مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

إثبات نبوّة الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله (2)

السيد محمد باقر الصدر

ومنها: أنّ الرسالة في نصوص قرآنية كثيرة تحدّثت عن تاريخ الأنبياء وأممهم، وما مرّت بهم من وقائع وأحداث بتفاصيل لم تكن بيئة النبي العربي الوثنية والأمّية تعرف شيئاً عنها وقد تحدّى علماء الكتاب (علماء اليهود والنصارى) النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرّة، وطالبوه بالحديث عن تاريخ تراثهم الديني فواجه التحدّي بكلّ شجاعة وجاء القرآن بما طلبوا دون أن تكون هناك أيّ وسيلة اعتيادية لتفسير اطّلاع النبي شخصياً على تلك التفاصيل.
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبيِّ إذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً في أهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُـنّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أتَاهُمْ مِنْ نَذِير مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾5.
وممّا يبهر الملاحظ أنّ القصص الحقّ في القرآن لا يمكن أن تكون مجرّد استنساخ لما جاء في كتب العهدين، حتى لو افترضنا أن أفكار هذه الكتب كانت شائعةً ومنتشرةً في الوسط الذي ظهر فيه النبي، لأنّ الاستنساخ يمثّل دوراً سلبياً فقط، دور الأخذ والعطاء، بينما دور القرآن في عرض القصّة إيجابي، فإنّه يصحّح ويعدّل ويفصّل القصة عمّا ألصقت بها من ملابسات لا تتّفق مع فطرة التوحيد والعقل المستنير والرؤية الدينية السليمة.
ومنها: أنّ القرآن بلغ في روعة بيانه وبلاغته وتجديده في أساليب البيان إلى درجة جعلت منه - حتى من وجهة نظر غير المؤمنين بربّانيته حدّاً فاصلاً بين مرحلتين من تاريخ اللغة العربية، وأساساً لتحوّل هائل في هذه اللغة وأساليبها.
وقد أحسّ العرب الذين حدّثهم النبي بالقرآن بأنّه لا يشبه إطلاقاً ما ألِفوه من أساليب البيان وما نشأوا عليه وأتقنوه من طرائق التعبير حتى قال قائلهم6 حين استمع إلى القرآن: "والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى، وإنّه ليحطم ما تحته".
وكانوا لا يسمحون لأنفسهم بالاستماع إلى القرآن، إحساساً منهم بأثره الهائل، وخوفاً من قدرته الفائقة على تغيير نفوسهم، وهذا دليل على التميّز الهائل للبيان القرآني، وعدم كونه استمراراً متطوّراً لِمَا ألِفوه.
وقد استسلموا أمام التحدّي المستمرّ والمتصاعد الذي واجههم النبي به، إذ أعلن: تارةً عجزهم مجتمعين عن الإتيان بمثله وأكّد أخرى عجزهم مجتمعين عن الإتيان بعشر سور مفَتَريَات من مثله وشدّد ثالثةً على عجزهم عن الإتيان بما يناظر سورةً واحدةً من القرآن الكريم7.
أعلن النبي ذلك وكرّره على مجتمع لم يعرف صناعةً كما عرف صناعة الكلام، ولم يتقن فنّاً كما أتقن فنّ الحديث، ولم يتعوّد على شيء كما تعوّد على مجابهة التحدّي والتغنّي بالأمجاد، ولم يحرص على أمر كما حرص على إطفاء نور الرسالة الجديدة وتطويقها، ومع ذلك كلّه لم يشأ هذا المجتمع الذي واجه تلك التحدّيات الكبيرة أن يجرّب نفسه، ولم يحاول أن يعارض القرآن بشيء إيماناً منه بأنّ الأدب القرآني فوق قدرته اللغوية والفنيّة.
والطريف أنّ الذي كان يحمل إليهم هذا الزاد الأدبي الجديد على حياتهم إنسان مكث فيهم أربعين سنةً، فلم يعهدوا له مشاركةً في حلبة أدبية، ولا تميّزاً في أيّ فنّ من فنون القول.
هذا عدد من خصائص الرسالة التي أعلنها النبي على العالم.
وهنا يأتي دور الخطوة الثالثة لتؤكّد على أساس الاستقراء العلمي في تاريخ المجتمعات أنّ هذه الرسالة بتلك الخصائص التي درسناها في الخطوة الثانية هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل التي مرّ استعراضها في الخطوة الأولى، فإنّ تاريخ المجتمعات وإن كان قد شهد في حالات كثيرة إنساناً يبرز على صعيد مجتمعه فيقوده ويسير به خطوةً إلى الأمام غير أنّنا هنا لا نواجه حالةً من تلك الحالات، لوجود فوارق كبيرة.
فمن ناحية نحن نواجه هنا طفرةً هائلةً وتطوّراً شاملاً في كلّ جوانب الحياة، وانقلاباً في القيم والمفاهيم التي تتّصل بمختلف مجالات الحياة إلى الأفضل، بدلا عن مجرّد خطوة إلى الأمام. إنّ مجتمع القبيلة طفر رأساً على يد النبي إلى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد. وإنّ المجتمع الوثني طفر رأساً إلى دين التوحيد الخالص، الذي صحّح كلّ أديان التوحيد الأخرى، وأزال عنها ما علق بها من زيف وأساطير. وإنّ المجتمع الفارغ تماماً تحوّل إلى مجتمع ممتلئ تماماً، بل إلى مجتمع قائد يشكّل الطليعة لحضارة أنارت الدنيا كلّها.
ومن ناحية أخرى أنّ أيّ تطوّر شامل في مجتمع إذا كان وليد الظروف والمؤثّرات المحسوسة فلا يمكن أن يكون مرتجلاً ومفاجئاً ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له، وعن تيار يسبقه ويظلّ ينمو ويمتدّ فكرياً وروحياً حتى تنضج في داخله القيادة الكفوءة لتزعّمه، وللعمل من أجل تطوير المجتمع على أساسه.
إنّ دراسةً مقارنةً لتاريخ عمليات التطوّر في مختلف المجتمعات يوضّح أنّ كلّ مجتمع يبدأ فيه هذا التطوّر فكرياً على شكل بذور متفرّقة في أرضية ذلك المجتمع، وتتلاقى هذه البذور فتكوّن تياراً فكرياً، وتتحدّد بالتدريج معالم هذا التيار، وتنضج في داخله القيادة التي تتزعّمه، حتّى يبرز على المسرح كواجهة لجزء يعيش في المجتمع تناقض الواجهة الرسمية التي يحملها المجتمع، ومن خلال الصراع يتّسع هذا التيار حتى يسيطر على الموقف.
وخلافاً لذلك نجد أنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في تاريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقةً من سلسلة، ولم يكن يمثّل جزءً من تيار، ولم تكن للأفكار والقيم والمفاهيم التي جاء بها بذور أو رصيد في أرضية المجتمع الذي نشأ فيه. وأمّا التيار الذي تكوّن من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبي فقد كان من صنع الرسالة والقائد، ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة وتكوّن القائد. ومن أجل ذلك نجد أنّ الفارق بين عطاء النبي وعطاء أيّ واحد من هؤلاء لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين بذرة وأخرى من البذور التي تكوّن التيار الجديد، بل كان فارقاً أساسياً لا حدّ له، وهذا يبرهن على أنّ محمداً لم يكن جزءً من تيار، بل كان التيّار الجديد جزءاً منه.
ومن ناحية ثالثة يبرهن التاريخ على أنّ القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية لتيار جديد إذا تركّزت كلّها في محور واحد من خلال حركة تطوّر فكري واجتماعي معيّن فلا بدّ أن يكون في هذا المحور من القدرة والثقافة والمعرفة ما يتناسب مع ذلك، ولا بدّ من أن يكون تواجدها فيه طبقاً لما يعرف عادةً من أساليب في حياة الناس، ولا بدّ من ممارسة متدرّجة أنضجته ووضعته على خطّ القيادة لذلك التيار. وخلافاً لذلك نجد أنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد مارس بنفسه القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية، دون أن يكون تاريخه كإنسان أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يعرف شيئاً من ثقافة عصره وأديانه المتقدّمة يرشّحه لذلك من الناحية الثقافية، ودون أن تكون له أيّ ممارسات تمهيدية لهذا العمل القياديّ المفاجئ.
وعلى ضوء ذلك كلّه ننتهي إلى الخطوة الرابعة التي نواجه فيها التفسير الوحيد المعقول والمقبول للموقف، وهو افتراض عامل إضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة، وهو عامل الوحي، عامل النبوّة الذي يمثّل تدخّل السماء في توجيه الأرض.
﴿وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾8.
دور العوامل والمؤثّرات
ولا يعني تفسير الرسالة على أساس الوحي والإمداد من السماء بدلا عن العوامل والظروف المحسوسة إلغاء هذه العوامل والظروف عن التأثير نهائياً، بل إنّها مؤثّرة وفقاً للسنن الكونية والاجتماعية العامّة، ولكنّ تأثيرها إنّما هو في سير الأحداث، ومدى ما ينجم عنها من مؤثّرات لصالح نجاح الرسالة أو لإعاقتها عن النجاح. فالرسالة كمحتوى حقيقة ربّانية فوق الشروط والظروف المادية، ولكنّها بعد أن تحوّلت إلى حركة إلى عمل متواصل في سبيل التغيير، يصبح بالإمكان ربطها بظروفها وما تكتنفها من ملابسات وأحاسيس.
فإذا قيل مثلاً:  إنّ شعور الإنسان العربي بالتمزّق والضياع وهو يجد نفسه يجسّد آلهته ومثله الأعلى في حجر يحطمه في لحظة غضب، أو حلوى يلتهمها في لحظة جوع جعله يتطلّع إلى الرسالة الجديدة.
أو قيل مثلاً:  إنّ شعور البائس والكادح في المجتمع العربي بالظلم والتعسّف من قبل المرابين والمستغلّين دفعه إلى تأييد حركة جديدة ترفع راية العدالة، وتقضي على رأس المال الربوي.
أو قيل: إنّ الشعور القبلي لعب دوراً مهمّاً في حياة الرسالة، سواء ما كان منها على مستوىً محلي كمشاعر الصراع والتنافس بين قبائل قريش وما أسبغه انتماء النبي إلى عشيرته من حصانة وهيبة حمته من الأعداء، أو ما كان منها على مستوىً قومي كمشاعر عرب جنوب الجزيرة تجاه شمالها.
أو قيل:  إنّ ظروف العالم المتداعي والأحوال المحرجة التي مرّت بها الدولتان العظيمتان الرومانية والفارسية على المسرح الدولي وقتئذ أشغلت هاتين القوّتين الكبيرتين بنفسيهما، وحالت دون تدخّلهما السريع في إجهاض الحركة الجديدة في الجزيرة العربية.
إذا قيل شيء من هذا القبيل فهو أمر معقول وقد يكون مقبولاً، غير أنّ هذا إنّما يفسّر سير الأحداث، ولا يفسّر الرسالة نفسها.

ـــــــــــــــــ

5- القصص: 44 - 46.
6- الوليد بن المغيرة.
7- {قُل لَئِن اجتَمَعت الإنسُ والجِنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتُونَ بِمثلِهِ ولو كَانَ بَعضُهُم لِبَعض ظَهِيراً}. الإسراء: 88. {أم يَقُولُونَ افتَراهُ قُلْ فأتُوا بِعشرِ سُوَر مِثلِهِ مُفترَيات وادعُوا مَن استَطَعتُم من دُونِ اللهِ إن كُنتُم صادقين} هود: 13.{وإن كُنتُم في رَيب ممّا نَزَّلنا على عَبدِنا فأتُوا بِسُورة مِن مِثلِهِ وادعُوا شُهَدَاءَكم مِن دُونِ اللهِ إن كُنتُم صَادِقِين} البقرة: 23.
8- الشورى: 52.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة