4 ـ الإعراض
وأقصد به أنّ المرحلة المكّيّة تستدعي في بعض الأحيان أن يقوم العاملون في سبيل الله بالتركيز على البناء الذاتيّ، والإعراض عن الآخرين، وعدم الاهتمام بهم والتأثُّر بما عندهم، قال تعالى:﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ﴾ (1).
ففي بعض الأحيان نحن نحتاج إلى قَدْرٍ من الإعراض؛ إمّا لغاية عدم التأثُّر بالآخر؛ أو لغاية الاشتغال على الذات وترك الآخر وما يقول وما يفعل؛ لأنّ البقاء في أَسْر الآخر أحياناً ـ أخذاً وردّاً ـ قد يضعف الوعي العامّ، تبعاً لضعف وعي الآخر الذي قد يفرض التنزُّل له.
فلابدّ للعاملين في الخطّ الإسلامي من أن يشتغلوا على بناء الذات، وليس على محاربة الآخر فقط. فبناء الذات ـ علميّاً وعمليّاً ـ هدفٌ أصيل، كما أنّه شكلٌ من أشكال مواجهة الآخر، الذي قد لا يريد لنا أن نبني ذواتنا، ونصنع من أنفسنا أنموذجاً صالحاً في العلم والعمل. ولعلّه يناسبه أحياناً أن نُستهلَك في مواجهته، ولا سيّما أنّ بعض الخصوم لا يظهرون إلاّ في حالات التنافس السلبيّ هذه، أمّا في الحالات الهادئة فإنّك لا تجد لهم رصيداً. فالدخول معهم في مواجهةٍ قد يؤدّي إلى منحهم فرصةَ وجود، وفقدان حركة الوعي فرصةَ بناءٍ وتكوين.
إنّ أمام العاملين الكثير من المسؤوليّات. ولا تقف هذه المسؤوليّات في مواجهةٍ هنا أو هناك، بل تتنوَّع. ففي العصر الحاضر تواجه حركةُ الوعي حركةَ الخرافة والتهريج. وهذه المواجهة جيّدة ما دامت منضبطةً للقواعد الشرعيّة والأخلاقيّة، لكنّ استنزاف حركة الوعي نفسها في هذا الموضوع، وكأنّه لا يوجد بديلٌ عنه أو ملفٌّ آخر ضروريّ يجب الاشتغال عليه، هو خطأٌ فاضح. فلابدّ من توزيع الأدوار والنشاطات؛ ليواجه الخرافة فريقٌ؛ فيما يشتغل فرقاء آخرون على سائر الملفّات؛ لتقديم حلولٍ لمشاكل الشباب اليوم، لقضايا الأسرة والتفكُّك الاجتماعيّ والأزمات التي خلقتها ثورة المعلوماتيّة في العلاقات، وقضايا الجنس والعلاقات الخاصّة، لمشاكل الشباب في الجامعات، لقضايا الاغتراب، لقضايا الصدق والأمانة، للقضايا الماليّة، لقضايا الصداقة وبناء اللحمة، لبناء صروحٍ فلسفيّة ومعرفيّة للفكر الإسلاميّ، ولمواجهة سيول النقد ضدّ الدين كلِّه مع حركة الإلحاد الجديدة التي ظهرت في الغرب بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وبدأت بالانتشار في العالم العربيّ مؤخَّراً، لقضايا العنف والإرهاب والمواطنة، ولمواجهة الكثير الكثير من القضايا الأخرى.
أمّا لو استنزفت الحركة التوعويّة نفسها في ملفٍّ واحد لأدّى ذلك إلى ضعفها وتلاشيها، وإلى استيقاظها بعد فترةٍ على خواء وفراغ.
هذا هو معنى الإعراض، أي أن لا تعيش الحركةُ الواعية في مدار ردّة الفعل على ما يأتي به الآخر، بل تسعى لكي تصنع الواقع بأسباب الصنع التي خلقها الله تعالى في الحياة، وأن تصبر وتصبر؛ لأنّ هذه الأمور قد تحتاج إلى أجيال كي تكتمل، وليس دائماً يستطيع المنطق الثوريّ الراديكاليّ أن يغيِّر الأمور في لحظاتٍ قصيرة.
وإذا ما عاشت أمّتنا الإسلاميّة منذ قرنٍ على ثقافة الثورات فإنّ وعيَها بات يقول لها بأنّ الأمور تتغيَّر بسرعة، فيما كثيرٌ من الأمور تحتاج إلى زمنٍ طويل حتّى تكتمل، وليس يمكن القيام بثورةٍ في كلّ لحظة؛ فللحياة منطقها الخاصّ الذي لا يحمل شكلاً واحداً من العمل والأداء.
أكتفي بهذا القدر من الإشارة السريعة إلى بعض خصائص المرحلة المكّيّة (عدم الغرور بقوّة الآخرين ولا الذهول أمامهم، الامتحان والاختبار، الصبر والتحمُّل مع التقوى، الإعراض).
ويمكننا أن نستخلص شخصيّة الداعية المسلم في هذه المرحلة بأنّها:
أـ شخصيّة قويّة لا تخاف الآخر، ولا يهمّها ما يملكه من مال وعدّة وعتاد، ولا يغيِّر من قناعاتها قوّته وتهديده وتوعُّده ووعيده. وهذا هو عنصر الشخصيّة القويّة الشجاعة.
ب ـ الاستعداد للدخول في مرحلة الاختبارات والامتحانات، عبر التهيُّؤ النفسيّ لذلك، ليكون هذا تربيةً روحيّةً للفرد والجماعة. وهذا هو عنصر البناء الروحيّ.
ج ـ ثنائيّ الصبر والتقوى، وحمل النَفَس الطويل إزاء مواجهة المصاعب والأحداث. وهذا هو عنصر القدرة على الاستمرار بشكلٍ سليم.
د ـ الإعراض، بأنْ لا يستهلك نفسه في المساجلة والخوض في ما يخوضون فيه، بل يصنع الواقع بنفسه عبر أسبابه المتعدِّدة. وهذا هو عنصر البناء الذاتيّ، والانتقال من ردّة الفعل إلى الفعل.
ثانياً: المرحلة المدنيّة في المشروع التغييري، تعاليم فرقانيّة
بعد أن تحدّثنا عن بعض ميزات المرحلة المكية نعّرج بنحو الاختصار أيضاً على المرحلة المدنيّة. ولها ميزاتها وخصائصها، وأبرزها:
1ـ فرض منطق القوّة وإيجاد التوازن
فعندما ينتقل المؤمنون إلى المرحلة المدنيّة في التغيير فإنّ عليهم أن يفرضوا قواعد جديدة للعبة، وهي القائمة على منطق توازن القوى.
إنّ القوّة معيارٌ رئيس هنا. فالحقّ لا ينتصر بحقّيّته فقط، بل يحتاج إلى القوّة كي تشكّل ضماناً له وحماية، وإلا انهار تحت أقدام الآخرين، ومن هنا فُرض في الإسلام الجهاد تعبيراً عن منطق فرض التوازن وحماية الجماعة، وجاءت الأوامر بالغِلْظة مع الكافرين؛ لأنّ الكافرين هم رمز الاعتداء والعدوان على الدعوة الإسلامية؛ حيث حاصروها منذ انطلاقتها، وأعملوا كلّ وسائل القتل والتشريد، ومصادرة الأموال، وتسقيط الأشخاص، وتأليب الناس على الداعين إلى الله تعالى.
إنّ الكفر في المنطق المدنيّ تعبيرٌ عن الآخر الذي يقف في المواجهة، وليس فقط تعبيراً عن اعتقاد أو وجهة نظر، وهذا هو واقع الكافرين في المرحلة المدنيّة. والانحراف الفكريّ عندما يحارب حركة الهداية والرشاد يصبح معادياً، ويخرج عن كونه مجرّد وجهة نظر، فيحتاج إلى القوّة التي تردعه، وليس فقط إلى الحوار الفكريّ الذي يقنعه.
من هنا، نجد قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... ﴾ (2)، والشدّة على الكفّار تعني الشدّة على كفّار المواجهة والحرب، وإلاّ فإنّ الله يقول: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ... ﴾ (3). فإنّ البرّ هنا ضرب من الرحمة.
ولا تنافي بين الآيتين الكريمتين، حتّى يُدَّعى نسخ الثانية، كما قال بعض المفسّرين وعلماء القرآنيات؛ لأنّ الكافر في جملة من النصوص القرآنية هو ما أسمّيه (كافر المواجهة)، وليس (كافر المعتقد). ولا أريد أن أدخل في ثنايا البحث التفسيري والقرآني هنا، وإنما أكتفي بإيجاز وجهة نظري هذه.
(فكافر المواجهة) يستحقّ الغِلْظة، ولا يستحقّ الرحمة، ولهذا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ (4). فالغلظة ضرورةٌ ضدّ مَنْ يستخدمها ضدّك؛ حتّى يقف عند حدّه، وكذلك الشدّة والحزم.
ومن هنا ذهبت الآيات القرآنية إلى تأسيس منطق القوّة؛ بهدف إيجاد التوازن والردع والمنع، المعبّر عنه في القرآن الكريم بإيجاد الرهبة، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... ﴾ (5).
إنّ منطق القوّة هو منطق أن يخشاك الآخر، فلا يعتدي عليك، ولا يفكّر في التطاول على دينك ومقدّساتك وذاتك وأمّتك. ومن هنا يلتقي (مبدأ الإعداد والاستعداد)، وهو أحد مبادئ المرحلة المدنيّة، بمبدأ (القوّة)، الذي هو مبدأ آخر؛ ليكون الأوّل محقِّقاً للثاني، وليكون هدفهما مبدأ ثالثاً، هو مبدأ (التوازن وحماية الجماعة المؤمنة من العدوان، وحفظ الدين، وتأمين مسيرته).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
13. القرآن الكريم: سورة السجدة (32)، الآية: 30، الصفحة: 417.
14. القرآن الكريم: سورة الفتح (48)، الآية: 29، الصفحة: 515.
15. القرآن الكريم: سورة الممتحنة (60)، الآية: 8، الصفحة: 550.
16. القرآن الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 123، الصفحة: 207.
17. القرآن الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 60، الصفحة: 184.
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسين الخشن
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي آل محسن
الشيخ مرتضى الباشا
محمود المؤمن
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
لمن يكتب الفيلسوف؟
عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ودعوى احتباس الوحي (1)
المذهب الربوبي: مفهومه ودوافع اعتناقه (3)
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (3)
كيف يتذكر الدماغ الأحداث؟
حول الارتباط الصحيح بأهل البيت عليهم السلام
دورة للإسعافات الأوليّة في برّ سنابس
المذهب الربوبي: مفهومه ودوافع اعتناقه (2)
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (2)