الشيخ جوادي آملي
قانون العلّية والمعلوليّة هو مبنى دينيّ، يثبته العقل في الحكمة والكلام، ويعتبره النقل أيضاً أمراً مفروغاً عنه، كما في قول أمير المؤمنين(ع): «كلّ قائم في سواه معلول».[1] أمّا الّذي يذكر في العرفان فهو ليس نفياً لأصل العليّة، بل هو نفي للأسباب والعلل الموهومة أو المتوسّطة، والإستناد إلىٰ العلّة المعقولة أو النهائيّة. وأساس التوحيد العرفانيّ هو الإطلاق الذاتيّ للواجب وعدم تناهيه المستلزم لـ(الوحدة الشخصيّة للوجود) والموجب لإرجاع (العليّة) إلىٰ (التشأن) من جهة، وتبدّل (الصدور) إلىٰ (الظهور) من جهة أخرىٰ، ورجوع (العلل الحقيقيّة) إلىٰ (العلل الإعداديّة) من جهة ثالثة، وحصر العليّة الحقيقيّة في الموجود الحقيقيّ أي ذات الواجب من جهة رابعة.
والّذي يلاحظ في تفسير الميزان القيّم وعلىٰ أساسه يفهم العلاّمة الطباطبائي (رض) كلّ القرآن، هو الحكمة والكلام، وهذه هي (المرحلة المتوسّطة في التعقّل الدينيّ). نعم توجد في خبايا وزوايا «الميزان» مواضيع عرفانيّة عميقة بنحو مستور لا مشهور، وبشكل السرّ لا العلن، وبطريقة الإشارة لا العبارة، وبنحو الإشراق لا الإشراب، وهي مطويّة ومخزونة ومكتومة ومكنونة، بحيث لا يمسّها إلاّ العارفون، وما قاله جلال الدّين الرومي في كلماته المنثورة والمنظومة فهو يعتمد علىٰ مشهد العرفان الّذي يمثّل (المرحلة العليا للتعقّل الدينيّ)، والقرآن الكريم الّذي له مراتب ودرجات متعدّدة تبدأ من (عربيّ مبين) وترتفع إلىٰ (أمّ الكتاب)، ومن وادي اللسان الحجازيّ إلىٰ قمّة العليّ الحكيم، فهو حبل ممدود طرفه الطبيعيّ متوفّر بين البشر وطرفه ممّا هو وراء الطبيعة فهو بيد الله سبحانه، وهو الرسالة الإلٰهيّة، وكلّ مفسِّر مادام مرتبطاً بهذا الحبل الممدود (بغير إفراط وتفريط)، فتعقّله دينيّ وهو يفسّر النصوص الدينيّة النقليّة بواسطة الأسس والمباني الدينيّة العقليّة وليس في ذلك كلّه ما هو خارج إطار الدين.
ولكي نذكر مثالاً للاختلاف الطوليّ بين الحكمة والعرفان وليس تقابل النفي والإثبات بينهما نشرح علىٰ نحو الإجمال بعض الأبيات المنظومة لكبير عرفاء القرن السابع الهجريّ جلال الدين الروميّ الّذي كان يجمع بين الجمال والجلال، وهذه هي أبيات المنظومة:
إنّ الأنبياء جاءوا لقطع الأسباب وأسـندوا معجـزاتهم إلىٰ زُحَل
كلّ القرآن ينادي بقطع الأسباب وبه عزّ العارف وهلاك أبي لهب
كذلك قوله:
مــن أوّل الـقـرآن إلىٰ آخــره رفض للأسباب والعلل والسلام[2]
فهناك بعض المواضيع تستفاد من الأبيات المذكورة وهي:
1. إنّ الأنبياء جاءوا ليقدّموا رسالة التوحيد وحصر الوجود الحقيقيّ بالله الواحد هديّة للبشريّة، وفسّروا كثرة العالم بأنّها آيات ومظاهر وشؤون لذلك الواحد الحقيقيّ، ولم يتعاملوا مع كثرات العالم بإفراط في منحها حظّاً من الوجود، ولا بتفريط ليصفوها بالسراب، بل قالوا إنّ كثرة العالم مرآة لتلك الوحدة وهي صادقة في أنّها تعكس كالمرآة وليست كاذبة كالسراب.
2. إنّ رسالة الأنبياء هي دعوة الناس إلىٰ السبب الحقيقيّ، أي الله سبحانه، لا إنكار أصل السببيّة وإلاّ لزم أن نقول إنّهم، معاذ الله، يدعون الناس إلىٰ الاعتقاد بالصدفة والحظّ والهرج والمرج. فنفي الأسباب العاديّة يقترن مع إثبات السبب الحقيقيّ، ولم تقدّم النبوّة أبداً نفي العليّة والدعوة إلىٰ قبول (الأمر المريج) أي الهرج والمرج.
3. المعجزة تقترن حتماً مع أصل العليّة، لا مع الصدفة ونفي العليّة، لكنّ العلّة في معجزات الأنبياء مستورة، ومرتبطة من جهة بالإرادة الأزليّة (المبدأ الفاعليّ أو منشأ الظهور) وبقداسة النفس النبويّة من جهة أخرىٰ (المبدأ القابليّ أو المَظْهَر) وحكومة الإعجاز علىٰ الأرض والفضاء هي من سنخ حكومة الظهور الأقوىٰ علىٰ الظهور الأضعف.
4. في كلّ أنحاء القرآن حيث يعلو صوت التوحيد فإنّه ينادي بقطع السبب لا بقطع السببيّة، وإلاّ لزم الانقطاع عن مسبّب الأسباب (معاذ الله)، لأنّه إذا انتفىٰ أصل السببيّة فلن يبقىٰ أيّ سبب في نطاق الوجود سواء كان سبباً قديماً وأزليّاً أو حادثاً زائلاً، وذلك لأنّ نفي أصل العليّة مساوٍ للقول بالصدفة والحظّ والعشوائيّة.
5. إنّ عزّ الصوفي والعارف وهلاك أبي لهب وأمثال ذلك لا يرجع إلىٰ العلل والأسباب الظاهريّة، بل يعود إلىٰ إرادة مسبّب الأسباب الّذي هو مالك المِلك والمُلك والملكوت، فالسلطنة المطلقة هي مِلكه المطلق والمشاع: ﴿تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء﴾[[3]، ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعا﴾[[4]، ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعا﴾[.[5]
6. إنّ القرآن وروايات الدعاء في نفس الوقت الّذي تؤكّد فيه علىٰ أصل العليّة من جهة وتؤيّد العلل والأسباب الابتدائيّة والمتوسّطة من جهة أخرىٰ فإنّها تصف الله سبحانه بعنوان (صانع الأسباب) حيث إنّه يوفّر عليّة الأسباب الأخرىٰ، كما إنّه (مزيل الأسباب) حيث إنّ إرادته الأزليّة قاهرة وغالبة علىٰ جميع الأشياء والعلل والأسباب، كما إنّها تعدّه تعالىٰ (السبب الذاتي) الّذي لا تحتاج سببيّته إلىٰ الغير ولا هي مغلوبة للغير هذا من جهة، وإنّه (السبب القريب) المحض حيث إنّه أقرب من كلّ شيء إلىٰ أيّ شيء آخر. ولذلك فلا حاجة إلىٰ الشفاعة والوسيلة والتسبّب والتعلّل إلىٰ الغير، حيث: «إنّ الراحل إليك قريب المسافة وإنّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك...»[6] فإذا كانت المسافة بين العبد والمولىٰ هي أقرب مسافة (بشكل مطلق) إذن يمكن القول: «الحمد لله الّذي أناديه كلّما شئت لحاجتي وأخلو به حيث شئت لسرّي بغير شفيع فيقضي لي حاجتي...».[7]
وهذه المرتبة العالية من الرؤية التوحيديّة ليست هي (معاذ الله) لأجل نفي أصل الشفاعة والتوسّل، لأنّه توجد أدلّة قرآنيّة كثيرة من جهة وشواهد روائيّة عديدة من جهة أخرىٰ وبيّنات جليّة وواضحة من الدعاء من جهة ثالثة تثبت شفاعة الملائكة والأنبياء والأولياء ونخصّ بالذكر أهل بيت العصمة الطاهرين(ع) الّذين لا يفارقون الفكر والذكر للرابضين في فِناء الولاء مثل مؤلّف هذه السطور، بل هذه الشفاعة هي لأجل الإرشاد إلىٰ آخر شفيع في يوم القيامة وهو الله أرحم الراحمين، لأنّ ما سوىٰ الله وبسبب المحدوديّة في «الوجود» أو المحدوديّة في «ظهور الوجود» فإنّ شفاعتهم محدودة ويحتمل أن لا تنال المستخفّ بالصلاة وأمثاله، لكنّ الشفاعة غير المحدودة المطلقة لله سبحانه سوف تبقىٰ موجودة ومحيية للأمل. ولذلك ففي نفس الوقت الّذي نلجأ فيه إلىٰ الأسباب الّتي يقتضيها علم (الحكمة) و(الكلام) فإنّه يجب أن يكون لنا رجاء وأمل بمسبب الأسباب علىٰ النحو الّذي يقتضيه (العرفان)، وفي نفس حال التوسّل والاستشفاع بذريّة طٰه وياسين يجب أن نمدّ يد الرجاء بالدعاء والتضرّع إلىٰ أشفع الشافعين، ومثل هذه الرؤية الجامعة تقتضي أن ندعوا الله بجميع أسمائه الحسنىٰ من غير أن يؤثّر مثل هذا التوسّل والاستشفاع علىٰ روح الموحّد ويدنّسها بشائبة الشرك.
والمقصود هو أنّ هناك اختلافاً شاسعاً بين (رفض الأسباب والعلل) وهو كلام العارفين، وبين نفي العليّة وهو كلام الجاهلين وتشخيص ذلك أصعب من رؤية خيط أدقّ من الشعرة ومن السير علىٰ طريق أحدّ من السيف البتّار. وبهذا البيان الوجيز يتّضح سرّ وحقيقة الكلمات الرفيعة للأستاذ العلاّمة محمّدحسين فاضل التوني (رض)، حيث إنّه ذات يوم خلال درس شرح فصوص القيصري قال: إنّ الخواص من طلبة الحوزة العلميّة في أصفهان[8] كانوا يدرسون كتاب المثنوي[9] سرّاً لدىٰ أحد المتخصّصين في هذا الفن.
وحيث يطرح هنا دور العقل والبراهين العقليّة بعنوان أنّها جزء من العناصر الدينيّة في تفسير النصوص النقلية في الدين، ينبغي الإلتفات إلىٰ مسألة حسّاسة قد أشير إليها فيما سبق أيضاً وهي أنّه يجب أن يؤخذ حتماً في تعريف مفهوم التفسير قيد «بقدر الطاقة البشريّة» لأنّ النصوص النقليّة للدين هي الوحي الإلٰهي الّذي تكلّم فيه الله سبحانه حول أسمائه الحسنىٰ وصفاته العليا وأفعاله الحكيمة من المُلك والملكوت والدنيا والآخرة والمادّي والمجرد و...، والإدراك الصحيح لـ(الكلمات التدوينيّة) لله كالفهم الصحيح لـ(الكلمات التكوينيّة) يكون بمقدار سعة وقابليّة المدرك، ومعرفة الكنه في مجال علوم ومفاهيم القرآن كمعرفة الكنه في مضمار أسرار ورموز العالم العينيّ تعتبر صعبة بل هي مستصعبة. ولهذا فكما ذكر في تعريف مفهوم الفلسفة أنّها معرفة الوجود بقدر الطاقة البشريّة، فكذلك يذكر في تعريف مفهوم تفسير القرآن الكريم أنّه معرفة مقصود المتكلّم أي الله سبحانه «بقدر الطاقة البشريّة»، يعني أنّ قيد «بقدر الطاقة البشريّة» مأخوذ في تعريف تبيين العالم العينيّ (الفلسفة) وتبيين العالم العلميّ (التفسير).
ومن الجدير بالذكر أنّه يجب أن تحدّد جيّداً دائرة العقل بالنسبة إلىٰ النقل، فهل العقل هو «ميزان الشريعة» أم «مصباح الشريعة» أم «مفتاح الشريعة»، وهل يعمل العقل في داخل الشريعة (كمقياس فقهيّ) أي بواسطة التمثيل المنطقيّ، كما أفتىٰ جماعة بحجيّة القياس، بينما الفرقة الناجية تعتبره غير صحيح؟ إنّ اختلاف هذه العناوين الأربعة المذكورة وإثبات بعضها ونفي البعض الآخر يحتاج بيانه إلىٰ بحث مستقلّ.[10]
________________________________________
[1] . نهج البلاغة، الخطبة 186، المقطع 2.
[2] . المثنوي، الدفتر الثالث، الأبيات 2517، 2520، 2525.
[3] . سورة آل عمران، الآية 26.
[4] . سورة النساء، الآية 139.
[5] . سورة فاطر، الآية 10.
[6] . مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.
[7] . المصدر السابق.
[8] . في عصر المرحوم جهانگير قشقائي والحاج الآخونذ الكاشي حيث انّ المرحوم الفاضل التوني قد تتلمذ علىٰ يد هذين الفيلسوفين العظيمين.
[9] . المثنوي من الكتب الدراسيّة العميقة، وكونه مكتوباً باللغة الفارسية، ومنظوماً وحاوياً علىٰ القصص والحكايات والأمثال لايحطّ من عظمته وقيمته، فلايمكن استيعابه دون اُستاذ متضلّع وعارف ومتخصّص.
[10] . راجع كتاب الشريعة في مرآة المعرفة، فصل اقتران الوحي والعقل، ص207، وهو باللغة الفارسيّة.
الشيخ محمد جواد مغنية
محمود حيدر
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (1)
انتظار المخلّص بين الحقيقة والخرافة
تلازم بين المشروبات المحلّاة صناعيًّا أو بالسّكّر وبين خطر الإصابة بمرض الكلى المزمن
أسرار الحبّ للشّومري في برّ سنابس
الميثاق الأخلاقي للأسرة، محاضرة لآل إبراهيم في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (9)
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟