علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

إذا تعارض علم الكلام مع التّاريخ فما العمل؟

إنّ النظر إلى المباحث الكلاميّة يكون من زاويتين: الأولى: من حيث هي كاشفة بصورة قاطعة عن الحقيقة الثابتة فيما يرتبط بالله سبحانه، أو صفاته الجلاليّة والجماليّة، ومن حيث كونه خالقاً ومدبراً ومهيمناً على هذا الكون والحياة بكل ما ومن فيها. ثمّ عن النبوّة والأنبياء ومواصفاتهم ومعجزاتهم وكتبهم، ودورهم ومهماتهم، وما جاؤوا به من شرائع وأحكام.. وما يلحق بذلك من مباحث الإمامة ومواصفاتها وطرق ثبوتها وإثباتها، ودورها في قيادة ورعاية وهداية الأمّة بعد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، خصوصاً بعد نبيّنا الأكرم (ص).

 

ثمّ عن أحوال المعاد، بكل أبعاده وحالاته وشؤونه. ما دام أنّ ثبوت ذلك كلّه له دوره الكبير في تأييد أو تفنيد كثير من القضايا المطروحة، إذ أنّ ذلك كلّه من الحقائق الثابتة، التي يمكن على أساسها قبول أو ردّ كثير من الروايات التي تنسبت أموراً أو تتحدث عن قضايا لها مساس بممارسات الأنبياء أو بأوصيائهم، أو لها ارتباط بالذات الإلهيّة وما يصدر عنها، أو تتحدث عن قضايا المعاد والقيامة..

 

فإذا جاءتنا رواية تتحدث عن ظلم الله سبحانه لعباده فإنّنا لا نستطيع أن ننتظر نتيجة البحث السنديّ مثلاً لنحكم بصحتها أو بفسادها. ولا يمكن أن نوكل ذلك إلى البحث في قدم النص، وعمّن صدر أولاً، ثمّ من الذي أخذ عنه بعد ذلك، كما يفعله دعاة البحث في هذا العصر. بل نبادر إلى رفض الرواية والحكم عليها بالكذب والافتعال، استناداً إلى المسلّمات القطعيّة الثابتة لنا حول الذات الإلهيّة وصفاتها الثبوتيّة والسلبيّة.

 

وهذا هو ما يفعله أيّ عاقل على وجه الأرض فإنّه إذا ثبت له بالدليل القاطع عدالة شخص أو ملك واستقامته، فإنّه سوف يتردد ويشك في أية قضية تنسب لذلك الشخص أو الملك ظلماً فاحشاً أو عملاً مزرياً وفاضحاً حتى وإن كانت قد رويت بأسانيد توصف بالوثاقة أو بالصحة، ودوّنت في المصادر المعتبرة، فإنّه سوف يدور الأمر عنده بين أن يكون التلاعب في السند، وبين كون الاشتباه والخطأ من الرواة، مع أنّه لا يعتقد بعصمة ذلك الشخص ولا يستحيل عنده صدور ذلك منه عقلاً.

 

أمّا إذا بلغ الأمر لديه إلى درجة إدراك عقله لاستحالة صدور فعل مّا من فاعل معين، فإنّه لن يتردد ولن يشك، وإنّما هو يحكم بكذب ذلك الخبر وتزويره بصورة قاطعة وإلا لوقع في المحذور العقليّ الكبير والخطير. وهكذا الحال بالنسبة للأنبياء وأوصيائهم، الذين قام الدليل العقليّ على وجوب عصمتهم، فإنه لسوف يكذب بكل نص يحاول نسبة خلاف ذلك إليهم كما أنّه لا يتردد في تكذيب بعض ما ينسب إلى الناس العاديين الذي عرف فيهم مواصفات معينة تتنافى مع مضمون ذلك النص؛ فكيف بمن حكم العقل بلزوم عصمته، ونزاهة ساحته..

 

الثانية: أن ينظر إلى مباحث الكلام من زاوية مختلفة عمّا سبق، كأن تبحث من زاوية تأثّر الناس بعقائدهم في مواقفهم وممارساتهم.. فهذا لا يصلح مقياساً لمعرفة الصحيح من السقيم، والسليم من المحرف، إلا إذا ثبت بصورة قاطعة أنّ المحرّك الأول والوحيد لجماعة أو لإنسان ما في ما يتخذه من مواقف أو يصدر عنه من ممارسات هو اعتقاداته وقناعاته، وأنّ سائر الدوافع والمحركات لا دور لها معه، ولا أثر لوجودها.. ولا يمكن إثبات ذلك إلا بالنسبة لأفراد معدودين، من عباد الله المخلصين، وأوليائه الصالحين مثل سلمان وعمّار وأبي ذر والمقداد والأشتر وأضرابهم..

 

وكذا إذا تواتر النقل وتضافرت الشواهد والدلائل القاطعة بهذا الأمر من أي دين أو على أي طريقة كانوا. وثبوت ذلك لغير الأنبياء وأوصيائهم إنّما يكون بأخبار المعصومين، أو بوسائل أخرى تفيد اليقين بذلك. وحينئذ يصبح هذا الثابت واحداً من تلك المعايير التي يمكن أن تفيد في معرفة الصحيح من الفاسد في بعض المواقع والمواضع..

 

وهكذا يتضح أنّ علم الكلام لا يختلف عن علم الفلك والرياضيات والجغرافيا، ومسلمات علم النفس والاجتماع في أنّ نتائجه إذا ارتقت إلى مستوى القطع واليقين تصلح ضابطة ومعياراً يمكن بواسطته معرفة الصحيح من غير الصحيح في المواضع الذي يجدي فيه ذلك.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد