مناقشة ما قيل إنَّه منشأٌ لاحتباس الوحي:
ثم إنَّ الكلام يقع حول ما قيل أو رُوي أنَّه منشأٌ لاحتباس الوحي عن النبيِّ الكريم (ص) قبل نزول سورة الضحى:
أما الرواية الأولى والتي ذكرت أنَّ منشأ الاحتباس هو أنَّ المسلمين لا يتنظَّفون، ولا يستاكون، ولا يُقلِّمون أظفارَهم، فلو صحَّ ذلك فإنَّ مقتضاه أنَّ الاحتباس لم يقع بعد نزول سورة العلق التي هي أولُ القرآن نزولاً، لأنَّه في هذا الظرف لم يكن ثمة مسلمون سوى عليٍّ (ع) والسيِّدة خديجة، وقد يكون معهما ثالث وهو زيد بن حارثة، وسياق الرواية يدلُّ على خلاف ذلك، فهي ظاهرة -لو صحَّت- أنَّ الاحتباس وقع بعد دخول عددٍ معتدٍّ به في الإسلام، على أنَّ الرواية بقطع النظر ضعفِها من جهة السند غير قابلةٍ للتصديق، فإنّه لو كان التنظُّف من عموم المسلمين شرطاً في عدم احتباس الوحي لاحتبس الوحيُ إلى الأبد لأنَّ تحقُّق هذا الشرط لا يتَّفق وقوعُه كما هو واضح خصوصاً في تلك الأزمنة، وفي ظرف السفر، والحال أنَّ الروايات متضافرة بل متواترة في أنَّ الوحي كان ينزلُ على الرسول (ص) في السفر وفي الحروب والدماء وفي حال أداءِ مناسك العمرة والحجِّ والتي يكونُ فيها الحاجُّ والمعتمر أشعث أغبر.
ولو كان يكفي تنظُّف المحيطين بالرسول (ص) فما أيسرَ مخاطبتهم بذلك والتزامهم بالأمر، ثم إنَّ المسلمين لا يكونون في محضرِ الرسول (ص) طوال يومِه وليلتِه، فإذا كان عدم تنظُّف المسلمين مُوجباً لاحتباس الوحي ومانعاً لهبوط الملَك فإنَّ هذا المانع ينتفي حين يكون الرسول (ص) في خلواتِه. وعليه فمثلُ هذه الروايات لا يُمكن الوثوق بصدورها بهذا السياق، نعم وردت رواياتٌ عديدة عن أهل البيت (ع) تحثُّ على التنظُّف واشتمل بعضُها على أنَّ عدم التنظُّف يكون سبباً في امتناع هبوط الملائكة أو سبباً لاحتباس الوحي.(1) لكنَّ ذلك لا ربط له بالاحتباس المزعوم الذي كان منشأً لنزول سورة الضحى. وإنَّما هو احتباس حال كون النبيِّ (ص) في محضر جماعة من المسلمين لا يقلِّمون أظفارهم ولا ينقُّون رواجبهم -أي أصول أو رؤوس أصابع أقدامِهم- من الأوساخ.
ويُؤيِّد ذلك ما رُوي عن ابن عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قيل له: يا رسول الله لقد أبطأ عنك جبريل عليه السلام فقال: "ولِمَ لا يُبطئ عني وأنتم حولي لا تستنُّون، ولا تُقلِّمون أظفارَكم، ولا تقصُّون شواربَكم، ولا تُنقُّون رواجبَكم"(2).
وأمَّا الرواية الثانية والتي ذكرتْ أنَّ منشأ احتباس الوحي عن النبيِّ (ص) هو دخول جروٍ إلى بيته وموتِه تحتَ سريره، فمضافاً إلى وهن سندها فهي موهونة المتن، إذ كيف يُمكن القبول بدعوى موتِ جروٍ في بيتٍ مسقوف أياماً في أجواءِ الحجاز ثم لا يشعرُ بموتِه أحد!! والحال أنَّه بعد يومٍ أو ثلاثة أيام على أبعد التقادير يُصبح جيفةً منتِنة تتجاوزُ رائحتُها المزعجة الموضع الذي هي فيه بمسافةٍ واسعة، فكيف لم يشعرْ به أحد أربعة أيام أو اثني عشر يوماً أو تسعة عشر يوماً أو أربعين يوماً حسب اختلاف الأقوال في مدَّة احتباس الوحي.
ولو قيل إنَّ الجرو لم يمكثْ بعد موتِه أكثر من يومٍ أو يومين لذلك لم يشعرْ بموته أهلُ الدار قلنا: إنَّ مقتضى ذلك أنَّ احتباس الوحي لم يدم طويلاً، فلم يتعدَّ الأيام، وهذا المقدار متحقِّقٌ في كلِّ نزولٍ والنزول الذي بعده، فنزولُ القرآن لا يتمُّ في كلِّ يوم أو في كل عشرة أيام، فقد تطول مدَّةُ ما بين النزولين وقد تقصر كما بيَّنا ذلك، فلو عُدَّ ذلك من الاحتباس لكان ذلك مطَّرداً في تمام ما يزيد على العشرين سنة التي كان يهبطُ فيها الوحي على الرسول الكريم (ص).
وأمَّا الرواية الثالثة والتي ذكرت أنَّ منشأ الاحتباس هو أنَّ مشركي قريش سألوه بإيعازٍ من اليهود عن قصَّة أصحاب الكهف، وعن قصَّة ذي القرنين وعن الروح فقال: سأخبرُكم غدا. ولم يقل إنْ شاء الله، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام، فاغتمَّ لشماتة الأعداء فنزلت السورة تسليةً لقلبِه.
والجواب إنَّه بناء على هذه الرواية لا يكون احتباس الوحي قد وقع بعد نزول سورة العلق كما زعموا فإنَّ سورة العلق هي أول القرآن نزولاً ولم يتم الجهر بالدعوة بعد نزولها إلا بعد زمنٍ طويل، وهذه الرواية تتحدَّث عن الأجواء التي سبقت سورة الكهف والتي كان نزولها في حدود السنة السابعة من المَبعث النبويِّ الشريف حين أوفدتْ قريش جماعةً يستفتون يهود المدينة في شأنِ النبيِّ (ص) فقالوا لهم: اسألوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح فجاؤوا بهذه الأسئلة يتحدَّون بها النبيَّ الكريم (ص) فنزلت حينها سورة الكهف والتي كان نزولُها بعد نزول ثمانية وستين أو أربعة وستين سورة قبلها(3).
ثم إنَّه لو سلَّمنا أنَّ الوحي قد احتبس عن النبيِّ الكريم (ص) أياماً قبل نزول سورة الكهف فإنَّه ليس في الرواية دلالة بل ولا إشعار بأنَّ النبيَّ (ص) قد انتابَه شكٌّ في نبوَّتِه لاحتباس الوحي عنه، فغايةُ ما اشتملت عليه الرواية أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اغتمَّ لتأخُّر نزول الأجوبة عن أسئلة اليهود التي حملَها المشركون إليه، وقد نصَّت الرواية على منشأ الغمِّ الذي أصابَه، فأفادت أنَّه "اغتمَّ لشماتة الأعداء" فأينَ ذلك من دعوى أنَّه شكَّ في نبوته؟!
هذا وقد ورد في طرقنا أنَّ الوحي قد احتبس عن النبيِّ (ص) بعد تلقِّيه لمسائل قريش وقبل نزول سورة الكهف "حتى اغتمَّ وشكَّ أصحابُه"(4) فهو قد اغتمَّ -كما هو الواضح من الرواية- خشية افتتان أصحابِه، وليس كما زعموا أنَّه شكَّ في نبوَّته أو خشيَ أنَّ الله قد قلاه أو أنَّ هذا الاحتباس متَّصل بنزول سورة الضحى.
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه هو أنَّ الوحي بالقرآن لم يحتبس عن النبيِّ الكريم (ص) منذُ بدأ بالنزول إلى أنْ تمَّ قُبيل رحيله إلى ربِّه جلَّ وعلا، وأمَّا ما يتخلَّل من وقتٍ بين النزول والنزول الآخر فذلك لأنَّ المشيئة الإلهيَّة قد اقتضت الإنزال لآيات القرآن وسُّوره على مُكثٍ -كما نصَّ على ذلك القرآن- تثبيتاً لفؤاد الرسول (ص) وإرفاقاً به ليُتاح له تبليغ الآيات وتحفيظها والبيان لمقاصدِها. أو لأغراضٍ أخرى تقتضيها العناية الإلهيَّة في كلِّ مورد أو تقتضيها حكمةُ التدرُّج في التشريع وبيان المعارف الدينيَّة.
وأمَّا تصدِّي الآية من سورة الضحى لنفي أنَّ الله تعالى قد ودَّع نبيَّه (ص) وقلاه فلأنَّ المشركين قد زعموا -مناكفةً للنبيِّ (ص)- أنَّ ربَّه قد قلاه لذلك نزلت الآية لتسليته والانتصار له تماماً كما انتصر له القرآنُ حينما نسبوه للضلال والغواية فقال تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾(5) وانتصر له حينما زعموا أنَّه شاعرٌ فقال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ﴾(6) وانتصر له حين نسبوه إلى الكهانة ووصفوه بالجنون فقال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾(7) وقال تعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ / وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ / وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(8) وهكذا كان القرآن يتصدَّى للانتصار للنبيِّ الكريم (ص) في مقابل تعدِّيات المشركين ولنفي سُبابِهم، فكان من ذلك تصدِّيه في سورة الضحى لنفي ما زعموه من أنَّ ربَّه جلَّ وعلا قد هجرَه وقلاه، فلا صلة للسورة بما توهَّمه الواهمون من دعوى احتباس الوحي وخشية النبيِّ (ص) أنَّ الله قد قَلاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- منها رواه الكليني بسنده ابْنِ الْقَدَّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: احْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنِ النَّبِيِّ (ص) فَقِيلَ لَه: احْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْكَ فَقَالَ (ص): وكَيْفَ لَا يَحْتَبِسُ وأَنْتُمْ لَا تُقَلِّمُونَ أَظْفَارَكُمْ ولَا تُنَقُّونَ رَوَاجِبَكُمْ" الكافي -الكليني- ج6 / ص492. فمثل هذا الاحتباس يستهدف التأديب للمسلمين وترويضهم على النظافة كما يظهر من لحن الرواية.
2- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج1 / ص243.
3- تفسير محمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص210-211، الاتقان في علوم القرآن -السيوطي- ص39.
4- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص32.
5- سورة النجم / 2.
6- سور يس / 69.
7- سورة الطور / 29.
8- سورة القلم / 2-4.
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
حيدر حب الله
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسين الخشن
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي آل محسن
الشيخ مرتضى الباشا
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
العبادة والتّعلّم
آداب التّكسّب
طرق إثبات النبوة الخاصة
المخاطر الحقيقية للاعتقاد بعلاجات غير معتمدة طبيًّا
الرّكب الحسينيّ في المدينة المنوّرة (1)
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (4)
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ودعوى احتباس الوحي (2)
لمن يكتب الفيلسوف؟
عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ودعوى احتباس الوحي (1)