مقالات

فاطمة جبل الصمود (2)

 

السيد منير الخباز
المحور الثاني: معنى لقب أم أبيها.
الزهراء لُقِّبَت بألقاب عديدة: الزهراء المحدِّثة، المحدَّثة، العليمة، الراضة، المرضية، الزاكية، الزكية... إلخ، ومن ألقابها: أم أبيها، فما معنى أم أبيها؟ نركز على هذا اللقب. أم أبيها إشارة إلى ثلاث علاقات: علاقة عاطفية، علاقة وجودية، علاقة نورية، للإشارة إلى هذه العلاقات الثلاث كُنِّيَت ولُقِّبَت بأنها أم أبيها.
العلاقة الأولى: العلاقة العاطفية.
كيف كانت علاقة النبي بالزهراء من الناحية العاطفية؟ سئلت عائشة كما في مستدرك الحاكم: من أحب النساء إلى رسول الله؟ قالت: فاطمة. ومن أحب الرجال إليه؟ قالت: زوجها علي. مستدرك الحاكم عدة أحاديث ينقل عن عائشة، تتحدث عن هذه النقطة: علاقة النبي بفاطمة. تقول: ما رأيت أشبه هديًا وسمتًا ودُلًّا برسول الله   من ابنته فاطمة - هي أشبه الناس به، في قيامها، في قعودها، في حديثها - وكانت إذا أقبلت إليه قام إليها، وقبّل ما بين عينيها، وأجلسها مجلسَه «يجلسها مجلسه، ويجلس بين يديها يتحدث إليها».
وقالت له يومًا: يا رسول الله، أراك تكثر تقبيل فاطمة، وهي امرأة ذات زوج! قال: ”يا عائشة، إني لما عُرِج بي إلى السماء أدخلني جبرئيل الجنة، فناولني تفاحة منها، فأكلتها، فنزلت إلى صلبي، ثم واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، فكانت فاطمة حوراء إنسية، وإني كلما اشتقت لرائحة فاطمة قبّلتها وشممتها“.
فاطمة بينها وبين الرسول علاقة حميمة، تعرفون أن الرسول عاش يتيمًا، الرسول ما ذاق حنان الأمومة، الرسول ما ذاق حنان الأبوين، كما يذوقه أي إنسان يعيش بين أبوين، فاطمة كانت عوضًا عن أمه، فاطمة ابنته عوّضته عن أمه، أشبعته بالمشاعر والحنان والعطف والرأفة، حتى أنه ما فقد حنان أمه وفاطمة بين يديه، فاطمة ابنته لكنها كانت تغدق عليه الحنان والعطف كأمه. تتلقاه إذا أتى، أول من يستقبل فاطمة، آخر من يودّع فاطمة، هي التي تستقبله، تداوي جراحه، تمسح عرقه، تخفّف عنه، تسليه، تقف إلى جانبه، فاطمة أم أبيها في حنانها، في عطفها.
 

العلاقة الثانية: العلاقة الوجودية.
كل إنسان له مصدران: مصدر حدوثي، ومصدر بقائي. مصدر الحدوث أمه، أمه هي التي أحدثته من رحمها، لكن مصدر البقاء كيف يتحقق؟ إذا مات الإنسان كيف يبقى؟ الإنسان له مصدران: مصدر لحدوثه، ومصدر لبقائه. كذلك كان رسول الله  ، له مصدر لحدوثه، هي أمه آمنة بنت وهب «رضي الله تعالى عنها»، ولكن مصدر بقائه، كيف بقي رسول الله؟
إنما بقي بفاطمة، لولا فاطمة لما بقي ذكر رسول الله، لولا فاطمة لما بقي ذرية رسول الله، شاء الله أن يكون رحم فاطمة مصدرًا لاستمرار رسول الله ولبقائه على الأرض من خلال ذريته ونسله، فكانت فاطمة مصدرًا لبقائه كما كانت أمه مصدرًا لحدوثه، ولذلك سُمِّيَت فاطمة أمَّ أبيها؛ لأنها مصدر بقائه من خلال ذريتها وأولادها، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بالكوثر، ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، والكوثر الخير الكثير؛ لأنها مصدر ذريته  .
 

العلاقة الثالثة: العلاقة النورية.
هناك نوران: نور النبوة، والذي اقترن به ابتداع الوجود، وابتداع السماوات والأرض، وهناك نور الإمامة، وهو الذي اقترن به خلق السماوات والأرض، وتقدير السماوات والأرض، وهناك نورٌ شكّل حلقة الوصل بين نور النبوة، وهو نور الابتداع، ونور الإمامة، وهو نور التقدير، ذلك النور الذي شكّل حلقة الجمع بينهما - ألا وهو نور الانفطار - نور فاطمة  ، لأجل ذلك كانت فاطمة أمًا له؛ لأنه بنورها تحقق الوصال بين نوره وبين نور الإمامة، نور علي  .
فاطمة الجوهرة القدسية، حلقة الوصل بين النبوة والإمامة، حلقة الوصل بين عالم الابتداع وعالم التقدير بعالم الانفطار، لذلك ابتدأ حديث الكساء بفاطمة، ”ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضًا مدحية، ولا قمرًا منيرًا، ولا شمسًا مضيئة، ولا فُلكًا يسري، ولا بحرًا يجري، إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء. قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها“.

صفحات من عطائها ونضالها:
فاطمة نهرٌ من العطاء، العطاء الاجتماعي، والعطاء [...]، فاطمة التي تحث أطفالها على الصدقة، تحث أبناءها على التضحية بأقراصهم التي لولاها سيبيتون كالفراخ، فاطمة كانت تشجع أبناءها على الصدقة، وباتوا ثلاثة أيام لا يذوقون إلا الماء، يرتعشون كالفراخ، حتى نزل فيهم قوله عز وجل: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾.
فاطمة هي التي ألهمتهم، هي التي ربتهم، هي التي سقتهم روح التضحية، روح العطاء، فاطمة نهر من العطاء، فاطمة جبلٌ من الشموخ، جبلٌ من الصمود، جبلٌ من قوة الإرادة الحديدية، ما توانت، ولا ضعفت، ولا وهنت، رغم ما جرى على جسدها من الآلام، لكنها ما ضعفت ولا وهنت.

خرجت إلى المسجد، وخطبت في الناس، وخطبت أمام نساء المهاجرين والأنصار، بكل قوة إرادة، وبكل شجاعة، وقالت: ”أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطين بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وماذا نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه، وقلة مبالاته بحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله. أما والله لو سلّموها أبا الحسن لسار بهم سيرًا سجحًا، لا يكلم خشاشه، ولا يملّ راكبه، ولأصدرهم بطانًا، ونصح لهم سرًا وإعلانًا، ولأوردهم منهلًا رويًا فضفاضًا، لا تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه“.


فاطمة هي امتداد لتاريخ النضال، هي امتداد لتاريخ الجهاد، مبدأ هذا التاريخ خديجة بنت خويلد، المرأة العظيمة، وفاطمة هي التالي في هذا التاريخ، وزينب هي التالي في هذا التاريخ، تاريخٌ افتتحته خديجة، واختتمته زينب العقيلة، وكانت فاطمة وسطًا بين هذين النورين العظيمين. فاطمة امتدادٌ لخديجة بنت خويلد، خديجة وما أدراك ما خديجة! بذلك أموالها وموقعها الاجتماعي، ضحت بكل ما عندها في سبيل الإسلام، في سبيل الدين، خديجة بنت خويلد التي ما نسيها رسول الله   أبدًا.
يتصدق، يقول: الصدقة لخديجة، يهدي، يقول: الهدية عن خديجة، يصل رحمه، يقول: الصلة هذه عن خديجة، خديجة دائمًا على لسانه، حتى قالت له عائشة: ما تذكر في عجوز حمراء الشدقين أبدلك الله خيرًا منها؟! قال: ”ما أبدلني خيرًا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وآوتني حين طردني الناس، ورُزِقت منها الولد وحُرِمته غيرها“. خديجة التي نزل جبرئيل من السماء يقول للنبي: يا رسول الله، بشّر خديجة أن لها بيتًا في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
هذه المرأة العظيمة، هذه المرأة الجليلة، عندما جاءها الموت، واقترب الموعد، دخلت عليها أم أيمن، ورأتها تبكي بكاءً مريرًا، قالت لها: يا أم المؤمنين، يا خديجة، ما يبكيكِ؟ أنت أم البنين، وقد بشّركِ الله بأن لك بيتًا في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، علام بكاؤكِ؟ قالت: ما بكيتُ لنفسي، أبكي لحبيبتي فاطمة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة