إن قراءةً لهذين النموذجين تشير إلى أن المفردة قد تطلق بشكل مباشر، وقد تطلق بشكل موهم لمعنًى آخر، إلا أنها لو تمّ تتبعها في الباب الذي ترد فيه وفي التفريعات التي تتوالى عنها لأمكن إرجاعها إلى المفردة الأولى، بحيث يستبين هنا مثلًا: أن الولاية هي التمكّن بحسب مآلاتها، وأن التمكّن هو القدرة على التصرف بما يتماهى مع شأنية الولي الذي منه كانت كل ولاية..
إلا أن الملفت أيضًا أن التعابير وإن أتت بصيغ عامة قد تصح على الفرد في ولايته وتمكّنه، وعلى الجماعة في ولايتها وتمكّنها أيضًا، لكن المقاصد التي يبتغيها أصحاب الشروحات، بل والإرشادات التعليمية إنما تلحظ البعد الفردي في تربيته الأنفسية، وفي رابطه مع الوجود كحقيقة عامّة مركزها الأول في مرحلتها الأولى الإنسان الفرد نفسه، وبأفضل الظروف ضمن جماعته الخاصة ومركزها الأول في مرحلتها الثانية الألوهية كمحور لحركة السير والسلوك، ووشيج الصلة بين المبدأ والمعاد في المنطلق والمصير الوجوديين..
وهذا يعني أن الاستهداف إنما انحصر في الجانب الفردي عند كل من القراءات الصوفية أو العرفانية على السواء.. وبقي بُعد التمكُّن الثاني للولاية بامتدادها الذي يطال حركة الجماعة بما هي أمّة لا بما هي فرقة غريب عن المسار العلمي، بل والروحي إلا أن يُقيِّض الله أحيانًا شخصيات تستند على الولاية والتمكّن الأنفسي الفردي، إلا أنها تتجاوزه نحو الولاية والتمكّن الخلائقي، وإن بشكل غير مقنّن ومدروس غالبًا رغم وجود بعض الاستثناءات، ومن هذه الاستثناءات أذكر الإمام الخميني (قده)، لكن قبل الدخول في معالجاته المنظومية لموضوعة الولاية أودّ لفت الانتباه إلى ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: أن بعض شرّاح الكتب الصوفية والعرفانية تنبّه إلى هذه الحقيقة، لكنه تحدّث عنها بما هي من مستلزمات الانتساب إلى ولاية النبي (ص) دون أن يؤسّس لها بحراك التمكّن الاجتماعي والسياسي، وأذكر هنا نصًّا لعبد الرزاق الكاشاني، إذ يقول:
التمكّن آخر مقامات الولاية ونهاية مراتب التداني، وبداية مقامات التدنّي، وهو أول السفر الثاني، لأنه ردّ إلى البقاء وخُلع عليه خلعة الوجود للاصطفاء: انشرح صدره بالله، فشاهد رسوم الخلقية في عين الحقية، فأدنى حقائق المعارف والحكم التي هي من أسرار الاسم “الهادي” لتكميل الناس بالأصالة – إن كان نبيًّا – وإلا فبالخلافة والوراثة إن كان وليًّا.. فالولي في هذه الأمّة له من هذه المقامات نصيب على سبيل وراثة محمد (ع) وخلافته، وكما أنّ النبي (ع) لما فرغ من سلوكه في مقام ﴿أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [53/10] رُدّ إلى مقام الخلقية والتنزّل إلى مبالغ عقول الأمم؛ فقامت نفوس أمته مقام نفسه، فأخذ يهديهم ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [2/129]، فكذلك هذا الولي الوارث، إذا فرغ من سلوكه، ألهمه الله بالمكاشفة، وعلّمه الحقائق بالمسامرة، فقام نفوس الأحداث من المريدين مقام نفسه، ويربّيهم ويعلّمهم ويزكّيهم وراثةً وخلافة منه (ص)[1].
الملاحظة الثانية: أن الدور الذي أدّاه الإمام الخميني (قده) في حقل العرفان الاجتماعي – السياسي يكاد أن يشابه الدور الذي قام به محيي الدين بن عربي في العرفان الفردي، إذ استطاع أن ينطلق من الأعراف والحكم واللطائف والمعارف الصوفية المبثوثة هنا وهناك، فأعطاها ثوبها المنظومي مضيفًا إليها الكثير من المعارف الأخرى التي شكّلت مدرسة لها ما قبلها وما بعدها.
إلا أن الملحوظ في الحراك العرفاني عند الإمام الخميني (قده) هو إدخاله عناصر من قراءة النص على أساس المقاصد الإلهية للهداية. وقيم الرسالة النبوية منذ انطلاق حركة النبوّة إلى خاتمها رسول الله محمد (ص) القائمة على مجابهة الظلم والباطل والجهل بقيم الحق والعدل والمعرفة. وإدخاله الاجتهاد الإسلامي بأبعاده الفقهية منها والمعنوية. وإدخاله بعد المعرفة الزمنية كصنو للمعرفة التوحيدية في مباحث الإلهيات بالمعنى الأخص. مما أقام منهجه رضوان الله عليه على أصل التوحيد في الولاية التي تنعكس من حيث الموقف على صيغتي التبرّي لكل صنوف الجهالة والظلم بما هو شرك عظيم.. والتولي بما هو روح الانتماء الروحي والسياسي إلى حقائق الإيمان وبسط العدل في الحياة.
كما وتقوم على ركني التدبّر بما يشكّل من رؤية للوجود والإنسان والحياة، والتدبير بما هو شأن قيادة الحياة على أسس تدبّرية، إذ بمقدار ما يتماهى التدبّر بالتدبير ويتفاعلان نماءً نورانيًّا ومعرفيًّا بمقدار ما يتعمّق التمكّن في النفس الفردي ويتسع عشقًا ولائيًّا ساريًا في الخلائق، وبين العباد حتى إذا ما وصل إلى اكتمالاته فصل الناس بفيصل صراطيته إلى مؤمن محب وكافر مبغض. وإذا كانت هذه الحالة قد ألفناها مع ولاية محمد وآله (ع) فإن ما يشابهها ويقاربها مشهود بانقسام الناس مع ولاية الإمام العرفانية السياسية إلى محب مندفع وإلى معاد بغيض، بحيث كان لهذه الولاية آثارها المعنوية والسياسية في الحياة العامة أيضًا..
أضف أن الإمام (قده) تدخل حتى في بعض الحيثيات التي أضفت على العرفان طابع العموم السياسي والجهادي فصار الشهيد عنوان العارف، وصار الخندق محراب صلاة، وصارت بذلة القتال خرقة الصوفي، وصارت الحياة محضر الله والسير والسلوك هو إعمار الأرض وخدمة العباد وإرشادهم إلى عناوين العزة والكرامة فيهما يكون السبق وأهلهما هم السابقون السابقون..
وقد استند الإمام (قده) في كل ذلك إلى الأحدي من البشر صاحب الكشف الأتم، والحقيقة الشاملة المطلقة رسول الله محمد (ص) ونوراه المنبعثان من فيض ولايته أمير المؤمنين علي (ع) وسيدة نساء العالمين الزهراء (ع). وقد قدّمهم هذه المرة على صورة الإسلام بما هو الدين القيّم الشامل للعالمين، الدين الذي أراد الله له أن يظهره على الدين كله.. لا على صورة المذهب والتفسير الخاص الذي ينخنق داخل أسوار العصبيات والتحزّبات، وانطلق ليقول رضوان الله عليه: إن صاحب المكنة الولائية، بل وأصل التمكّن في الأرض إنما يكون بالترشّح عن سمة الولاية المحمّدية؛ فالمستأمن على الناس العارف بأحوالهم وبحق الله فيهم لا يمكن أن ينحصر في همومه وقضاياه داخل طريقة هنا أو فرقة هناك أو مذهب هنالك، بل هو روح الولاية المنغرسة في أنفس الخلائق والمبثوثة بين عباد الله الذين ظُلموا لقولهم ربنا الله.
وقد أسّس لهذا المعنى من زاويتي المعرفة النظرية والإرشادات العملية.. فكانت الأولى هي بعد العرفان النظري الذي سعى لشرحه في كتاب مصباح الهداية.
والذي جاء في مقدّمته “الصلاة والسلام على أصل الأنوار ومحرم سر الأسرار المستغرق في غيب الهوية والمنمحى عنه التعيّنات السوائية أصل أصول حقيقة الخلافة، وروح أرواح منصب الولاية، المستتر في حجاب عز الجلال والمخمَّر بيدي الجلال والجمال، كاشف رموز الأحدية بجملتها، ومظهر حقايق الإلهية برمّتها، المرآة الأتم الأمجد سيدنا أبو القاسم محمد (ص)، وعلى آله الشموس الطالعة من فلك الخلافة الأحمدية”[2].
واستكمالًا لهذا التأسيس فإنه (قده) اعتبر أن التماهي بصاحب الحقيقة المحمّدية يمكِّن من إرشاد الخلائق إلى كمالاتهم اللائقة بهم وقد أسهب في هذا الأمر بشكل واسع.
أما على المستوى العملي فلقد أوصى ابنه السيد أحمد أن يتفكّر في حجم معاناة النبي (ص) لهداية قومه، بحيث قال ما أوذي نبي مثلما أوذيت. وأنه (ص) كيف استمر في رعاية الناس، ثم يقول لابنه: “إن أولئك الذين بلغوا هذا المقام أو ما يماثله لا يختارون العزلة عن الخلق أو الانزواء فهم مأمورون بإرشاد وهداية الضالين إلى هذه التجلّيات - وإن كانوا لم يوفقوا أحيانًا كثيرة في ذلك. أما أولئك الذين بلغوا مرتبة ما من بعض هذه المقامات، وغابوا عن أنفسهم بارتشاف جرعة ما وظلوا بذلك في مقام الصعق، فإنهم وإن كانوا قد حازوا مرتبة ومقامًا عظيمًا إلا أنهم لم يبلغوا كمال المطلوب”[3].
فمعيار الكمال في عرفان الإمام (قده) هو هجر العزلة لإخراج العباد من أسر الشرور والمصالح الضيقة، واستفحال الظلم والجهل فيهم.. وهذا ما يحتاج إلى نحو من الولاية تكسر الصورة النمطية لمشيخة الصوفية بروح رسالية تقتبس من نور رسول الله أسوتها..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني، شرح منازل السائرين، تحقيق وتعليق محسن بيدارفر، مؤسسة التاريخ العربي.
[2] الإمام الخميني، مصباح الهداية، (بيروت: دار القارئ، سنة 1997)، الصفحة 13.
[3] الإمام الخميني، مصباح الهداية، المصدر السابق، الصفحة 16.
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عدنان الحاجي
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد صنقور
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
الوجود ليس باطلًا
الشيخ عبد الله النمر: المنهج القويم معيار السلامة
أصل النّفس ومصيرها
أصالة الحاكمية في العقيدة الإسلاميّة
(التّوحّد في عيون مختلفة: فهم ورؤية)، محاضرة في سنابس للدّكتورة سحر صلاح
فضيّة وبراءة اختراع للدّكتور الحدّاد في معرض جنيف
طالب ثانوية يكتشف أجرامًا سمايّة بالذّكاء الاصطناعي
الولاية والتّمكين بين الاصطلاح وحراك المعنى (2)
حمزة المفضال
شهيد الإسلام حمزة بن عبد المطلب