علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

التنظير الفلسفيّ للمدينة العرفانيّة (3)

مبنى الديني وجدليَّة الجمع والتأليف:

 

والجمع بين الميتافيزيقا وعالم الطبيعة البشرية، بوصفها أمراً واحداً متصلاً لا انقطاع فيه، عائد إلى اعتقاد “المعلم الثاني” بالجمعية الوجودية. أي إلى الإتصال الوثيق بين أمر الخالق ومأمورية المخلوق. وتالياً إلى مبدأ العلِّيَّة الذي يحكم هذا الاتصال. ولهذا المبدأ لدى الفارابي نظر عقلي فلسفي يتحدَّد ويتمازج مع النظر النقلي الديني وما يوافق الوحي. وفي “المدينة الفاضلة” سنقع على أوضح تجلِّيات هذا الاعتقاد، لا سيما لجهة صوغ مخطط متكامل للمدينة الجامعة بين فضاء الألوهيَّة وأرض البشر. ربما لهذا السبب بدا لكثيرين من الباحثين أن الفارابي في كتاب “أهل المدينة الفاضلة” كان متألِّهاً وفيلسوفاً سياسياً في آن، ذلك أن فلسفة الفارابي السياسيَّة تظهر في “المدينة” من خلال انبنائها على المماثلة بين عالم الطبيعة وعالم رأسه المبدأ الأول (أي الله تعالى) والمدينة الفاضلة وعلى رأسها النبي أو الرئيس الفيلسوف أو الولي الفقيه.

 

و”مقولة المدينة الفاضلة” عنده هي تلك التي تضاهي في نظامها وهندستها نظام العالم[1]. وها هو يصرِّح عن هذه المضاهاة في ما جاء في كتابه: “السياسة المدنية” الذي هو استكمال لأطروحات المدينة الفاضلة فيقول: وكما أن في العالم مبدأ ما أولاً، ثم مبادئ أُخَر، على ترتيب (=العقول السماوية، الملائكة)، وموجودات عن تلك المبادئ (=الأفلاك والأجرام السماوية)، وموجودات أخرى تتلو تلك الموجودات على ترتيب (=أشياء الطبيعة في الأرض)، إلى أن تنتهي إلى آخر الموجودات رتبة في الوجود (=المادة غير المشكلة “الهيولي”).

 

وكذلك في جملة ما تشتمل عليه الأمة أو المدينة مبدأ أول (=الخليفة الرئيس، الملك)، ثم مبادئ أخرى تتلوه (=الصحابة، خاصة الخاصة)، ومدينيون آخرون يتلون تلك المبادئ (=الخاصة) آخرون يلون هؤلاء إلى أن ينتهي إلى آخر المدينيين رتبة في المدينة والإنسانية (=العامة – الشعب)، حتى يوجد في ما تشتمل عليه المدينة نظائر ما تشتمل عليه جملة العالم. وهكذا تكون المدينة حينئذٍ مرتبطة أجزاؤها بعضها ببعض، ومؤتلفة بعضها مع بعض، ومرتبة بتقديم وتأخير بعض، وتصير شبيهة بالموجودات الطبيعية ومراتبها شبيهة أيضاً بمراتب الموجودات التي تبتدئ من الأول وتنتهي إلى المادة الأولى والإسطقسات (=الماء، الهواء، النار والتراب)، وارتباطها وائتلافها شبيهاً بارتباط الموجودات المختلفة بعضها ببعض وائتلافها. ومدبر تلك المدينة شبيه بالسبب الأول الذي به سائر الموجودات[2].

 

لقد كان واضحاً” بالنسبة للفارابي أن المدينة الفاضلة على تعاليها السياسي، هي مشروع تاريخي واقعي ينبغي الأخذ بعناصره المكوِّنة لتحصيل السعادة البشريَّة. وسيتبيَّن لنا في محطات لاحقة الوجه الطبيعي للحكمة الفيضيَّة التي عليها سينتصب صرح المدينة الفاضلة بعوامله المكونة كافة. فهذه الحكمة تفسِّر الوحي وتقبل عليه فيما تتوسل الفلسفة في الآن عينه كطريق لهداية العقل، حيث وجد بين الفلسفة والوحي تلك الوحدة المتماسكة الأجزاء، المتَّسقة المبادئ التي لا فجوة فيها ولا تناقض ولا تفاوت.

 

فالحكمة الفيضيَّة إذاً هي التي ستنشئ الإطار النظري للمدينة الفاضلة، ثم لتظهر آراء أهلها على النحو الذي صاغه الفارابي استناداً إلى مرجعيَّته المختلفة مضيفاً عليها سمته الخاص[3].

 

لقد أراد في عرضه لـ “المدينة الفاضلة وآراء أهلها” أن يهندس مجتمعاً بشرياً على أساس من الفضيلة والعدل. وتأويله في ذلك أن النبي والحكيم يدركان كلٌّ من مقامه الحقائق الأزلية الموحى بها من لدُن العقل الفعَّال. وإذا كانت هذه الحقائق غير ماديَّة ولا محسوسة فإن وضعها في قالب محسوس لا يعني أنها حقائق محسوسة. ولما كان النبي والفيلسوف الحكيم يدركان هذه الحقائق، فيحق لها فقط أن يؤسسا المدينة الفاضلة التي تقوم على دعائم موحى بها من علٍ. وهنا يسترشد الفارابي بنظرية أفلاطون الخاصة بالفيلسوف الملك، ويضيف إليها نظرية النبي الملك. لقد قال أفلاطون إن الفيلسوف يتأمل “المثل”، ويسترشد بها في تكوين المدينة الفاضلة وإدارتها، بينما رأى الفارابي أن الفيلسوف يتأمل هو أيضاً هذه الحقائق الأزلية في العقل الفعَّال الموجود في فلك القمر، كما أن النبي يوحى إليه بها من المصدر نفسه، وكل مدينة قائمة على خلاف هذه الأسس مصيرها الهلاك والزوال، وكل مدينة عرفت هذه الأسُس وتجاهلتها هي مدينة فاسقة، مصير أهلها العذاب[4].

 

تبعاً لهذا التنظير الفارابوي، لاحظ محمد عابد الجابري أن مقصود صاحب المدينة الفاضلة من “البرهنة التاريخية والمنطقية على أسبقية الفلسفة على الدين، هو إضفاء المشروعية والمعقولية على مشروعه الأساسي: المدينة الفاضلة، التي يندمج فيها الدين والسياسة في الفلسفة. ثم يورد الجابري عدداً من الملاحظات يعتبرها مهمة وأساسية في سياق استخلاص المدلول الإيديولوجي لفلسفة الفارابي السياسية الدينية. وهذه الملاحظات هي:

 

1-دمج الميتافيزيقا والسياسة في منظومة واحدة استعمل فيها منهجاً استدلالياً يصادر فيه على المطلوب.

 

2- بناء الموجودات، في عالم الإله وعالم الطبيعة والإنسان على أساس تراتب هرمي، يقصد منه – ظاهرياً- تشييد المدينة الفاضلة على غرار مدينة الله (أي العالم) حتى يتحقَّق لها من النظام والكمال ما هو متحقِّق فيما شيَّده الله.

 

3- إبراز التناظر بين تركيب عالم العقول المفارقة من جهة وعالم الانسان، كنفس وكبدن من جهة ثانية، وعالم الاجتماع الديني من جهة ثالثة لخدمة قضية واحدة أساسية. وهي إبراز دور الرئيس بوصفه قمة الهرم الذي تشكله كل هذه العوالم: العقل الأول بالنسبة إلى العالم الإلهي، والقلب بالنسبة إلى الجسد، والعقل المستفاد بالنسبة إلى قوى النفس، والرئيس بالنسبة إلى المدينة الفاضلة.

 

4- إبرام أهمية المخيلة، والإفاضة في تحليلها، والإلحاح على قدرته، على تجاوز العالم الحسِّي، وتلقِّي الوحي من العالم الإلهي، كل ذلك من أجل حل مشكلة النبوَّة، وإقامة جسر بين النبي والفيلسوف، بين الدين والفلسفة، وبالتالي إسناد رئاسة المدينة الفاضلة لهذا النبي الفيلسوف.

 

5- اصطناع الجدل النازل (من الله إلى العالم) عند تحليل العالم الإلهي وبيان تراتب العقول. من العقل الأول (الله) إلى العقل العاشر (العقل الفعال أو ملاك الوحي). واصطناع الدل الصاعد عند تركيب العالم السفلي، عالم الطبيعة والإنسان، ابتداء من الهيولى واجتماع الإسطقسات إلى العقل المستفاد، وانطلاقاً من الكائن الفرد وضرورة الاجتماع إلى المدينة الفاضلة[5].

 

في “كتاب الملَّة” الذي كرَّسه الفارابي للحديث عن موقعية الدين في المدينة الفاضلة، فإنه لم يعرفه كمجموعة من الآراء والأفعال (من دون أن يذكر عقائد الإسلام) تتصل بمؤسس، بهدف تشكيل جماعة متميِّزة، وبهدف تحقيق أهداف معينة، وهذه الأهداف تتجاوز بكثير الأخلاق والسياسة عند أرسطوطاليس، فتشمل صراحة علماً للكون وفقهاً سياسيين، علم نفس سياسياً وفيزيولوجيا سياسية، فما يتوافق مع علمٍ سياسيِّ للكون – لا بل مع نظرية لنشأة الكون – وهو وصف لأجزاء النفس البشرية ولأجزاء المدينة، نظرية التذكر الأفلاطونية جليَّة، لكننا في عالم توحيدي وخلقي، وفي ذلك تغيير كبير. لكن ثمة تأثير واضح هو تأثير نوع من العلمنة العائدة إلى المنطق الداخلي للمنهجة، جعل الفارابي يتحفظ تجاه المعطيات التاريخية[6].

 

ربما كان “تسييس” الفكر أكثر إضافات الفارابي أصالة في العالم الإسلامي. ويمكن تفسير هذا التسييس بأصوله وبالتحام الحاصل منذ العصر الساساني بين المعني اليوناني لكلمة polis ومعنى الدولة عند الفرس. يتحدث القرآن عدة مرات عن المدن، لكن من دون أن تكون لذلك دلالة خاصة. الكندي نفسه لم يستوقفه ذلك الأمر؛ أما الرازي فقد تحدث خصوصاً عن الفرد، ويبدو أنه لم يتطرَّق إلى السياسة إلا عرَضاً. في المقابل، وابتداءً من الفارابي، نالت رفعة مكانة الجماعة إقراراً في الفلسفة. بعد ثلاثة أرباع القرن من ذلك، سوف ينهي ابن مسكويه أول مجلَّدات كتابه: “تهذيب الأخلاق” بالتأكيد أن الإنسان “مدني بالطبع، أي هو محتاج إلى مدينة فيها خلق كثير لتتم له السعادة الإنسانية”[7].

 

الإمام المدبِّر للمدينة العرفانيَّة الفاضلة:

 

تركَّز مسعى الفارابي على تشكيل هندسة معرفيَّة متكاملة لمدينته تستوي على نشأة الفضيلة والمعرفة. وسيظهر لنا ذلك بصورة جليَّة لدى حديثه عن خواص ومزايا رئيس المدينة أو الإمام المدبِّر لأحوالها.

 

لقد حدَّد الفارابي على طريقة أفلاطون مزايا رئيس المدينة الفاضلة. لكنه أفاض بها فأضاف إليها ما اتَّصفت به الدولة الإسلامية في مرحلتها التأسيسيَّة أي دولة النبي والخُلفاء. واستناداً على اعتقاده (الفارابي) بمبدأ الجمع الوجودي التراتُبي بين المبدأ الأول والكون والإنسان فقد رأى أن الإنسان لا يستطيع أن يبقى وأن يبلُغ كمالاته إلاَّ في المجتمع.

 

ولئن كانت صفات الرئيس الأفلاطوني متَّصفة بالعموميَّة والإجمال، فإنَّ الصِّفات التي يخلعها الفارابي على رئيس مدينته ذات مزيَّة خاصة، خصوصاً حين يمنحها طابعها الديني الإسلامي. وهذه هي على الإجمال الصفات المخصوصة لرئيس الفارابي.

 

إنَّ الرئيس الأول هو مؤسس المدينة الفاضلة، فينبغي أن يكون هو أولاً، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها، والسبب في أن تحصل الملكات الإرادية التي لأجزائها في أن تترتَّب مراتبها[8].

 

2- إنَّ هذا الرئيس الأول، مؤسس المدينة الفاضلة، نسبته إلى هذه المدينة كنسبة السبب الأوَّل إلى سائر الموجودات، ولذلك ينبغي أن تبنى المدينة الفاضلة على الترتيب والنظام نفسه الذي بُنيَ عليه الكون. فهو الرئيس الذي لا يرأسه أحد وهو يرأس الجميع…إنَّه خليفة الله في الأرض[9].

 

3- إنَّ هذا الرئيس الأوَّل مؤسس المدينة الفاضلة يتمتَّع بمخيِّلة بلغت غاية الكمال وبعقل يسمو إلى درجة العقل المستفاد. فهو نبي وفيلسوف يتلقى المعرفة من العقل الفعَّال إما بطريقة الوحي وإما بطريقة التَّعقُّل والتأمُّل. وينقل الجابري عن الفارابي[10] ما يفصح عن هذه المرتبة فيقول: “إذا حصل ذلك لرئيس المدينة” أي إذا كمُلت مخيلته وبلغ درجة العقل المستفاد كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه، فيكون الله عزَّ وجل، يوحي إليه بتوسط العقل الفعَّال، فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى، إلى العقل الفعَّال يفيضه العقل الفعَّال إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقِّلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى قوَّته المتخيَّلة نبيَّاً ومنذراً بما سيكون ومخبراً بما هو الآن من الجزئيات.

 

4-أن يكون متَّصفاً بجملة من الخصال الجسمية والنفسية والعقلية والخلقية حصرها الفارابي في اثنتي عشرة خصلة، وهذه الخصال استوحاها الفارابي في آن واحد من جمهورية أفلاطون وصفات النبي (عليه الصلاة والسلام)[11].

 

وعليه، كانت المهمة العظمى في الحكمة الفارابية تظهير نظرية تعرُّف على رئيس المدينة الفاضلة يحكم بالعدل ولا يحيد عن معطيات الوحي حول مفهوم الخليفة الذي يتولى أمر الله في عالم الخلق. وهذا الخليفة الذي يرشِّحه ليكون على رأس المدينة، له صفة استثنائية ومفارقة عما دونه من زعماء وقادة. فهو صاحب العقل المستفاد المخصوص بالإنسان الكامل بما هو المرتبة الأعلى التي يستطيع عقل البشر الوصول إليه. وهي درجة من الكمال حيث لا يكون بينه وبين العقل الفعَّال شيء آخر، فيصبح مؤهَّلاً لتلقِّي المعقولات منه مباشرة.

 

على هذا النَّحو يلمح الفارابي إلى جعل مدينته الفاضلة مدينة عارفة أيضاً. ويدعو أهلها ليكونوا عارفين بأنفسهم، إذ متى عرفوا أنفسهم عرفوا بالعقل، عرفوا دينهم وشريعتهم حقَّ المعرفة فسلكوا بذلك سبيلهم إلى السعادة وباتت الطَّريق بين الدنيا والآخرة موصولة بالعُروة الوثقى والصّراط المستقيم. وإذا كان صعباً على النفس الفردية أن تتخلَّص من عوالقها وحدها – حسب الفارابي- فإنَّ انخراطها في المدينة الفاضلة يجعل بلوغها يسيراً وسهلاً ذلك لأن “كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاجٌ إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء ممَّا يحتاج إليه. وكل واحد من كل واحد بهذه الحال، فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال، إلاَّ باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين (….)، والخير الأفضل والكمال الأقصى إنَّما يُنال أوّلاً بالمدينة. والمدينة التي يُقصد بالاجتماع فيها التَّعاون على الأشياء التي تنال فيها السعادة والحقيقة هي المدينة الفاضلة”[12].

 

وما من ريب أن الفارابي لم يقارب المدينة الفاضلة إلا لتظهير تصوُّر عقلاني للوعد الإلهي بسعادة البشريَّة كما جاء في تقرير الوحي النازل على قلب نبي الإسلام (ص). ويبدو واضحًا إنَّه حين يتحدَّث عن رئيس المدينة تتراءى لقارئه وكأنَّه يحاكي الشخصيَّة النبويَّة، فيطلق على هذا الرئيس اسم واضع النواميس وأحيانًا واضع الشريعة. وهذا الوصفان لا ينطبقان إلا على نبي الإسلام. وعليه فإنَّه لـمَّا سعى إلى تشكيل المباني المعرفيَّة لمدينته انبرى إلى ترتيب خاص ينطلق من النظام الذي قامت به موجودات العالم، ويرى ضرورة انطباقه على سياسة الإنسان. فالعالم من وجهة نظره مخلوق من الله الواحد الأحد مدبِّر جميع الأمور وعليه يقول بأن المدينة يجب أن تنتظم وفق نظام العالم.

 

وصفوة القول إن رئيس المدينة يتأسَّى بالله ويتَّبع آثار تدبير مدبِّر العالم من حيث إعطاء أصناف الموجودات وخلق الغرائز والفِطَر والهيئات الطبيعيَّة بحيث يحمل كل صنف من أصناف العالم وجميع الموجودات الخيرات الطبيعيَّة كل بحسب مرتبته. وهكذا سيتبيَّن لنا أن نقطة الجاذبية في فلسفة الفارابي السياسية هي تقديم نموذج متخيل عن الدولة العادلة حيث يكون العقل المسدَّد فيها موصولاً بالشريعة المقدَّسة ولا ينفكُّ عنها البتة. وبهذا يتأسَّس الحكم الصالح الذي ينبني إلا على آراء نظرية صائبة؛ ذلك لأن آراء أهل المدينة الفاضلة لا يجوز أن تتناقض، أو تجانب صواب العقل، فيحكمها الجدال العقيم؛ بل على خلاف ذلك، يجب أن تصبح موحدة ومعقولة وفاضلة، بحيث تؤدِّي إلى تحقيق السعادة الحقيقية التي هي سعادة الحياتين الدنيوية والأخروية معاً.

 

تأسيساً على هذا التصوُّر المعقلن للوجود الإنساني، يقترح أبو نصر نظريته الشهيرة في (الرئيس الفيلسوف النبي)، أو (الرئيس الأول الفاضل)، الذي إذا وجد في المدينة، وحكم فيها كانت فاضلة، وكان اجتماعها اجتماعاً فاضلاً[13]، فلأن دور هذا الرئيس الأول محوري في تجسيد العقل في المجتمع الملي؛ يعمد المعلم الثاني إلى تشبيهه بالسبب الأول[=الله] في تدبير الوجود عبر العقول الثواني [=الملائكة]؛ إذ الرئيس الأول في المدينة – بحسب سياسته- ينبغي أن يوجد أولاً، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها، والسبب في أن تحصل الملكات الإرادية، التي لأجزائها، في أن تترتَّب مراتبها، فإن اختل منها جزء كان هو الـمُرفدَ له بما يزيل عنه اختلاله[14].

 

من هذا المنطلق، يعدُّ الرئيس الفاضل عماد تأسيس مشروعيَّة العقل في مجتمع الملَّة؛ لأن الدور الذي يقوم به مهم جداً، باعتباره الشخص الوحيد القادر على وصل مدينة الإنسان الأرضية بملكوت الله؛ عبر اتصاله بالعقل الفعال، وقد عبر الفارابي عن هذا الدور في فقرة مركزة له في كتابه (السياسة المدنية)، عندما صرح بأن الرئيس الأول على الإطلاق هو: “الذي لا يحتاج، ولا في شيء أصلاً، أن يرأسه إنسان، بل يكون قد حصلت له العلوم والمعارف بالفعل، ولا تكون له به حاجة في شيء إلى إنسان يرشده، وتكون له قدرة على جودة إدراك شيء؛ مما ينبغي أن يعمل من الجزئيات، وقوة على جودة الإرشاد لكل من سواه إلى كل ما يُعلمه، وقدرة على استعمال كل من سبيله أن يعمل شيئاً ما في ذلك العمل الذي هو معد نحوه، وقدرة على تقدير الأعمال، وتحديدها، وتسديدها نحو السعادة، وإنما يكون ذلك في أهل الطبائع العظيمة الفائقة إذا اتصلت بالعقل الفعال، وإنما يبلغ ذلك بأن يحصل له أولاً العقل المنفعل، ثم أن يحصل له بعد ذلك العقل الذي يُسمَّى المستفاد، فبحصول المستفاد يكون الاتصال بالعقل الفعال.

 

وما من ريب أن مثل هذا التصريح يُظهر المكانة المميزة التي يضع فيها الفارابي (الرئيس الفيلسوف)؛ فهو الشخص الذي لا يصح الاجتماع المدني من دونه؛ فالتركيز على الرئيس الأول للمدينة الفاضلة هو، في النهاية، تركيز على دور العقل في تأسيس هذه المدينة؛ لذا، فأخص خاصية تميُّزه من غيره من أعضاء مجتمعه، هي اتصاله بالعقل الفعال المفارق، ونظراً لذلك، فإن وجوده يشرط تأسيس هذه المدينة بل ويسبقها؛ إذ يجب أن يوجد هو أولاً، ثم يكون، بعد ذلك، السبب في وجود المجتمع الفاضل[15]؛ لذلك هو ليس مجرد فيلسوف فحسب، بالمعنى الحصري للكلمة؛ بل قد يصبح، أيضاً، نبيَّاً يتلقى الوحي من الله الذي يوحيه إليه بتوسط العقل الفعال ليبلغه إلى أهل مدينته الفاضلة، بذلك يعلمهم  النواميس الإلهية، ويهذِّبهم، ويتواصل معهم لا عن طريق الفلسفة فحسب، بل بوساطة الملة الإلهية الفاضلة أيضاً.[16]

 

واضح في ما مرَّ معنا أن صاحب المدينة الفاضلة أراد أن يسوغ لمدينة يجتمع أهلها على الفضائل ومكارم الأخلاق من دون أن يكون الأمر محال في الواقع. وهو إذ يضع الخطوط الهندسيّة لطبقات المجتمع المديني الفاضل ومراتبه من الأعلى إلى الأدنى فالأولى فإنما ليظهر التفاوت الطبيعي ضمن الدائرة الكُبرى المتَّسعة للفضيلة، ثم ليدلَّ على الحقيقة أن المدينة الفاضلة ليست مجرَّد “يوتيوبا” خارج الزمان والمكان على النسق الأفلاطوني. بل هي على نحو التعيُّن مدينية مسدَّدة ومؤيَّدة بعقيدة الإسلام وما أنزل الله تعالى إلى الرسول (ص) عبر طريق الوحي. على هذا النحو سنجد كيف أن نظرية التفكير الفارابية ستفضي إلى الجمع بين مرتكز جمهورية أفلاطون بصدد الفيلسوف الملك وبين التصوُّر الإسلامي للنبيِّ، “النذير” والولي كزعيم ديني ومخلِّص دنيوي في آن…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – الفارابي – السياسة المدنية –ص 17.

[2]– راجع: الجابري، محمد عابد – العقل السياسي العربي – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت 2000 – ص 355.

[3] – المصدر نفسه – ص 356.

[4] – الفارابي – آراء أهل المدينة الفاضلة – نفسه – ص 22.

[5] – الجابري، محمد عابد، نحن والتراث –ص 72-73.

[6] – الجابري – المصدر نفسه – ص 78.

[7]– ابن مسكويه، تهذي الأخلاق وتطهير الأعراق، ترجمه إلى الفرنسية وقدم له وعلق عليه محمد أركون، دمشق، 1969، صفحة 45.

[8] – الفارابي- آراء أهل المدينة الفاضلة – سبق ذكره – ص 99.

[9] – الجابري، محمد عابد – نحن والتراث – قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي – المركز الثقافي العربي – ط 6- الرباط – بيروت – 1993 – ص 75.

[10] – الجابري – نفسه – ص 104.

[11]– آراء أهل المدينة الفاضلة –ص 105.

[12] – الفارابي – آراء أهل المدينة الفاضلة – المصدر نفسه – ص 16-17.

[13]– أخدوش، الحسين – تأسيس معقوليَّة الإيمان في فلسفة الفارابي المدنية – دراسة ضمن كتاب: “الإيمان في الفلسفة والتصوُّف الإسلاميين- إشراف: نادر الحمامي – منشورات مؤمنون بلا حدود – 2016- ص 82.

[14]– الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتعليق: ألبير نصري نادر- ط4 – دار المشرق- بيروت – 1986- ص 18.، ص 120.

[15]– الفارابي، أبو نصر- آراء أهل المدينة الفاضلة، مصدر سابق- ص 120.

[16]– أخدوش، الحسين – مصدر سابق –  ص84.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد