عندما يحدد مذهب ما الإطار المرجعي لنظريته، فإنه يؤسس المفاهيم لتتوافق مع ذلك الإطار المرجعي. ولذا فإن المذهب التجريبي باعتماده التجربة والحس أصلاً، فإنه يؤسس مفاهيمه انطلاقاً من ذلك الأصل. فإذا كانت السببية في المفهوم العقلي هي علاقة الضرورة والتأثير بحيث تكون (أ) ضرورة وجودية لـ (ب) فإن فكرة الضرورة تغيب عندما نتناول السببية بمفهومها التجريبي. إذ لا أحد يستطيع أن يقيس الضرورة في المختبر ومن هنا فإن السببية وفق ذلك الإطار المرجعي التجريبي لا تعني سوى علاقة زمانية ذات طابع استمراري مطرد بين شيئين.
تتباين المواقف من الدليل الاستقرائي ضمن التيار العريض الذي يرى في التجربة الحسية الرافد الأوحد الذي يستقي الإنسان منه كافة معارفه ومعلوماته. وتوجد ضمن التفسيرات الخاصة بالمذهب التجريبي ثلاثة إتجاهات رئيسية:
اتجاه اليقين: وهو الاتجاه الذي يرى في الدليل الاستقرائي القدرة على الوصول إلى اليقين، حيث تبلغ درجة التصديق بالقضية الاستقرائية حد الاعتقاد الجازم بها. بمعنى أن الاستقراء يكشف عن الواقع الخارجي العيني بدرجة لا تقبل الشك ويتصدر هذا الاتجاه الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل).
اتجاه الترجيح: وهو الذي يرى في الاستقراء سبباً في ترجيح القضية الاستقرائية ولا يبلغ فيه التصديق بالقضية الاستقرائية درجة الجزم بها بل يوجد على الدوام هامش من التشكيك بصدقها. صحيح أن هذا الهامش قد يصغر تبعاً لتوسع الاستقراء وشموله لعدد أكبر من الحوادث المستقرءة إذ يرفع هذا التجمع العددي للشواهد من سقف الاحتمال لكنه لا يلغي على الإطلاق ذلك الكسر الصغير الذي يمثل مصدر الشك بصدقها. ويزداد الاحتمال بهذه القضية رجحاناً كلما توسعنا في الاستقراء.
اتجاه الشك: وهو الاتجاه الذي يفسر الاستقراء بوصفه عادة ذهنية وهو بالتالي يشكك في القيمة الموضوعية للقضية الاستقرائية ويتصدر هذا الاتجاه الفيلسوف (دافيد هيوم).
هذه ااتجاهات الثلاثة وإن اختلفت في تفسير الاستقراء إلا أنها تعالج المشاكل الاستقرائية الثلاثة داخل أسوار التجربة والحس وهي بذلك تقدم تفسيرها الخاص للمشكلة الاستقرائية وفق ذلك الإطار التفسيري الذي تبنته للمعرفة البشرية.
ومن هنا فإن المشكلتين الأولى والثالثة وهما السببية التي تفترض أنه لا بد لـ (ب) من سبب والإطراد الذي يحتم استمرار العلاقة بين السبب والمسبب في الزمان عندما تتوفر الشروط الموضوعية لذلك قد أرجعهما المنطق العقلي إلى مجموعة المعارف القبلية السابقة على التجربة. بينما قدم التجريبيون تفسيرهم المنسجم مع الإطار المرجعي الذي يستند على الحس كمصدر للمعرفة. فالسببية بمفهومها التجريبي تمثل علاقة التتابع الزمني المطرد بين أي حادثتين، فالحادثة (أ) يعقبها في الزمان الحادثة (ب) بحيث أنه في كل مرة تتحقق الشروط الموضوعية نجد أن الحادثة (أ) يعقبها زماناً ظهور الحادثة (ب) دون أن نستوحي من هذه المشاهدة فكرة الضرورة أو اللزومية. وينتج عن هذا الفهم للسببية هو النظر للعلاقات السائدة في عالم الطبيعة بشكل منفرد ومعزول فهي علاقات مستقلة قائمة بين أفراد بشكل مطرد وليست بشكل مفاهيم. إن النظر إلى الأشياء بشكل منفرد وليست ضمن مجموعات بحيث تضم كل مجموعة الأفراد المتشابهة لا يؤسس للمفاهيم الكلية التي ينضوي تحتها عدد من الأفراد يتفقون في صفات معينه.
فبينما يتحرك العقل بهذا الاتجاه التصنيفي للأشياء والذي يرى في الفرد معبراً عن الكل وإن فهم مجموعة علاقات التأثر والتأثير للفرد ضمن الشروط الموضوعية التي تحقق تلك العلاقات يبرر لنا الحكم العام على أن جميع أفراد ذلك النوع ستعطي النتائج نفسها إذا وضعت في الظروف الموضوعية نفسها نجد أن هذه الرؤية – التجريبية – التي لا تتحرك إلا في إطار الحس لا تستطيع أن تتجاوز الفرد إلى المفهوم الكلي الذي يجرده من هويته الفردية الضيقة ليضمه للمجموع.
موقف الاتجاهات الثلاثة من المشكلة الأولى والثالثة
لقد قدمنا التفسير التجريبي للسببية ضمن الإطار المرجعي لهذا المذهب. وبيّنا أن السببية بمفهومها التجريبي لا تعني سوى العلاقة الزمانية المتتابعة والمطردة بين الحوادث. ولكن السؤال لماذا تكون (أ) و (ب) متعاقبتين زماناً وبشكل مطرد؟ ولماذا لا تكون (ت) أو (ج) مثلاً هي التي تعقب (أ) زماناً واطراداً؟ قد لا يرى هذا المذهب الحاجة للجواب على هذا السؤال.
لقد آمن الاتجاه الأول صاحب النزعة اليقينية بحاجة الاستقراء لمبادئ السببية، لكنه يرى أن هذه المبادئ هي أيضاً نتاج استقراء أوسع في الطبيعة. وبعد أن أصبحت السببية حقيقة يقينية بفضل الاستقراء أصبح بالإمكان استخدامها في تعميمات استقرائية لاحقه.
أما الاتجاه الترجيحي فقد آمن بأن الاستقراء بحاجة إلى المصادرات السببية ولكن إثبات هذه المصادرات غير ممكن. وبما أن هذه المصادرات لا يمكن البرهان عليها بالكيفية التي اعتمدها المذهب العقلي حيث اعتبرها مبادئ عقلية قبلية ولا بالكيفية التي استدل بها الاتجاه الأول والتي اعتبرها نتاج استقراءات أخرى، فإن الاستقراء لا ينتج يقيناً بل رجحاناً في القضية الاستقرائية. وكلما شمل الاستقراء حوادث أكثر زاد الاحتمال برجحان القضية الاستقرائية.
والاتجاه الثالث ذو النزعة السيكولوجية فقد آمن بالحاجة إلى هذه المصادرات ولكنه تبنى تفسيرها على اعتبار نفسي. فالسببية التي تنتج العلاقة ذاتها بين قضيتين والتي تجعل الحاضر يشبه الماضي وأن نبرر أن ما سيحدث في المستقبل سيكون هو أيضاً شبيه بهما ليس مبرراً منطقياً بل هو مبرر سيكولوجي يسميه (دافيد هيوم) رائد هذا الاتجاه بالتداعي. والمقصود من التداعي هو انتقال الذهن من فكرة إلى أخرى نتيجة للتشابه والتجاور في الزمان أو المكان، والعلة والمعلول.
إن مشاهدتنا للماء على النار تثير في ذهننا الفكرة الأخرى عن الغليان. وهذا يعني أن العلاقات العلية تقع في حد واحد ينتقل بعدها الذهن للتفكير في الحد الآخر. هذا يعني في نهاية المطاف أن علاقات العلية القائمة بين الأشياء هي مجرد أفكار قائمة في أذهاننا وليس لها حقيقة موضوعية في الخارج.
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
د. سيد جاسم العلوي
السيد جعفر مرتضى
عدنان الحاجي
الشيخ محمد هادي معرفة
الشهيد مرتضى مطهري
حيدر حب الله
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ما هي حقيقة لقاء الله؟
علم التفسير وطبقات المفسرين
المشكلة الاستقرائية على ضوء المذهب التجريبي والمذهب الذاتي في المعرفة (1)
في المواجهة (2)
البروفيسور جعفر آل توفيق (المبتكر المثالي)
المواد الكيميائية في أدمغتنا وتأثيرها في سلوكنا (1)
دقائق في القرآن هي روائع في التعبير (3)
ميثم التمار (رض) شهيد العقيدة والولاء
الإسلام دين العمل والجهاد
العقل المستقيل