الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
يقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ (البقرة: 220).
في القرآن الكريم تعابير جامعة وكاملة، لذا فإنَّه في التعامل مع الأيتام يستخدم كلمة الإصلاح الذي يشمل الإصلاح الجسمي والروحي والعاطفي والاقتصادي وأمثال ذلك. نعم إنَّ هذه اللفظة تشير إلى ضرورة مساعدة الأيتام والاهتمام بهم في كافَّة جوانب حياتهم.
يقول تعالى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ (البقرة: 220)، حيث يشير الله عزّ وجلّ في هذا القسم من الآية إلى السماح بالاختلاط والتعامل والتفاعل مع حياة الأيتام، وأمر بالتعامل معهم كالإخوان.
ويقول تعالى: وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ (البقرة: 220). في النهاية فإنَّ الله عزّ وجلّ بعلمه اللامحدود يعرف نيّات الناس وأغراضهم ومقاصدهم، ممن كان هدفه إصلاح عمل الأيتام ومن يستغلّ الأيتام في هذا المجال.
ويضيف تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ (البقرة: 220) ويأمر الله تعالى، بأنّه في الوقت عينه الذي تقومون فيه بالإشراف على الأيتام وإدارة حياتهم وأموالهم يجب أن تقوموا بفصل حياتهم وأموالهم بشكل عام عن أموالكم وحياتكم ومعيشتكم وضمن إطار محسوب ومحدد.
* الأيتام في القرآن الكريم:
لقد أولى القرآن الكريم أهميَّة خاصَّة واستثنائية للأيتام حيث تحدَّث عنهم في هذا المجال بأكثر من عشرين آية نشير إلى نماذج منها:
1- الدقَّة والاحتياط في التعامل مع أموال الأيتام:
لقد أوصى الله تعالى في الآية الشريفة (152) من سورة الأنعام بأموال اليتامى، لأنَّها عرضة للخطر أكثر من أي شيء آخر؛ لأنَّهم لا يستطيعون الدِّفاع عنها فيقول تعالى: وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (الإسراء: 34). وإنَّ جملة (إلا بالتي هي أحسن) إشارة إلى أنَّه إذا كان هناك طريقان لحفظ مال اليتيم فيجب أن تختاروا الطريق الأفضل والأصلح والأحسن.
2- أكل النار:
في الآية (10) من سورة النساء تمَّ توصيف حقيقة أكل مال اليتيم بهذا الشكل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا.
لو كُشف الغطاء لمن يأكل مال اليتيم ظلماً ورأى حقيقة ذلك المال الذي أكله، لبان له أنَّه لا يأكل سوى النار. فهل هناك إنسان عاقل مستعد ليضع في فمه شعلة من النار ويأكلها؟
3- إكرام الأيتام:
أشار الله عزّ وجلّ في الآيتين (17) و (18) من سورة الفجر إلى الجوانب العاطفية والمعنويَّة في التعامل مع الأيتام حيث يقول: كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.
إنَّ اليتيم الذي فقد أباه، وحُرِم من عطفه، وذرفت أمُّه الدموع على فقدانه، وسُلِب نعمة محبَّته، بحاجة أكثر إلى العطف والمحبة والحنان.
4- إيَّاكم وقهر اليتيم:
إنَّ الآيات من السادسة حتَّى التاسعة من سورة الضحى تشير إلى الجوانب العاطفيّة، وكيفيّة التعامل مع الأيتام، حيث يشير الله عزّ وجل في بداية هذه الآيات إلى مرحلة يُتم رسول الله (ص) مذكِّره بألطافه عليه، ثمَّ يحذِّر المسلمين من تحقير الأيتام، ويقول تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، ولذا فلا يحق لأحد أن يقهر اليتامى.
5- سوء السلوك مع الأيتام مترادف مع الكفر بالله:
في الآيتين الأولى والثانية من سورة الماعون توجد تعابير مهولة حول سوء السلوك مع الأيتام فيقول تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. بناء على هاتين الآيتين فإن العنف وسوء السلوك مع الأيتام يعتبر في مصافِّ الكفر بالله عزّ وجل.
6- جعلُ قسم من الخمس وحصّة منه من نصيب الأيتام:
في الآية الشريفة (41) من سورة الأنفال تمّ التعريف بمصدر مالي واقتصادي لهؤلاء الأيتام أيضاً، حتى يستطيع الأيتام الفاقدون للدخل والفقراء أن يديروا حياتهم بالاستفادة من سهم من الخمس، فيقول تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
نعم، إنّ قسماً من الخمس من نصيب الأيتام المحتاجين حيث يجوز صرفه في هذه الحالة مع إجازة مرجع التقليد.
* فلسفة إكرام اليتيم:
لم يوصَ بالأيتام إلى هذا القدر وإلى هذا الحد من الإصرار في أيٍّ من الدول والأديان والمذاهب المختلفة في عالم اليوم، لذا نعتقد أنَّ قوانين الإسلام من المعجزات.
وقد نزلت الآيات القرآنية في مرحلة كانت فيها رسوبات الأفكار الجاهليَّة موجودة في أذهان العديد من الناس، إذ كان سفك الدماء والقتل والنهب وأكل أموال الأيتام من الأمور العادية عندهم، بل إنَّها كانت من الأمور القيّمة أحياناً.
وعلى أيِّ حال فإنَّ فلسفة جميع هذه الوصايا وتكرارها في أمرين:
أ- المسائل الإنسانيَّة:
حيث يوجد في كلِّ مجتمع أيتام يحتاجون إلى دعم الآخرين. وإنَّ مثل هذا الحرمان وفقدان الأب ليس حكراً على بعضٍ دون الآخر، فقد يمكن أن يواجهه أطفال آخرون، فلا يعلم الإنسان ماذا يحل به في المستقبل، لربَّما تعرّض أطفاله لليتم غداً، لذا كما يحب الإنسان أن يتم تعامل الناس مع أيتامه بشكل جيد ولائق يجب أن يتعامل مع أيتام الآخرين «وهل الدين إلا الحبّ» (1) كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام).
وعلى هذا الأساس فإنّ الإسلام يوصي بوضع اليتيم وإجلاسه على ركبتك ومسح رأسه بيد العطف والرحمة، إذ إنّ ذلك يؤدي إلى إضافة حسنات في سجل أعمال من يقوم بذلك على قدر كل شعرة يتيم مرّر يده عليه (2).
ب- المشكلات الاجتماعيَّة:
إذا لم يتم الاهتمام بالأيتام فإنَّ المجتمع سوف يتعرَّض للعديد من المشاكل، فإذا ترك الأولاد الأيتام بدون إشراف أو إدارة أو اهتمام في المجتمع، وحرموا من العاطفة والمحبة والدعم المالي من قبل الناس، فإنَّهم يتحوَّلون إلى موجودات معقَّدة وخطيرة، وبالتالي فإنَّهم يتحوَّلون إلى عوامل لتهريب المخدرات والقتل والسلب، وخلق الشرور والسرقة ومضايقة أعراض الناس والمشكلات الأخرى؛ لأنّهم لم يلقوا من الآخرين محبة أو عاطفة فيكونوا بصدد الانتقام من المجتمع.
* ملاحظة:
فلنتوجَّه إلى أيتام أقاربنا وأهلنا، فإن لم يوجدوا فلنبحث عن الأيتام من بين أصدقائنا وجيراننا وزملائنا حتَّى نتكفَّلهم ونتحمَّل مسؤوليَّة الإشراف عليهم، فإن لم نجد هؤلاء عندهم نتوجَّه إلى المياتم ونتكفل بعضاً من هؤلاء الأيتام كي يكون لنا ذلك زاداً للآخرة.
زيادة الجرائم:
من المشكلات التي يواجهها عالم اليوم زيادة نسبة الجرائم والجنايات.
في نظرنا فإنَّ أحد أهم أسباب هذا الأمر يكمن في ذهاب العواطف الإنسانية؛ لأنَّ عالمنا المادي اليوم، للأسف الشديد، هو عالم موت العواطف الإنسانيَّة.
إنّ ما يهم العالم الماديَّ هو كسب أكبر قدر من الدولارات والمناصب العالية، بأية وسيلة.
في العالم الماديِّ اليوم نلاحظ أنَّه عندما يكبر الأولاد فإنَّ آباءهم يتخلَّون عنهم ولا يحسون بأيَّة مسؤوليّة تجاههم، وعندما يشيخ الآباء يقوم أولادهم بإرسالهم إلى دور العجزة، ولا يطمئنون على أحوالهم عاماً بعد عام أبداً.
إنّ هذه الثمار المرّة محصلة عالم اليوم الذي ماتت فيه العواطف الإنسانيَّة، والذي تدور عواطفه على محور الدولار والقتل والنهب والمواد المخدرة والإرهاب وانعدام العاطفة والحنان!
* منشأ العواطف:
إنَّ منشأ العواطف الإنسانية هو الإيمان بالله والأصول الدينية، وعندما يقول الإسلام: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة (الحجرات: 10) فإنَّ هذه الجملة تبعث تأجج العواطف الإنسانية. وعندما يخاطب القرآن الكريم الأولاد ويقول فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍ (الإسراء: 23) فإن هذه التوجيهات تؤدي إلى تفجر العواطف الإنسانية.
وتوصيات الإسلام حول الأيتام والأفراد الذين فقدوا معيلهم في المجتمع لا تؤدي إلى رفع الحاجات الجسمية والروحية لليتيم فحسب، بل إنها تزيد أيضاً وتنمي العواطف الإنسانية النبيلة في هؤلاء الذين يقدمون المساعدة والدعم للأيتام. وقد أتى شخص إلى رسول الله (ص) وشكا إليه قسوة قلبه وعدم ذرفه للدموع وقساوة القلب، فقال له رسول الله (ص): إذا أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم (3).
وإنّ الطفل الذي نما وترعرع في ظلِّ العاطفة والمحبة، من المستحيل أن يتحوّل إلى شخص يضع القنابل في سيارة لتنفجر في أسواق المسلمين لتقتل المئات من الأبرياء وغيرهم. وإن من يقوم بمثل هذه الجرائم ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب والمرضى وغيرهم، لم يذق طعم العاطفة ولم يرَ لونها أو يشم رائحتها، لذا فإنَّ الإسلام يدعو إلى مجتمع مملوء بالعواطف الإنسانيَّة!
* توصيات المعصومين (عليهم السلام) حول الأيتام:
إنّ الروايات الإسلامية مملوءة بالتوصيات المختلفة بالأيتام والأطفال الذين فقدوا معيلهم، ونشير إلى نماذج من ذلك فيما يلي:
1- يقول رسول الله (ص): «من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى» (4).
ليس كل أهل الجنة يحظون بسعادة مجاورة رسول الله (ص)، ولكن متكفّلي وكافلي الأيتام يحظون بدرجة عالية من الاحترام والقرب في الجنة، حيث إنهم يكونون مجاورين لرسول الله (ص). وأية درجة أعظم من هذه الدرجة؟
2- إنّ الإمام علياً (عليه السلام) وهو في تلك الحالة التي تعرّض فيها رأسه المبارك لضربة السيف المسموم على يد أشقى الأولين والآخرين وهو على فراش الشهادة، يوصي بوصايا يبدؤها بعبارة: (الله الله) وأول وصيته كانت حول الأيتام ثم حول الجيران ثم القرآن ثم الصلاة ثم الكعبة ثم الجهاد. وفي وصيته للأيتام يقول: «الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيّعوا بحضرتكم» (5).
3- في الرواية المنقولة عن رسول الله (ص) يقول: «إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلّا من فرّح يتامى المؤمنين» (6).
الهوامش:
(1) الخصال، الشيخ الصدوق، ص 21.
(2) سفينة البحار، ج 8، ص 741، يتم.
(3) ميزان الحكمة، ج 8، ص 3467، باب 3409، ح 17043، شبيه هذه الرواية في بحار الأنوار، ج 75، ص 5.
(4) سفينة البحار، ج 8، ص 740.
(5) نهج البلاغة، الكتاب 47.
(6) ميزان الحكمة، ج 11، باب 4237، الحديث 22883.
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا
الصابئة، بحث تاريخي عقائدي
الاستقامة والارتقاء الروحي
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*