المترجم: عدنان أحمد الحاجي
يتمتع معظمنا بمستوى صحة وثراء وتعليم أفضل مقارنةً بأي وقت مضى. لدينا القدرة على الوصول إلى المعرفة واكتسابها ونشرها، كما لدينا خبرة معرفية أفضل مما كان لدى أي جيل من الأجيال السابقة. ومع ذلك، لا يزال بعض الناس يرتكبون حماقات (1) - من رفض فكرة تغير المناخ إلى تبني فكرة أن اللقاحات جزء من مؤامرة عالمية رئيسة للسيطرة على عقولنا وذلك بزرع شريحة إلكترونية دقيقة وتقنية شبكة الإنترنت من الجيل الخامس.
لماذا؟ حسنًا، اعتقد الفيلسوف البريطاني الراحل، برتراند راسل، أنه يعرف جانبًا من الإجابة على الأقل. وذكر راسل أن "السبب الأساس للمشكلة هو أن الأغبياء في عالمنا المعاصر واثقون من أنفسهم، بينما الأذكياء يغلب عليهم الشك". أضف إلى ذلك، وقوع الكثير من الناس في أفخاخ نظريات المؤامرة المنتشرة على الإنترنت. وانشغالهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي هي بالفعل غير اجتماعية حيث غالبًا ما تجعل الناس أكثر عزلة. هكذا تبدو حياتنا الرقمية في هذا الزمن.
لكن من يتناولون الذكاء البشري بالدراسة يقولون إنه لا جدوى من محاولة إصلاح الحياة الرقمية أو تحسينها، ولكننا بحاجة إلى إعادة النظر في بعض افتراضاتنا عن الذكاء والغباء. ولنسأل أنفسنا بصراحة، إلى أي مدى نسهم في هذا السباق والتسارع نحو السخافة التي ندعي أننا نحتقرها؟ لذا، لمساعدتك على القيام بدورك في التّصدّي للسّخافة، إليك بعض النصائح المفيدة.
لا تنظر بنفس النظرة إلى معدل الذكاء (2) والذكاء [وهو القدرات الفكرية اللازمة للحصول على المعرفة، واستخدامها بطريقة جيدة لحل مشكلات محددة جيدًا (3)]. يُجادل ديفيد روبسون David Robson، مؤلف كتاب "فخ الذكاء: لماذا يرتكب الأذكياء أخطاء غبية"، بأننا بحاجة إلى نبذ الاعتقاد السائد بأن معدل الذكاء المرتفع (4) والعقلانية (5) أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
يقول إنه بالرغم من أن اختبارات معدل الذكاء أصبحت معيارًا للذكاء، إلا أنها انتقائية جدًّا، ولا تقيس إلا قدرة الفرد على أنواع معينة من التفكير المجرد (6). والأسوأ من ذلك كله، معدل الذكاء لا يشير إلى فطرة الإنسان السليمة (7). "عندما يتعلق الأمر بأمور مثل تحليل الأدلة والتفكير فيها بطريقة عادلة ومنصفة، أو متابعة الأخبار والقدرة على تمييز الغثّ من السمين، فإن معدل الذكاء في الواقع ضعيف جدًّا في التنبؤ بقدرة النّاس على القيام بهذا النوع من التفكير، كما صرح السيد روبسون (8) لبرنامج Future Tense على قناة ABC RN".
ذوو معدل الذكاء العالي معرضون للتحيزات الإدراكية (9) تمامًا كغيرهم.
ويقول: "أهمها بالنسبة لي هي فكرة الاستدلال المدفوع [اتخاذ المرء القرار بشكل متحيز انفعاليًّا، أو عاطفيًّا، وذلك بالبحث عن معلومات تبرر تصرفاته ويتجاهل أو ينقص من قيمة غيرها] (10)". "إذا كان لديك حدس أو شعور حدسي [لا حقائق ملموسة] بأن شيئًا ما صحيح ويتوافق مع نظرتك العامة لما يدور حولك، فلن تبحث إلا عن المعلومات التي تدعم وجهة النظر هذه".
ووفقًا للسيد روبسون، عندما يتعلق الأمر بالاستدلال المدفوع، فإن الفرق الجوهري بين ذوي الذكاء العالي وباقي الناس هو أن من يُسمون بالأذكياء هم ببساطة أفضل من غيرهم في توظيف الاستدلال المدفوع لصالحهم. يتمتعون برشاقة ذهنية [أي قدرة على التفكير السريع، والتكيف مع المواقف المتغيرة، وحل المشكلات بكفاءة. والمعروفة بالمرونة الإدراكية (11، 12)] تُمكّنهم من تبرير وجهات نظرهم بطريقة أكثر إقناعًا. "لذا، ما تجده هو أنه في بعض القضايا المُستقطبة [التي تختلف فيها الآراء اختلافًا حادًّا]. يزداد الأعلى ذكاءً استقطابًا، وبالتالي انقسامًا بين المستقطبين".
انتبه إلى الفرق بين الكذب و"الهراء" (13، 14).
يرى أستاذ الفلسفة قاسم قسام Quassim Cassam من جامعة وارويك أنه من المهم فهم طبيعة الكذب. تستند حججه إلى عمل الفيلسوف الأمريكي هاري فرانكفورت Harry Frankfurt، الذي ركزت نظريته الشهيرة "الهراء" (13) في سبعينيات القرن الماضي على طبيعة الخداع. بحسب نظرية السيد فرانكفورت، الصادق والكاذب يشتركان في سمة مشتركة - كلاهما يهتم بالحقيقة. فالأول يريد قول ما هو صحيح، بينما يريد الكاذب قول شيء، وإن كان غير صحيح، إلا أن إدراكنا له يسوده ظلال من الشك والريب.
لكن هذا ليس حال من يمارس الهراء، كما يقول البروفيسور قسام. "الكذاب، بمفهوم فرانكفورت، هو شخص لا يكترث بصدق ما يقوله أو بكذبه - بل هو ببساطة لا يكترث بأي منهما". يصف البروفيسور قسام العقلية التي وراء الكذب بأنها "لامبالاة معرفية" - أي "عدم الاكتراث" بالحقائق. ويقول إن جوانب عديدة من الحياة العصرية تُشجع على إنتاج الهراء.
يقول: "بالنظر إليه من منظور الديمقراطية الفاعلة، نحتاج إلى الوصول إلى وضع لا يُكافأ فيه المتصدون على ممارستهم الهراء، بل يُحاسبون من قبل عامة الناس على هذه الممارسة، وعلى لامبالاتهم بالواقع أو بالحقائق". هذا يعني، عندما تُقدم لهم أو تعرض عليهم "الحقائق"، أن يكونوا على أهبة الاستعداد لأي لمحة أو إشارة تدل عليه.
طوّر مهارات التفكير النقدي
يؤكد ديفيد روبسون أن إحدى طرق زيادة المساءلة هي تعزيز مهارات التفكير النقدي، وهي تعتبر استراتيجية أساسية تُساعد الناس على جميع أنواع الحقائق والبيانات. إذا افتقر الناس إلى مهارات التفكير النقدي وقدمت لهم أو واجهوا معلومات مضلّلة، فسيصبح تصحيح هذه المعلومات المضللة مهمة صعبة جدًّا عليهم، لأنهم بمجرد تعلّقهم بها، لا يريدون التخلّي عنها والانفكاك عنها.
هذه هي الأمور التي يجب أن نركز عليها بشدة في التعليم، وأن نتأكد ألّا يتخرج طلاب المدارس إلا وقد اكتسبوا تلك المهارات بشكل تام. كما يدعو البروفيسور قسام إلى مزيد من الشك والتركيز المتزايد على التروي - أي تخصيص الوقت الكافي للنظر في الأمور بعمق. ويقول إن جزءًا من المشكلة يكمن في أننا نعيش في بيئة تُعدّ فيها السرعة أمرًا جوهريًّا.
"لا يوجد وقت كافٍ لتوضيح وجهة نظر معينة وشرح أفكار المرء بطريقة مدروسة. هذا يُشجع على بعض هذه السمات السلبية. نحن بحاجة إلى تعلم أن نفكر ببطء". ولكن في حياتنا الحالية التي تغمرها وسائل التواصل، يُجادل بأن تخصيص الوقت للتأمل غير مقبول. "هذا ما يؤدي إلى أنواع التبسيط المفرط والتشويهات والهراء التي أصبحنا جميعًا على دراية بها".
احذر من التسرع في الحكم على الآخرين
يُجادل سام روغيفين Sam Roggeveen، من معهد لوي Lowy Institute، ضد تسرع المرء في تصنيف الآخرين. ما قد يبدو غبيًّا بالنسبة لشحصٍ قد يكون منطقيًّا تمامًا لشخص آخر. يقول الدكتور روغيفين، المتخصص في السياسة والدراسات الاستراتيجية، نطور أحيانًا أنظمة تُشجّع الناس، دون قصد، على الانعزال بدلًا من الانخراط.
واستشهد الدكتور روغيفين بنظام الحزبين السياسي الحديث في أمريكا كمثال رئيس. فقد العديد من الناخبين اهتمامهم بتفاصيل السياسة، وأصبحت توجهات تصويتهم متقلبة (غير ثابتة)، لكن الدكتور روغيفين يحث على توخي الحذر في تعريف هذه الظاهرة.
واستخدم مصطلح "الجهل العقلاني (16)"، أي أن الناس يُبدون اهتمامًا فقط بالأمور التي يشعرون بإمكانية التأثير فيها. ويضيف الدكتور روغيفين أنه في الكثير من الديمقراطيات الغربية، استنزفت الأحزاب السياسية قاعدتها الجماهيرية إلى درجة أن الكثيرين لم يعودوا يشعرون بالاهتمام بها والانخراط فيها.
"لهذا السبب يركزون [بدلًا من ذلك] على أمور مثل الأسرة والعمل، والأندية الرياضية المنتمين إليها، لأنهم يعتقدون أن أفعالهم وتصرفاتهم يمكن أن تؤثر بشكل مباشر فيما يحدث في تلك المجالات". وهذا أيضًا هو سبب تأثر بعض الناخبين بالوعود الشعبوية الكلامية الخالية من الأفعال في حقيقتها [يقولون ما لا يفعلون]. يعتقد البروفيسور قسام أن تسرعنا في الحكم على الآخرين ليس فقط غير مفيد، بل ضار.
يقول الأكاديمي السويدي ماتس ألڤيسون إن المزيد من التأمل النقدي هو المطلوب. وهو يبحث في "الغباء الوظيفي (أو الغباء المهني) [الغباء الوظيفي هو عدم رغبة أرباب أو مسؤولي العمل في استخدام الموظف قدراته الذهنية والتأملية إلا في نطاق ضيق وحذر في المهمات الموكلة إليه إنجازها [مما يعني امتثالًا كاملًا للسياسة المتبعة في الشركة]. ويشمل ذلك عدم التأمل، أو طلب تبرير أو إعطاء تبرير، وتجنب الاستدلال الجوهري [الاستدلال الجوهري (Substantive Reasoning) هو عملية التفكير التي تركز على مضمون أو جوهر المعلومات لاتخاذ قرارات أو استنتاجات. ويعتمد على تحليل الحقائق والأدلة لتقييم مدى صحتها وموثوقيتها (17)]". ولذلك تترسخ العبارات الطنانة والأفكار المبتكرة المزعومة في شركة أو نظام بيروقراطي، حتى عندما يعلم جميع المعنيين تقريبًا أن كل ذلك مجرد هراء.
عندما يكون لدى المرء فائض من الغباء الوظيفي، يكون هناك هدر هائل للوقت والموارد، ويشعر الناس ببعض الاغتراب، وأحيانًا يتصرفون كالزومبي (بلا تأمل أو تفكير نقدي أو إحساس بالمسؤولية) في أماكن العمل. في مثل هذه الظروف، كما يقول الأكاديمي السويدي البرفيسور مات ألڤيرسون Mats Alvesson، حتى أصحاب الذكاء العالي قد يجدون صعوبة في التحرر [بل الامتثال التام للأوامر].
يقول البروفيسور ألڤيسون: "لا يفضلون إعادة النظر في افتراضاتهم أو الانخراط في آفاق أوسع، [بطرح] أسئلة نقدية، مثل: "ماذا نفعل هنا؟" أو حتى "ماذا بنيتنا فعله؟". لذا، في حين أنه من السهل السخرية ممن نعتبرهم أغبياء أو سذج أو ازدراؤهم، فإن الاعتراف بخضوعنا في دوامة الغباء والانخراط فيها قد يكون أمرًا صعبًا. بالنسبة لمن يتساءل منا عما إذا كان العالم يمكن أن يصبح أكثر غباءً، وما إذا كان الغباء هو قدرنا فعلًا، ربما يكون الجواب الوحيد هو أنه قد لا يكون بالضرورة كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- "ظاهرة التعمق في استكشاف موضوع ما عبر الإنترنت، والتي تعرف بـ rabbit holes of the internet، غالبًا ما يبدأ المتصفح بسؤال أو معلومة بسيطة، ثم ما يلبث أن يؤدي به البحث إلى سلسلة من الروابط والصفحات المتكثرة المتعلقة بالموضوع، مما قد يأخذ المتصفح بعيدًا عن الهدف الأصلي ويستهلك الكثير من الوقت”. مترجم بتصرف من نص ورد على هذا العنوان:
https://en.wikipedia.org/wiki/Down_the_rabbit_hole
2- https://ar.wikipedia.org/wiki/نسبة_الذكاء
3- https://www.123test.com/what-is-iq-what-is-intelligence/
4- https://ar.wikipedia.org/wiki/تصنيف_نسبة_الذكاء
5- https://ar.wikipedia.org/wiki/عقلانية_(علم_نفس)
6- https://altibbi.com/مصطلحات-طبية/علم-النفس/تفكير-مجرد
7- https://ar.wikipedia.org/wiki/حس_عام
8- https://www.abc.net.au/listen/programs/futuretense/is-dumbness-our-destiny/13336642
9- https://ar.wikipedia.org/wiki/انحياز_استعرافي
10- https://ar.wikipedia.org/wiki/استدلال_مدفوع
11- http://https://www.mentalhealthacademy.com.au/blog/mental-agility-mental-health-personal-growth
12- https://ar.wikipedia.org/wiki/مرونة_إدراكية
13- https://ar.wikipedia.org/wiki/الهراء_(كتاب)
14- https://www.theguardian.com/commentisfree/2022/dec/22/politics-difference-between-lies-bullshit
15- https://en.wikipedia.org/wiki/Rational_ignorance
16- https://en.wikipedia.org/wiki/Rational_ignorance
17- "الغباء الوظيفي هو عدم القدرة و/أو عدم الرغبة من جانب موظفي الشركة في ممارسة التفكير النقدي فيما يفعلونه (الانعكاسية، أي جريان الدور في العلة والمعلول، حيث المعلول يمكن أن يكون علة للأول)، ولماذا يفعلونه (التبرير)، وما هي تبعات أنشطتهم التي تتجاوز المهمة التي بأيديهم (الاستدلال الموضوعي الذي يركز على الجوهر لا على الشكليات)". ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:
https://ephemerajournal.org/contribution/functional-stupidity-critique
المصدر الرئيس
https://www.abc.net.au/news/2021-12-23/is-dumbness-our-destiny/100679506
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد علي التسخيري
الشيخ فوزي آل سيف
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد عبد الحسين دستغيب
د. سيد جاسم العلوي
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ علي رضا بناهيان
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
السخرية، بواعثها وآثارها
حال القرآن والقرّاء في آخر الزمان في الأحاديث
حفظ الصحة في رسالة الإمام الرضا (ع) الذهبية
الأفكار المشبوهة وتغييب النهضة الحسينية (2)
ما هو الغباء الوظيفي ولماذا هو شائع جدًّا؟
خارطةُ الحَنين
خيمة المتنبّي تحتفي بديوان الشّاعرة حوراء الهميلي الجديد (وصحوتُ.. للأحلام رائحة)
بين القيادة العلمية والقيادة الذرائعية
أَإِذا كُنَّا عِظاماً ورُفاتاً ؟!
لا تظنّوا بالآخرين سوءًا