. الأطروحة الثانية هي أطروحة الهيمنة. وهذه أيضاً يطرحها بعض المفكرين والمنظرين. التفتوا إلى هذه الفكرة. يقول أصحاب هذه الأطروحة إننا إذا استقرأنا تاريخ المجتمعات والحضارات التي هيمنت على مجتمعات أخرى، يقولون خذ على سبيل المثال الحضارة الإسلامية حينما وصلت إلى المجتمعات الأخرى، حينما غزت أوروبا في الأندلس وغزت أطراف آسيا وغزت أطراف وشمال الكرة الأرضية، بلاد القوقاز، بلاد الصين شرقاً، بلاد الأندلس غرباً، شمال إفريقيا وأواسط إفريقيا جنوباً، حينما نقرأ تجربة الحضارة الإسلامية نجد أن الحضارة الإسلامية لم تستعمل أسلوب الهيمنة والفرض. التفت إلى هذه النقطة المهمة جداً. يقولون الحضارة الإسلامية حينما نشرت الإسلام ونشرت الدين الإسلامي في أقطار مختلفة إنما هي أوصلت ثقافة دينية، أوصلت مبدأ دينياً، رسالة وشريعة، لكن لم تفرض على الناس أسلوب عيش خاص. بقيت المجتمعات الأخرى، كل مجتمع يعيش وفق أساليبه الحياتية، وفق عاداته وتقاليده، نعم يكيّفها بما يمليه الدين وبما يقتضيه الدين، لكن لم تصادر الحضارة الإسلامية ثقافات المجتمعات الأخرى. أنت تذهب إلى المجتمعات الشرقية ترى إسلامًا ولباسًا خاصًّا بهم، عادات وتقاليد خاصة بهم، تذهب إلى إفريقيا ترى إسلامًا ولباسًا إفريقيًّا محافظًا عليه كما هو، عادات وتقاليد كما هي.
إذاً فالإسلام وصل إلى مجتمعات أخرى لكن لم يصادر هوية المجتمعات، على عكس الحضارة الغربية اليوم. حينما يفد إلى مجتمعات يصادر عاداتهم تقاليدهم وطريقة لبسهم وأطعمتهم. أنت اليوم ألقِ نظرة على المجتمع الإنساني بشكل عام، ترى تأثره بالحضارة الغربية والفكر الغربي الوافد، صودرت حتى العادات والتقاليد. أصبح اللباس لباساً واحداً، الأطعمة أطعمة واحدة، طريقة العيش. نريد أن نشبه أنفسنا بهم في كل شيء، وهذا في الحقيقة أمر يكشف عن أن المشروع الحضاري المعاصر مشروع يمارس حالة الهيمنة. ولهذا يعلق بعض المفكرين، يقول حتى اللباس أراد الغرب أن يفرضه على المجتمعات الأخرى. ولذلك في الحقيقة مررت على هذه النقطة، أرى من وظيفتي ومن المهم أن أشيد بهذا المجتمع، المجتمع العماني، لما يتميز به بوضوح الإصرار على محافظته على هويته، على قيمه، على عاداته، على تقاليده. لاحظ مثلاً اللباس عندكم في هذا المجتمع الطيب، حفاظ واضح على اللباس التقليدي، بينما مجتمعات إسلامية وعربية أخرى حينما تمضي إليها ترى اللباس التقليدي يكاد يكون انقرض منها. إذاً بقدر إصرار المجتمعات في الحفاظ على هويتها وعلى عاداتها وتقاليدها، ونحن نتحدث عن العادات والتقاليد التي لا تتقاطع مع القيم الدينية، بقدر ما يكون عنده هويته الخاصة فلا يتأثر بالأفكار الوافدة. إذاً الأطروحة الثانية تعرف بأطروحة الهيمنة. ويطرح أصحاب هذه النظرية أن الهيمنة التي طرحها المشروع الآخر مرت بمستويات.
المستوى الأول الهيمنة التعليمية. ترى التعليم في المجتمعات الشرقية ومجتمعات العالم الثالث متأثرة بشكل كبير بأساليب التعليم ومناهج التعليم في المجتمع الغربي، وهذا أمر طبيعي ما دام عندهم إسهامات كبرى في المجال التعليمي وشغل امتد على مدى قرون في النظريات العلمية، طوروا علومهم، العلوم الطبيعية، العلوم الإنسانية، فمن الطبيعي إذا كانت عندك قدرة علمية تفوق قدرة الآخرين أن الآخرين سيستفيدون منها وسيتأثرون منها. ومن هنا بدأت القضية بالهيمنة التعليمية.
المستوى الثاني الذي تلا الهيمنة التعليمية الهيمنة الفكرية. ما دامت المعارف والعلوم تستورد من المشروع الآخر، طبيعي أن أساليب التفكير وطرق التفكير والنظريات الفكرية المؤثرة أيضاً ستستورد من المشروع الآخر. ولذلك أصبحت أيضاً هناك هيمنة فكرية. اليوم لا أحد يقدر أن يكتب في قضية فكرية ويتجاوز ما طرحه المفكرون الغربيون. تريد أن تتحدث في علم الاجتماع يجب أن تتطرق إلى ما طرحه دوركايم وسبنسر وأوغست كونت وغيرهم من علماء الاجتماع. تريد أن تتحدث في علم النفس لابد أن تتناول ما طرحه فرويد وويليام جيمس وبافلوف وغيرهم من علماء النفس الغربيين.
إذاً فنحن أمام أيضاً هيمنة. يعلق أصحاب هذه الأطروحة، ويقولون لو بقي الأمر عند هذا الحد لربما يمكن للمجتمعات الأخرى أن تنهض في يوم من الأيام وتقدم معطياتها العلمية ومعطياتها الفكرية، وتستطيع من خلال بضاعتها أن تزاحم البضاعة الأخرى وربما تستغني عنها. لكن الذي حصل أنه حصل هناك مستوى ثالث من الهيمنة هي الهيمنة المفاهيمية. ماذا تعني الهيمنة المفاهيمية؟ أصبحت اليوم المفاهيم التي نفكر بها يفصّلها المشروع الآخر كما يريد. إذا أردنا أن نتكلم عن مفهوم الحرية، فمفهوم الحرية اليوم الذي نفكر به إنما هو مفهوم فصله الغرب بالطريقة التي يراها هو. كذلك مفهوم الديمقراطية مفهوم فصله الغرب بالطريقة التي يراها هو.
مفهوم حقوق المرأة، حقوق الطفل، كل المفاهيم المؤثرة والحيوية الحساسة والمهمة التي ترتبط بمصير المجتمعات والأمم، هذه المفاهيم فصلت ونحتت في المصانع الفكرية الغربية. ومن هنا أصبحت هناك هيمنة حتى على مستوى المفهوم. إذاً فنحن أمام هيمنة علمية معرفية وهيمنة فكرية وهيمنة مفاهيمية، وهذا ما يجعل الثقافة الوافدة ثقافة تبقى في المجتمعات إلى عشرات السنين إذا لم يطرح المجتمع الإسلامي مشروعاً مناوئاً في قبال هذا المشروع. يجب على المجتمع الإسلامي أن يعتدّ بهويته، وبتراثه، وبقيمه، وبتنظيراته فيبني له مشروعاً فكرياً بمعزل عن طرق التفكير التي نستوردها من الآخر. إذاً فنحن أمام أطروحة تؤكد على أن هناك استراتيجية الهيمنة بحيث تستوعب حتى الهيمنة المفاهيمية. إذاً فهذه الأطروحة الثانية التي من خلالها يمكن أن تفهم كيف استطاع المشروع الآخر أن يستوعب ويهيمن على المجتمعات الأخرى.
الأطروحة الثالثة ما تعرف بأطروحة الحرب الناعمة. وهذه نظرية لها مفكرون غربيون كثر. هناك كتاب لدبلوماسي أمريكي اسمه جوزيف ناي اسمه القوة الناعمة أو الحرب الناعمة. التفتوا إلى هذه النقطة. نحن نطرح هذه الأمور حتى يتوعى الإنسان ويعرف كيف يتعامل مع الأفكار الوافدة. يجب أن تجتهد في أن تكون عندك حصانة للاعتداد بهويتك، للاعتداد بقيمك، للاعتداد بشخصيتك، للاعتداد بتراثك، لا أن تصبح إنساناً تابعاً، سريعاً ما تتنازل عن أفكارك، سريعاً ما تتنازل عن هويتك. لا، هناك استراتيجيات عمل. إذا التفتنا إليها نصبح على وعي ونصبح قادرين على الحفاظ على هويتنا وقيمنا ومبادئنا. أطروحة القوة الناعمة تقول إن ما يطرحه هذا جوزيف ناي في كتابه القوة الناعمة، يقول اليوم أصبحت الحرب ليست حرباً عسكرية، لا، يقول أصبحت حرباً فكرية.كيف ذلك؟ يقول الحرب الفكرية ليست قائمة على القوة والهيمنة والإجبار والقهر. لا، الحرب الفكرية قائمة على أسلوب الإقناع.
ماذا يعني أسلوب الإقناع؟ كيف تستطيع أن تجعل الآخر يريد ما تريد، ويبدأ هو يروج لأفكارك من حيث لا يشعر. يقول هذا لا يتم إلا إذا استطعت أن توفر حالة الجاذبية لك. إذا استطعت أن تقدم مشروعك بشكل ملمع، بشكل منمق، بشكل جذاب، سينجذب الآخرون إلى مشروعك وسيبدأ الآخرون هم يروجون لمشروعك بمحض إرادتهم. إذاً القوة الناعمة والحرب الناعمة لا تقوم على الجبر والإكراه، وإنما تقوم على مدى الجاذبية، أن تقدم مشروعاً براقاً لامعاً فيصبح الآخرون هم من يروجون لمشروعك بمحض إرادتهم. وهذا ما نعيشه اليوم. اليوم المجتمع الغربي يقدم مشروعه كنموذج، يقدم مشروعه كأنموذج تقتدي به المجتمعات الأخرى، وكثير من المجتمعات الأخرى اقتنعت بهذه الأطروحة، فصارت تروج لهذا النموذج بمحض إرادتها. تطرح فكرة قائمة على جانب تراثي، على جانب قيمي، سرعان ما تُرمى بالرجعية، سرعان ما تُرمى بالتخلف. هل تريد التحضر؟ هل تريد العصرنة؟ لا، يجب أن تستورد تلك النماذج الشائعة في المجتمعات المتحضرة. من الذي صاغ مفهوم التحضر ومفهوم التخلف؟ من الذي صاغ مفهوم التحضر ومفهوم التخلف؟ المشروع الآخر. وصوّر كل ما يعارض أطروحته على أنه تخلف. إذاً من الطبيعي أن المجتمعات الأخرى ستنخدع بأطروحاته لأنها تعتبرها أطروحات متحضرة معاصرة. استهداف وسيطرة على العقول، ومتى ما استطعت أن تهيمن على عقل الآخر أصبح الآخر يفكر نيابة عنك ويسوق لمشروعك نيابة عنك. وهذا كما قلت ما نجده بوضوح في مجتمعاتنا الإسلامية التي تنادي بتكرار التجربة الحضارية الأخرى. نعم الحمد لله في السنوات الأخيرة بدأت تتكشف بعض عورات هذه المشاريع الوافدة، لكن لا يزال المجتمع إلى اليوم يعيش تحت هذا التصور. ولذلك بمجرد أن يُطرح طرح تراثي، أو طرح يرتبط بقيمنا، يرتبط بعاداتنا، يرتبط بتقاليدنا، سرعان ما يُرمى مثل هذا الطرح بأنه طرح متخلف، طرح رجعي، طرح غير متحضر. على كل حال الحديث قد يطول، لكن تعالوا ننتقل إلى المحور الثاني والى الوقفة الثانية،
وهي كما قلت وقفة وعظية، وقفة نستذكر فيها تراثنا، نستذكر فيها قيمنا، نعود شيئاً ما إلى واقعنا، إلى حقيقتنا، إلى هويتنا، إلى انتمائنا. نحن نقدم أنفسنا للمجتمعات الإنسانية على أننا مسلمون، والقيم الإسلامية منبعها القرآن، منبعها أقوال النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، منبعها أقوال العترة الطاهرة. إذاً بمقدار انتمائنا لتراثنا، بمقدار حفاظنا على هويتنا، لا ينطلي عليك هذا الطرح. يجب أن نكون حريصين على إبقاء التراث، وهذا ما يفسر لك هذه الهجمات الشرسة تجاه التراث، وتجاه النصوص الدينية، وتجاه الخطاب الديني، وتجاه الفهم الديني، وتجاه المؤسسات الدينية. لأن هؤلاء رأوا أنه إذا بقي للمؤسسة الدينية وللخطاب الديني وللتراث الديني حضور، فلن يمر مشروعهم وثقافتهم ورؤيتهم. ومن هنا يجب أن يكون عندنا موقف مضاد. الحفاظ على الهوية يعني الحفاظ على التراث، يعني الحفاظ على الدين، يعني الحفاظ على الخطاب الديني التقليدي الذي من شأنه أن يعزز القيم. نعم، لا مانع أن تستفيد من الآخرين، لا مانع أن تأخذ من منجزات الآخرين، لكن مع الحفاظ على هويتك، مع الحفاظ على انتمائك. وهذا ما تؤكده روايات أهل البيت سلام الله عليهم. لماذا هذا التأكيد على ضرورة الالتصاق بالقرآن؟ لماذا هذا الحث المتواصل من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله؟ والروايات متواصلة إلى أمير المؤمنين، إلى الحسنين، إلى الإمام الباقر، إلى الإمام الصادق، إلى الأئمة المتأخرين، والروايات كلها تؤكد على ضرورة الالتصاق بالقرآن. مما يعني أن هذه الروايات تتنبأ بمستقبل سيصبح فيه النظر إلى القرآن والنظر إلى التراث على أنه حالة من حالات الرجعية، حالة من حالات عدم العصرنة وعدم المواكبة.
ولذلك نرى الروايات عن أهل البيت سلام الله عليهم تؤكد على ضرورة التحفظ على قيم القرآن، والتمسك بالقرآن، ومدارسة القرآن. وأنا أقرأ لك باقة من الروايات التي تؤكد على هذا المعنى. لاحظوا هذه الرواية الواردة عن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وكل واحد يسمع هذه الروايات يصنف نفسه على خانة الاهتمام بالقرآن، أين قيم القرآن وتمسكنا بالقرآن؟ أما إذا لم نتدارس القرآن وأهملناه وابتعدنا عنه وابتعدنا عن قيمه، "فدرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن ورجحان الميزان". وورد عن أمير المؤمنين سلام الله عليه "تعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص". الإمام الصادق "ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن"، يعني لابد أن تضع من أهدافك في هذه الحياة أن تدرس القرآن، أن تتعلمه. الإمام الصادق يقول لا ينبغي للمؤمن أن يموت إلا وقد تعلم القرآن. كم مقدار تعلمك من آيات القرآن. النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يقول "القرآن مائدة الله، مائدة عرضها الله للعباد، فما زهدك في هذه المائدة وما إقبالك عليها. القرآن مائدة الله، فتعلموا من مائدته ما استطعتم". الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه يقول لما سمع ضجة أصحابه في المسجد وهم يقرؤون القرآن، قال "طوبى لهؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول الله"، يعني النبي صلى الله عليه وآله كان يحب من أصحابه من يتدارس القرآن ويتلو القرآن. النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أختم بهذه الرواية: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده". إذاً حث نبوي على أن تكون هناك مجالس للذكر، مجالس لتدارس القرآن الكريم. أيضاً ما يتمم معارف القرآن معارف أهل البيت سلام الله عليهم، لأنهم هم عدل قرآن، هم القرآن الناطق. من دون معارف أهل البيت لا تتكشف لك معارف القرآن. ولذلك ورد عنهم سلام الله عليهم التأكيد على ضم معارفهم إلى معارف القرآن. من دون معارف أهل البيت لا يمكن أن تهتدي إلى المضامين القرآنية الصحيحة. يقول الإمام الباقر مخاطباً بعض من حضر عنده: "شرقاً وغرباً لن تجد علماً صحيحاً إلا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت". الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه يقول: "إن العلم الذي هبط به آدم وجميع ما فضل به النبيون إلى خاتم النبيين إنما هو في عترته". هذا الذي نعبر عنه بأنه تراث، وأن التراث مليء بالروايات الضعيفة، التراث مليء بالأشياء غير المقبولة. اقرأ التراث، ادرس التراث، تفحص التراث، تعرف على الصحيح من التراث، لا أن تُعرض تماماً وتزهد في التراث.
عن أمير المؤمنين سلام الله عليه يقول: "لو اقتبستم العلم من معدنه وشربتم الماء بعذوبته، لنهجت بكم السبل وبدت لكم الأعلام". يشير إلى ضرورة أخذ معارف أهل البيت سلام الله عليهم. ونصوص الأئمة تبرهن أن معارفهم هي معارف رسول الله. لاحظوا هذه الرواية المروية عن الإمام الحسين سلام الله عليه. في طريقه إلى كربلاء لقيه رجل من أهل الكوفة في الثعلبية، منزل من المنازل التي نزل الإمام الحسين في طريقه إلى كربلاء، فقال له الحسين عليه السلام: من أي البلاد أنت؟ قال: من أهل الكوفة. ماذا قال له الإمام الحسين: أما والله يا أخي أهل الكوفة لو لقيتك في المدينة، لو جئت زائراً لنا في المدينة المنورة في بيوتنا، لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرائيل عليه السلام من دارنا ونزوله بالوحي على جدنا، يا أخا أهل الكوفة، إنما مستقى الناس من العلم من عندنا، يقول له إذا أردت المعارف الصافية النقية فخذها من عترة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.
إذاً نحن بأمس الحاجة أن نحيي التصاقنا بالتراث، أن نسأل أبناءنا ونرى كم يحفظون من رواية من روايات أهل البيت، كم يحفظون رواية من روايات النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، كم يتقنون من فهم رواية من روايات أهل البيت. هذه مسؤولية تربوية. اليوم بقدر ما تغذي ابنك من تراث أهل البيت بقدر ما تحصنه من الفكر الوافد. أما تترك الحبل له على الغارب، وسائل التواصل الاجتماعي 24 ساعة تغذيه أفكارًا وقيمًا من هنا وهناك، ثم تتحسر وتتندم ماذا أصنع؟ كيف أربي أبنائي؟ تربي أبناءك بأن تلصقهم بالقرآن، تلصقهم بمعارف أهل البيت سلام الله عليهم.
إذاً هذا جانب مهم إذا أردنا أن نهيئ أنفسنا لمشروع إسلامي في قبال المشروع الوافد. يجب أن نعتز بقيمنا، نعتز بانتمائنا، نعتز بمعارفنا. الجانب الآخر، وهذا جانب تتفوق فيه الحضارة القرآنية والحضارة الإسلامية بوضوح على الحضارات الأخرى. اليوم الغرب يعيش حالة تعطش روحي كبير، وكثير من مفكريه وكباره، أنا عندي قصص كثيرة، لكن لا يسع المجال لطرحها، لمفكرين وبعضهم مبشرون وقساوسة اتصلوا بالقرآن فتركوا ديانتهم وانتموا إلى القرآن لأنهم رأوا فيه الفيض الروحي ورأوا فيه ما يروي عطشهم وظمأهم. هناك حالة جفاف روحي بالمشروع الآخر. هذا الجفاف الروحي لا يمكن أن ننعشه عندنا إلا بتذكر الموعظة، إلا بقراءة آيات القرآن بين فترة وأخرى، إلا بقراءة مواعظ أهل البيت. تعالوا نسمع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كيف يعظ أبا ذر الغفاري. أقرأ عليك شيئاً من موعظة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ووصيته لأبي ذر الغفاري حتى نعيش هذه الحالات الروحية، ننعش أرواحنا. الليلة ليلة جمعة، ليلة قرب من الله، ليلة عبادة، تعالوا نعيش هذه الأجواء الروحية من خلال توصيات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.
تصور نفسك مكان أبي ذر، النبي يخاطبك كما يخاطب أبا ذر. "يا أبا ذر، اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك. يا أبا ذر، إياك والتسويف بأملك، فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غداً لك فكن في الغد كما كنت في اليوم. يقول النبي أنت لا تضمن أن غداً لك أو ملكك. أنت تضمن أن يومك هذا عندك ولك، لكن لا تضمن أن الغد لك، فإذا صار الغد لك فانظر إليه على أنه هو ما تملكه وما عندك، معرفة أن ما بعد غد يكون لك. بعبارة أخرى، اجعل تصورك لليوم الذي تعيش فيه أنه آخر يوم من حياتك. ماذا تريد تصنع في هذه الحياة الدنيا إذا قيل لك بأن هذا اليوم آخر يوم من حياتك؟ كيف تبادر لترتيب أولوياتك؟ هكذا يقول النبي لأبي ذر. يا أبا ذر، انظر دائماً إلى اليوم الذي بين يديك بأنه ملكك ولست بما بعده، فإن يكن غداً لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، فإن لم يكن غداً لك لم تندم على ما فرطت. لماذا؟ لأنك تعاملت مع هذا اليوم على أنه آخر يوم من حياتك. يا أبا ذر، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وكم من منتظر غداً لا يناله. يا أبا ذر، لو نظرت للأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره، يا أباذر كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل وعدَّ نفسك في أهل القبور، يا أباذر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك فإنك لا تدري ما اسمك غداً، يا أباذر إياك أن تغفل عن النار، يا أبا ذر كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك. يا أبا ذري تطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من النار فيقولون ما أدخلكم النار وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم فيقولون إنا كنا نأمر بالمعروف ولا نفعله، يا أباذر إنكم في ممر الليل والنهار، في آجالٍ منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة. الموت طبيعته أنه يأتي بغتة. فمن يزرع خيراً يوشك أن يحصد زرعه، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع. يا أبا ذر، إن المؤمن يرى ذنبه كأنه صخرة وقعت عليه، وإن الكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مر على أنفه. انظر إلى نفسك كيف تنظر إلى الذنب، الذنب سهل عندك يسير أم أنه ثقيل؟ إن المؤمن يرى ذنبه كأنه صخرة وقعت عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مر على أنفه. يا أبا ذر، لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت. يا أبا ذر لا تنطق فيما لا يعنيك، فإنك لست مسؤولاً منه في شيء. واخزن لسانك كما تخزن رزقك، لا تجعل لسانك متبرعًا دائماً لا. كن شحيحاً بالكلمة، لا تتكلم إلا إذا كان الأمر يستدعي أن تتكلم. ما زهد عبد في الدنيا إلا أثبت الله الحكمة في قلبه".
وهكذا نرى أمير المؤمنين سلام الله عليه يؤدبنا ويعلمنا كيف نعيش حالة التحسر، حالة التذكر للآخرة. أبو الدرداء ينقل لنا مناجاة أمير المؤمنين: "آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها. فتقول خذوه يا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته. آه آه من نار نزاعة للشوى. آه آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه آه من غمرة من لهبات لظى". إذاً هكذا ربى أمير المؤمنين أصحابه. ولذلك رأينا حبيب بن مظاهر صاحب هذه الليلة. كيف هي تربية أمير المؤمنين لحبيب؟ بشكل سريع ومختصر كيف نصر الإمام الحسين؟ كيف كان يتفانى في نصر الإمام الحسين؟ يقول في يوم من الأيام كان حبيب جالساً مع زوجته يتناول الغداء. وفجأة غصت امرأته في اللقمة، قالت له إن صدق ظني يأتيك رسول كريم بكتاب كريم. ما أتمت كلامها إلا والباب تطرق. فتح الباب وإذا به رسول الحسين، رسالة إلى حبيب "من الحسين بن علي إلى حبيب بن مظاهر الأسدي، قد أقمنا في كربلاء، والسلام". وحبيب فقيه يعرف الإشارة، عرف أن الحسين يطلب منه التعجل والقدوم إلى كربلاء. يظهر أن أبناء عمومة حبيب سمعوا بالخبر، جاءوا إلى حبيب وقالوا له: يا حبيب، يزيد سلطان والحسين سلطان، وما لنا والدخول بين السلاطين. أرادوا أن يثبطوه عن المضي إلى كربلاء. فيقول الدربندي: أطرق حبيب برأسه إلى الأرض، يعني كأنما قبل نصيحتهم تقية منهم، فقبلوه في جبينه ومضوا وانصرفوا. زوجة حبيب كانت خلف الباب وتسمع المحاورة. دخل حبيب، بمجرد أن أغلق الباب قالت له: حبيب، أصحيح أنك لا تمضي إلى نصرة الحسين؟ أراد حبيب أن يمتحنها، أن يرى مدى محبتها للحسين وآل الحسين، سكت لم يجبها. أخذت تقول له: "يا حبيب، لا تخلّ نصرته بكربلاء، بكربلا يقولون شبل المصطفى حط الخيم. ماله ناصر يا حبيب، وعنده أطفال وحرم، وإن كان راح حسين ما يرتفع للشيعة علم.. وظل حبيب يعاين لها وغصب هلت دمعته، صاح ما يحتاج هالنخوات بطلي من الحنين وأنا عبد ابن البتولة وعبد أمير المؤمين، ذاب قلبي من اسمعت في كربلا خيم حسين واسمع يقولون جيمان الأعادي حاطته" وفعلاً عزم حبيب على الذهاب إلى كربلاء وما هي إلا ساعات ووصل إلى كربلاء، جاء إلى الحسين وجثى على ركبته قال أبا عبد الله لي إليك هدية أرجوا أن تقبلها لأفوز، قال له الحسين: وما هي هديتك؟ قال: روحي التي بين جنبي، قال له: قبلت الهدية انهض!
ولما كان يوم العاشر من المحرم، برز حبيب إلى القوم وقتل منهم مقتلة على كبر سنه حتى استشهد، ووقف على مقتله الإمام الحسين عليه السلام: "قال رحمك الله ياعم لقد كنت تختم القرآن في ليلة واحدة".
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
السيد عادل العلوي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (7)
العلاقة بين المعجزة والوحي
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الزهراء.. الحزن الأبدي
ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
الصّحيفة الفاطميّة
السّعيد محاضرًا حول آليّات التّعامل الإيجابيّ مع الإنترنت والوسائل الرّقميّة
منتظرون بدعائنا
الشيخ صالح آل إبراهيم: ما المطلوب لكي يكون الزواج سعيدًا؟
آيات الأنفس الأولى