علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد منير الخباز القطيفي
عن الكاتب :
رجل دين وخطيب مفكر وكاتب، يعد من أبرز علماء القطيف ومن خطبائها، ومن أبرز أساتذة الدراسات العليا (بحث الخارج) في الفقه والأصول في حوزة قم المقدسة، ولد عام 1384هـ (حوالي 1964م)، له العديد من المؤلفات.

هل الحقيقة نسبية أم مطلقة؟(2)

المحور الثاني: في عرض اتجاهات الفلسفة النسبية

اتجاهات الفلسفة النسبية هي أربعة اتجاهات وبيانها كالتالي:

الاتجاه الأول: اتجاه ديكارت 

وديكارت يقسم المفاهيم - الصور التي تأتي إلى الذهن - إلى ثلاثة أقسام:

 

القسم الأول: الفطريات.

وهي قاعدة التفكير، أي أن هناك مفاهيم تشكل قاعدة لا تتغير وإن حصلت تحولات فكرية، فأنت تُصبح عندك تحولات فكرية كثيرة لكن هناك مفاهيم ثابتة عندك وتشكل قاعدة للتفكير، وهي تواكب كل التحولات الفكرية، ولذلك هي - هذه المفاهيم - حقائق، ولها قيمة علمية، وهي على أقسام وبيانها:

القسم الأول: المعقولات الصرفة، كالقواعد الفلسفية، فديكارت عقلي، فهو يؤمن بامتناع التناقض، ويؤمن بأن لكل مسبب سببًا، ويؤمن بمبدأ الهوية، فهو يؤمن بقواعد فلسفية وتعتبر هذه القواعد قاعدة للتفكير.

 

القسم الثاني: الرياضيات، فالرياضيات كلّه علم ثابت، وهو يشكل قاعدة فكرية.

القسم الثالث: العناصر الأولية لعالم المادة، فهذا العالم الخارجي له عناصر أولية وعناصر ثانوية، وهذه العناصر الأولية هي الكيفية والبعد والحركة، فالإنسان كيفية وكذا النبات والحجر كلٌّ كيفية، فاختلاف الكيفيات بحيث نقول «أن بين كيفية الإنسان وكيفية النبات يوجد تضاد»، و«بين كيفية الإنسان وكيفية الشمبانزي يوجد تماثل» فعندما نقول إن الكيفيتين متضادان والكيفيتين متماثلتان فإن هذا معناه أن لكل موجود كيفية، ولذلك قد يحصل تضاد وقد يحصل تماثل. والبعد: «الطول، العرض، العمق، الزمن»، فالبعد أيضاً عنصر أولي. الحركة: «كل موجود مادي فهو متحرك». هذه الثلاثة عناصر - الكيفية، البعد، الحركة - موجودة قطعاً ولا شك فيها، فهي مثلها مثل القواعد الفلسفية والرياضية، فإيمانك أن لكل شيء مادي كيفية وبعداً وحركة كإيمانك بالقواعد الرياضية والفلسفية، ولذلك يُعتبر هذا القسم من الفطريات التي لا شك فيها.

كيف أدركنا أن لكل موجودٍ مادي كيفية وبعداً وحركة؟ 

يقول: لم نُدركه بالحس، وإنما أدركناه بالعقل، فالعقل هو الذي قرر أن لكل وجودٍ مادي كيفية وبعداً وحركة وليس الحس. ومن أجل هذا القسم جعلوا «ديكارت» رمز المدرسة العقلية.

 

القسم الثالث: الخارجيات.

وهي ما يصل عبر الحواس الخمس - الأصوات، الصور، المشمومات، المذوقات، اللون، الطعم، الرائحة، الملمس - وهذه سمّاها «الخواص الثانوية للأجسام»، وأنها ليست حقائق وليس لها قيمة علمية، فاللون والطعم والرائحة والملمس ليست حقائق حتى لو قلت 100% هذا حار، فهو يقول أن هذا ليس حقيقة، فإحساسك بالحرارة ليس من الحقائق وليس له قيمة علمية إطلاقاً؛ لأن الإحساس وسيلة لتمييز المفيد من المضر وليس وسيلة للظفر بالحقائق، فالوسيلة الوحيدة للظفر بالحقائق هو العقل وليس الإحساس، وبعبارة أخرى أن المحسوسات ذات قيمة عملية وليست ذات قيمة علمية، فالفطريات ذات قيمة علمية وأما المحسوسات ذات قيمة عملية، تحس بالحرارة فتسأل يُفيدك أم لا، تحس بالطعم والرائحة فتسأل هل هو مفيد أم لا، فالإحساس وسيلة للقيمة العملية وليس وسيلة للقيمة العملية للظفر بالحقائق.

 

القسم الرابع: المجهولات.

وهي ما تصنعه القوة المتخيلة، مثل الشعراء، فهؤلاء جالسون ويتخيلون فيركبون صوراً ويبدعون، وليس لهذه الصور لا قيمة علمية ولا عملية.

ويُعد ديكارت من المدرسة العقلية مقابل الحسية لإيمانه بالفطريات

 

الاتجاه الثاني: المدرسة الحسية.

المدرسة الحسية فيها منهجان:

المنهج الأول: منهج لوك 

وهذا المنج يُقسم المفاهيم إلى قسمين:

الأول: اليقينيات، وهي صنفان:

الصنف الأول: الوجدانيات.

وهي ما يُصدّق بها الذهن بلا واسطة كالمعلومات الحضورية، فأنا أصدق بنفسي فلا يحتاج إلى واسطة، فتصديقي بنفسي وأفكاري لا يحتاج إلى واسطة، فهذا يُسمى علماً حضورياً، فالمعلوم حاضرٌ لدى العالم، فهذه المعلومات الحضورية يُصدق بها الذهن بلا واسطة وتُسمى الوجدانيات. الأعداد أيضا لا تحتاج واسطة حتى تصدق بها، فأنت لا تحتاج إلى واسطة حتى تُصدق بأن «3» أكثر من «2»، فتصديقك بالأعداد لا يحتاج إلى واسطة، وكذا التمايز بين الأشكال والأبعاد، فالتمايز بين المثلث والمربع والمستطيل لا يحتاج إلى واسطة، وكذا بين الأبعاد، فإيمانك بوجودك أو بالأعداد أو التمايز بين الأشكال والأبعاد من اليقينيات الوجدانيات.

 

الصنف الثاني: المعقولات.

وهي تختلف عن الوجدانيات؛ لأن المعقولات - حسب تعريفه - ما يتوقف التصديق عليها على معاني أخرى، وذاك مثل الاستدلالات الرياضية، فكيف تُثبت أن «8×8 = 64»، فأنت تحتاج إلى برهان، فبما أن التصديق بهذه القضية احتاج إلى برهان - أي معنى آخر - سماها معقولات، فهي تحتاج إلى حركة عقلية وهي حركة الاستدلال.

ومع أن كلا الصنفين يقينيات إلا أنه يقول ليس لهما قيمة علمية، ولذلك اعتبر جون لوك من المدرسة الحسية لا من المدرسة العقلية لأنه لا يؤمن باليقينيات، فحتى إدراك أفكاري والأعداد والقضايا الرياضية والأبعاد لا قيمة علمية عنده لاحتمال أنه من الذهن وإلى الذهن وأن كله صنيعة الذهن، فهو الذي صنع الرياضيات والقضايا الوجدانية فهو من الذهن وإلى الذهن ولا حقيقة له.

 

الثاني: الحسيّات.

وتوضيحها هو أن لا طريق للتعرف على خارج النفس إلا عن طريق الحس لا العقل، فهنا نفسٌ داخِلُها مليء باليقينيات لكن ليس لها قيمة علمية، وعندي خارج النفس - هذا العالم - لا يُمكن الوصول إليه إلا عن طريق الحس وليس العقل، إذ لا يُمكن نيل الواقع إلا به، ولذلك اعتبرت مدرسة جون لوك مدرسة حسيّة، فهو يقول إن داخلك لا قيمة علمية له، وما هو خارجك لا تستطيع أن تصل إليه إلا بطريق الحس، فاعتبرت المدرسة حسيّة وذلك لإيمانها بأصالة الحس في إدراك الواقع الخارجي.

 

ما هي قيمة ما أُدْرِكَ بالحس بعد الإدراك؟ 

يقول أيضا لا قيمة له؛ لأن غاية ما يوقن به الذهن هو وجود واقع، أي يعلم أن هناك واقعاً وراء النفس، وأن ذلك الواقع ينقسم إلى خواص ذاتية للأجسام - الكيفية، البعد، الحركة - وخواص عرضية - وهي الخواص العرضية من لون وطعم ورائحة وو - كما ذكر ديكارت، بل أكثر من ذلك، أنت لو تسأل عما يوجد لديك من زاد تتيقن به من المحسوسات يقول أن الزاد الذي أتيقن به من المحسوسات هو أن هناك واقعاً، وأن هناك خواصاً ذاتية وخواصاً عرضية فقط.

وبهذا يكون كل القضايا التجريبية التي أقامها الفيزيائيون وعلماء الأحياء كلها لا يقين بها، فاليقين فقط هو أن هناك واقعاً وأن هناك فرقاً بين الخواص الذاتية والعرضية، ولهذا فالمعلومات الحسية ما سوى هذين المعلومين - الواقع والفرق بين الخواص الذاتية والعرضية - ليس لها قيمة يقينية.

 

إشكال الشيخ المطهري.

أشكل الشيخ المطهري على هذا التيار بأنه كيف أمكنه التمييز بين الذاتي والعرضي إذا لم يكن له طريق إلا الحس؟! فأنت تقول لا طريق عندك غير الحس، وكل المحسوسات ليس لها قيمة يقينية إلا أن هناك واقعاً وأن هناك ذاتيا ًوعرضياً، لكن من أين حصل اليقين بهذا؟ فما هي الميزة لهذين على سائر القضايا الأخرى، فكل ما سوى هذين لا قيمة يقينية له، لكن هذان لهما قيمة يقينية، فمن أين حصلت القيمة اليقينية لهذين دون غيرهما من القضايا الحسية مع أنه لا طريق لنيل الواقع إلا الحس والحس متساوي النسبة؟!

 

تعميق الإشكال

وهنا نعمق إشكال الشيخ المطهري فنقول: الدليل الفطري الذي يسير عليه كل إنسان في كل حياته وفي كل معلوماته هو دليل حساب الاحتمالات، بل ليس عندك دليل غير دليل حساب الاحتمالات، بل إيمانك أن هذا كتاب هو بدليل حساب الاحتمالات، أن هذا ابني وهذه زوجتي وهذه حسينية وأنا الآن أتكلم كله بدليل حساب الاحتمالات، فالدليل الفطري الذي يسير به الإنسان في كل شؤونه ومعلوماته هو دليل حساب الاحتمالات، وبهذا الدليل أيقنّا أن هناك واقعاً، وبدليل حساب الاحتمالات أيقنا أن الصفات على قسمين وهي ذاتية وعرضية، فإذا كان الموجب لليقين هو دليل حساب الاحتمالات إذن هو متساو النسبة لجميع القضايا، فكما وصلتَ إلى اليقين في هاتين فستصل إلى اليقين في غيرهما لأن الدليل الموصل لليقين الرياضي واحدٌ وهو دليل حساب الاحتمالات.

 

المنهج الثاني: منهج بركلي وهيوم.

ويختلف منهجهما عن السابق في إنكار قيمة كل المعلومات الحسية ومنها الفرق بين الذاتي والعرضي، فهذان أنكرا قيمة المعقولات التي أنكرها لوك، ولما جاءا إلى الحسيّات أنكرا قيمتها، فلا قيمة لها وهي ليست حقائق ذات قيمة علمية.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد