قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

التّفكير فريضة إسلاميّة

إنّ الذكر الحكيم يعدّ التفكير فريضة دينية، يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا». «1» وقد تكرر قوله سبحانه في الذكر الحكيم: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». «2»

 

فلو كانت الفريضة هي الجمود على ما ذكره السلف فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد، فلماذا حثَّ سبحانه على التفكير في آياته وخلقه؟! أليس في ذلك دعوة لمعرفة المبدِئ وأسمائه وصفاته وأفعاله حسب الطاقة البشرية من خلال التدبّر في آثاره وآياته الكونية؟.

 

إنّه سبحانه عندما يندِّد بالملحدين والمشركين يخاطبهم بقوله: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ»، ويقول سبحانه: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ». «3»

 

وعلى ضوء ذلك فالبرهان هو مدار الإيمان والصلاح والنجاح، فمَن طلب البرهان أو أبطل الوهم به، فقد عمل بالقرآن؛ وأمّا من أقفل على قلبه وعقله وقلّد السلف دون تفكير، فقد عطّل عقلَه وتفكيره.

 

ثمّ ما الدليل على أنّ السلف أفضل من الخلف، وكأنّ السلف قد أحاطتهم هالة من العصمة لا يخطئون ولا يشتبهون. وإنّ خير السلف هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام وأهل بيته الطاهرين، قد فتحوا باب المعارف الإلهية بوجه الأمّة على ضوء الكتاب والسنّة الصحيحة والعقل الحصيف الذي به عرفنا ربّنا سبحانه، لا عن طريق المشاغبات والمجادلات.

 

إنّ القرآن الكريم يحثُّ على التعقّل في آياته سبحانه ويقول: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ». «4» ويقول سبحانه: «أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» «5»، ويبيّن أنّ الغاية من ضرب الأمثال هو التعقّل ويقول: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» «6».

 

ويبيّن أنّ شر الدّواب هو الإنسان الذي أغلق عقله وأعدم تفكيره، يقول تعالى: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ». «7» إلى غير ذلك من الآيات الحاثَّة على التعقّل.

 

أفهل يصحّ تخصيص هذه الآيات بالتعقّل في أُمور الدنيا ومعاش الإنسان وما حوله من العلوم الطبيعية والفلكية فقط؟ أو أنّ مقتضى إطلاقها، هو التفكير في الطبيعة وما بعدها؟

 

فلو صحّ ما يقوله علماء السلف: «إنّما أُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية، فمن شغل ما أُعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية ولم يدرك الربوبية». «8» فلو صحت هذه الجملة فمَن المخاطب إذن بهذه الآيات التي تحتوي على براهين مشرقة؟!

 

«أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ». «9» «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ». «10» «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». «11» إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها أُصول المعارف الإلهية التي تقع وراء الحس والطبيعة.

 

ثمّ إنّه سبحانه يأمر بالشكر بعد ما يذكِّر ببعض مواهبه من السمع والأبصار والأفئدة ويقول سبحانه: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». «12»

 

والمراد من الشكر في ذيل الآية صرف النعمة في مواضعها، فشكر السمع والبصر هو إدراك المسموعات والمبصرات بهما، وشكر الفؤاد هو درك المعقولات وغير المشهودات به، فالآية تحرّض على استعمال الفؤاد والقلب والعقل في ما هو خارج عن إطار الحس وغير واقع في متناول أدواته.

 

ولأجل ذلك يتّخذ القرآن لنفسه في هذه المجالات موقف المعلِّم فيعلِّم المجتمع البشري كيفية إقامة البرهنة العقلية على توحيده سبحانه في أمر الخلقة والتدبّر.

 

باللَّه عليك أيّها القارئ اقرأ الآيات التالية، ثمّ احكم بنفسك، هل يمكن لإنسان أن يقف على مغزاها بلا تفكير وتعقّل مبني على أُصول متعارفة أو موضوعة؟ فلو أعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك (مشاهد) الربوبية فماذا تهدف هذه الآيات التي أمرنا بالتدبّر فيها؟!

 

«نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ». «13»

 

رغم أنّ علم الكلام الذي هو من أفضل مظاهر التفكير، كان ضرورة زمنية دعت المخلصين الغيارى من علماء الإسلام إلى تدوينه ونشره حتّى يقوم الجيل الحاضر بالدفاع عن حياض الشريعة بقوة وحماس، ترى أنّ أكثر التابعين وحتّى أئمّة الفقه يعارضون علم الكلام بل يحرمونه، فهذا هو مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري ذهبوا إلى رفض علم الكلام ومهاجمة المتكلمين.

 

فقد نقلوا عن الشافعي قوله في أثناء موته: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفرّوا منه فرارهم من الأسد. وأمّا أحمد بن حنبل فقد استخدم في حقهم لفظ الزنادقة. وأمّا مالك فقد رفض الكلام والمتكلّمين بحجة أنّهم قوم على استعداد أن يغيّروا دينهم وفقاً للبراهين التي تعرض لهم أو تعرض عليهم، فقال: أرأيت إن جاء عالم الكلام من هو أجدل منه أيدع دينه كلّ يوم، لدين جديد. «14» إلى غير ذلك من الكلمات المروية عن التابعين وتابعي التابعين.

 

وهذا هو الإمام الأشعري لما عدل عن منهج الاعتزال والتحق بمذهب الإمام أحمد لم يحتفل به أصحاب الإمام أحمد. قال عبد اللَّه الحمراني: لمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى البَربهاري فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم، ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا؛ وأكثرَ الكلامَ، فلمّا سكت قال البربهاري: وما أدري ما قلت لا قليلًا ولا كثيراً، ولا نعرف إلّا ما قاله أبو عبد اللَّه أحمد بن حنبل. قال: فخرج من عنده وصنف كتاب «الإبانة» فلم يقبله منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. «15»

 

وقد اشتهر ذمُّ علم الكلام على لسان الذين عطلوا تفكيرهم وكرّسوا جهودهم بنقل الحديث دون وعيه ودرايته، وقد نُقلت في هذا المقام كلمات عن السلف نظير ما نقلناه. ولا بأس بذكر بعضها:

 

نقل ابن الجوزي بسنده عن الوليد بن أبان الكرابيسي أنّه قال لبنيه لما حضرته الوفاة: تعلمون أحداً أعلم بالكلام منّي؟ قالوا: لا، قال: أفتتهمونني؟

 

قالوا: لا، قال: فإنّي أُوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإنّي رأيت الحقّ معهم.

 

ونقل أيضاً عن إمام الحرمين أنّه كان يقول: لقد جُلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبتُ البحرَ الأعظم، وغصت في الذين نهوا عنه كلّ ذلك في طلب الحقّ وهرباً من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف برّه فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني.

 

وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أنّ الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به.

 

وقال أبو الوفاء ابن عقيل لبعض أصحابه: أنا أقطع أنّ الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيتَ أنّ طريقة المتكلّمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد، تشم روائح الإلحاد من فلتات المتكلّمين، وأصل ذلك أنّهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند اللَّه من الحكمة التي انفرد بها ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأُمور. «16»

 

هذه كلماتهم في ذم التعقّل والتفكّر وكم لها من نظير، وعلى القارئ الكريم أن يعرض كلماتهم على الذكر الحكيم حتّى يتبين الحقّ من الباطل، وأن يكون رائده إلى الحق كلامه سبحانه لا كلمات القوم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). آل عمران: 191.

(2). الرعد: 3؛ النحل: 11؛ الزمر: 42؛ الجاثية: 16.

(3). الأنبياء: 24.

(4). البقرة: 242.

(5). الأنبياء: 67.

(6). العنكبوت: 43.

(7). الأنفال: 22.

(8). الإثبات والتفويض لرضا نعسان معطي، نقلًا عن الحجة في بيان المحجة: 33.

(9). الطور: 35.

(10). الأنبياء: 22.

(11). المؤمنون: 91.

(12). النحل: 78.

(13). الواقعة: 57 - 72.

(14). علم الكلام ومدارسه: 51 - 52.

(15). تبيين كذب المفتري: 391.

(16). انظر للوقوف على مصادر هذه الكلمات تلبيس إبليس: 82 - 83، ط دار القلم، بيروت.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد