قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (1)

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِين﴾َ

 

بيان:

تذكر الآيات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام وتقرعهم بالتهديد وتشير إلى تشريع حج البيت لأول مرة لإبراهيم عليه السلام وأمره بتأذين الحج في الناس وجملة من أحكام الحج.

قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ﴾ إلخ.

الصد المنع، و﴿سواء﴾ مصدر بمعنى الفاعل، والعكوف في المكان الإقامة فيه، والبادي من البدو وهو الظهور، والمراد به - كما قيل - الطارىء أي الذي يقصده من خارج فيدخله، والإلحاد الميل إلى خلاف الاستقامة وأصله إلحاد حافر الدابة.

والمراد بالذين كفروا مشركوا مكة الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول البعثة قبل الهجرة وكانوا يمنعون الناس عن الإسلام وهو سبيل الله والمؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة وإقامة الصلاة وسائر المناسك فقوله: ﴿يَصُدُّونَ﴾ للاستمرار ولا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والمعنى الذين كفروا قبل ويستمرون على منع الناس عن سبيل الله والمؤمنين عن المسجد الحرام.

وبذلك يظهر أن قوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عطف على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والمراد بصده منعهم المؤمنين عن أداء العبادات والمناسك فيه وكان من لوازمه منع القاصدين للبيت من خارج مكة من دخولها.

وبه يتبين أن المراد بقوله: ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ﴾ - وهو وصف المسجد الحرام - جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لأحد أن يمنع أحدًا من ذلك ففيه إشارة إلى أن منعهم وصدهم عن المسجد الحرام تعد منهم إلى حق الناس وإلحاد بظلم كما أن إضافة السبيل إلى الله تعد منهم إلى حق الله تعالى.

 

ويؤيد ذلك أيضا تعقيبه بقوله: ﴿سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ أي المقيم فيه والخارج منه مساويان في أن لهما حق العبادة فيه لله، والمراد بالإقامة فيه وفي الخارج منه إما الإقامة بمكة وفي الخارج منها على طريق المجاز العقلي أو ملازمة المسجد للعبادة والطرو عليه لها.

وقوله: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ بيان لجزاء من ظلم الناس في هذا الحق المشروع لهم في المسجد ولازمه تحريم صد الناس عن دخوله للعبادة فيه ومفعول ﴿يرد﴾ محذوف للدلالة على العموم، والباء في ﴿بإلحاد﴾ للملابسة وفي ﴿بظلم﴾ للسببية والجملة تدل على خبر قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في صدر الآية.

والمعنى الذين كفروا ولا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله وهو دين الإسلام ويمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الذي جعلناه معبدًا للناس يستوي فيه العاكف فيه والبادي نذيقهم من عذاب أليم لأنهم يريدون الناس فيه بإلحاد بظلم ومن يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.

وللمفسرين في إعراب مفردات الآية وجملها أقاويل كثيرة جدًّا ولعل ما أوردناه أنسب للسياق.

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ بوء له مكانًا كذا أي جعله مباءة ومرجًعا له يرجع إليه ويقصده، والمكان ما يستقر عليه الشيء فمكان البيت القطعة من الأرض التي بني فيها، والمراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعبادة والصلاة.

والركع جمع راكع كسجد جمع ساجد والسجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع.

 

وقوله: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ الظرف فيه متعلق بمقدر أي واذكر وقت كذا وفيه تذكير لقصة جعل البيت معبدًا للناس ليتضح به أن صد المؤمنين عن المسجد الحرام ليس إلا إلحادًا بظلم.

وتبوئته تعالى مكان البيت لإبراهيم هي جعل مكانه مباءة ومرجعًا لعبادته، لا لأن يتخذه بيت سكنى يسكن فيه، ويلوح إليه قوله بعد ﴿طَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ بإضافة البيت إلى نفسه، ولا ريب أن هذا الجعل كان وحيًا لإبراهيم فقوله: ﴿بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتخذ هذا المكان مباءة ومرجعًا لعبادتي وإن شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، وبعبارة أخرى أن اعبدني في هذا المكان.

وبذلك يتضح أن ﴿أن﴾ في قوله: ﴿أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ مفسرة تفسر الوحي السابق باعتباره أنه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا ونحوه.

ويتضح أيضا أن قوله: ﴿أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ ليس المراد به - وهو واقع في هذا السياق - النهي عن الشرك مطلقًا وإن كان منهيًّا عنه مطلقًا، بل المنهي عنه فيه هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة، وبعبارة واضحة الشرك فيما يأتي به من أعمال الحج كالتلبية للأوثان والإهلال لها ونحوهما.

 

وكذا قوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ والتطهير إزالة الأقذار والأدناس عن الشيء ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الأولي، وقد أضاف البيت إلى نفسه إذ قال: ﴿بيتي﴾ أي بيتًا يختص بعبادتي، وتطهير المعبد بما أنه معبد تنزيهه من الأعمال الدنسة والأرجاس التي تفسد العبادة وليست إلا الشرك ومظاهره.

فتطهير بيته إما تنزيهه من الأرجاس المعنوية خاصة بأن يشرع إبراهيم عليه السلام للناس ويعلمهم طريقًا من العبادة لا يداخلها قذارة شرك ولا يدنسها دنسه كما أمر لنفسه بذلك، وإما إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعم من الصورية والمعنوية، لكن الذي يمس سياق الآية منها هو الرجس المعنوي، فمحصل تطهير المعبد عن الأرجاس المعنوية وتنزيهه عنها للعباد الذين يقصدونه بالعبادة، وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب شرك يعبدون الله سبحانه بها ولا يشركون به شيئًا.

فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق، واذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني في بيتي هذا بأخذه مباءة ومرجعًا لعبادتي، ولا تشرك بي شيئًا في عبادتي، وسن لعبادي القاصدين بيتي من الطائفين والقائمين والركع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك.

وفي الآية تلويح إلى أن عمدة عبادة القاصدين له طواف وقيام وركوع وسجود وإشعار بأن الركوع والسجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر.

ومما قيل في الآية أن قوله: ﴿بوأنا﴾ معناه ﴿قلنا تبوء﴾ وقيل: معناه ﴿أعلمنا﴾ ومن ذلك أن ﴿أن﴾ في قوله: ﴿أن لا﴾ مصدرية وقيل: مخففة من الثقيلة، ومن ذلك أن المراد بالطائفين الطارءون وبالقائمين المقيمون بمكة، وقيل: المراد بالقائمين والركع السجود: المصلون، وهي جميعًا وجوه بعيدة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد