(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ). من الواضح أن لغة القرآن هي اللغة العربية وأنه قد وصفَ نفسه بأنه عربي في مواضع متعددةٍ بلغت أحد عشر موضعًا، منها (قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، و(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) وأمثال ذلك.
هنا تأتي أسئلةٌ متعددة، منها: هل أن هذا يشير إلى فضيلة للعرب لأن القرآن الكريم قد نزل بِلُغَتهم؟ الجواب أنه ليس بالضرورة ذلك، وإنما كان في بعض فترات التاريخ الإسلامي تحزّبات ناشئة على أساس قومي، فأصبحت جماعة من ذوي النزعة القومية العربية يرون العربي أفضل من غيره، لا لشيءٍ إلا لأنه عربي.
ونَمَتَ هذه النزعة في زمان الأمويين، وبالذات في زمان عبد الملك وصاعدًا ، لا سيما مع بعض الولاة مثل الحجاج الثقفي، وخالد بن عبدالله القسري وأمثالهم ممن كانوا يُعادون الموالي ويُهِينُونَهم ويذلونهم لا لشيءٍ الا لأنهم ليسوا من العرب، فهم في نظرهم في مرتبةٍ أدنى وأقل. حتى وإن كان هؤلاء الموالي أعلى منهم في العلم والتقوى.
وكانت هناك ممارسات سُلطوية تُؤيدُ هذا الاتجاه، ونَشأت في مقابل هذا نَزعةٌ مقابلة اصطُلِح عليها باسم الشعوبية، وهي عند غير العرب، تقول إن العرب أمة متخلفة وبقيةُ الأمم كالفُرس والتُرك والديلم أشرف منهم وأفضل، ولهم ميزاتٌ عقلية خاصة، ويَصِفُون العرب بأنهم أهلُ البوادي والجهل، وظل هذان التوجهان يصطرعان.
كِلا التوجهين خطأ، والميزان الإسلامي يقول (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). فأنتَ لم تَختر أن تكون عربيًّا، وُلدت من أبوين عربيين ولا تستطيع تغييره، وذاكَ وُلد من أبويين فارسيين أو تركيين.
والشيء الذي لا يكون باختيار الإنسان فإنه لا يستطيع أن يتفاخر به على غيره. ولكن هذا الأمر كان موجودًا في تلك الفترة، لذلك قسمٌ من الذين كانوا يُريدون تفضيلَ العُنصر العربي على غيره كانوا يقولون إنه من آيات فضلنا أن القرآن الكريم نزل بِلُغتنا، والطرف الآخر كانوا يردون عليهم بالقول إن العرب كانوا في أسوء حالات البشر لذلك جاء القرآن بلغتهم حتى يُعالِجهم.
قد يأخذُ البحث حول قضية العربية في القرآن الكريم هذا المنحى، وهو منحى خاطئ، وقد يكون سؤالاً كما في بعض حال الأسئلة التي تأتي بأنه لماذا تم اختيار اللغة العربية للقرآن الكريم بالرغم من أن اللغات التي عُرفت للبشر يبلغ عددها أكثر من ٣٠٠٠ لغة، وأن من هذه اللغات المتعددة هناك ما يُقارب الـ ١٠٠ لغة قد تحدث بها مئات الأُلوف، فلماذا جُعِل القرآن عربيا؟
هل هو معجز لغير العرب؟
ويُطرح سؤالٌ آخر أنه بالنسبة للعربي القرآن الكريم مُعجِزٌ لأن لغته عربية، ولكن لغير العربي لا معنى لأن يكون القرآن مُعجِزًا، فإذن الإعجاز باللغة العربية هو للعرب وأما للمتحدثين بغير العربية فلا يُعدُ إعجازًا!
هذانِ سؤالانِ مهمان ينبغي أن نُجيب عليهما، وأرى أنهُ من الضروري تقديمُ مقدمةٍ حول نشأةِ اللغات عند البشر، كيف أصبحت اللغات موجودة عند البشر؟ ثم نشير إلى ميزات اللغة العربية ومن خلالها سيتم الإجابة عن السؤال المتقدم.
اتجاهات نشأة اللغة:
هناك نظريات متعددة في هذا الجانب، وحتى لا نَتَطَرَقَ إلى التفاصيل، فإن هذه النظريات تنتهي إلى اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول يقول إن نشوء اللغات عند البشر هو نشوءٌ ديني من الله عز وجل، أي أن الله سبحانه عندما خلق هذا الإنسان زودهُ بآلات ووسائل للتواصل اللغوي مع بني جنسه. فأعطاه السمع والبصر ولسانٌ وقدرةٌ على البيان، وأعطاهُ أيضًا العقل لِيَعقِل به الأشياء ويحفظ به الأمور ويستنتجها، هذه الأمور هي بمثابة أدوات وآلات للتواصل اللغوي، بعدها عندما أرسل الأنبياء فإنه كما أعطى الأنبياء برنامجًا للحياة السعيدة في هذا الدنيا والذي يُوصلهم إلى رضوان الله في الآخرة، فهو أيضًا أعطى للبشر طريقةً للتخاطب، وهي اللغة. فعَلّم الأنبياء اللغة وهم بدورهم علموا أقوامهم. ثم تطورت وتكاملت بصورة اجتماعية.
وممن التزم بها ابن فارس صاحب (معجم مقاييس اللغة) والمحقق النائيني، وبعض المفسرين كالقرطبي حين شرح (وعلم آدم الأسماء) ورأى أن أول من تكلم بالعربية آدم.. وذلك أن الله خلق الخلائق متواصلة، ليس بين البشر وحدهم بل بين البشر وسائر المخلوقات (علمنا منطق الطير) وفي البشر كان من أهم صفاتهم (علمه البيان) واستخدم القلم للتعليم (علم بالقلم).. وفي بداية الخلق (علم آدم الأسماء كلّها) وبعدما جهز الإنسان بوسائل النطق والتعليم والبيان، وألهم الأنبياء أصول الكلمات واللغة، انتشرت وتفرعت[1].
وبإمكان القائلين بها أن يستفيدُوا مثلًا في اليهودية من بعض العبارات التي تقص قِصة آدم، وهي موجودة لدينا أيضًا في القرآن الكريم (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) موجودٌ في التوراة ما يُشبه هذه الآية تقول "الـمُعلم للأسماء هو الله سبحانه وتعالى"، وبداية معرفةِ الأسماء هي بداية اللغة.
لو كان لكَ طفلٌ حديث الولادة، عند بداية نطقه تُعلمه الأسماء، فتقولُ لهُ مثلا “بابا” فيحفظها، “ماما”، “باب”، “كأس” فيحفظها وهكذا، فهو تدريجيًّا يلتَقِط هذه الأسماء ويبدأ باستخدامها ويتعلمُ اللغة ثم يتعلم بالتدريج وصف الأفعال وبعدها الروابط بين الجمل. نفس هذا الكلام ينطبق على ذلك الزمان، فالله سبحانه علّم آدم الأسماء، وآدم علّم البشر وانتشرت اللغة من خلال ذلك.
هذا طبعًا بناءً على تفسير (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين) بقضية اللغة والكلمات والألفاظ، وإلا فإن هناكَ تفاسير أُخرى[2] وتأويلات لهذه الآية، منها مثلاً ما يرتبط بالعقائد كما لدينا في الإمامية أن تفسيرَ هذه الآية هو أن الله علّم آدم أسماء آل محمد (ص). ولذلك بعض مُفسري الإمامية يقول أن الله لم يَقُل “ثم عرضها” وإنما قال عز وجل “ثم عرضهم” وكأنما هناك أشخاصٌ أو ذوات.
بناءً على التفسير الآخر أن الأسماء تعني الأشخاص، الكلمات، الألفاظ، الإشارات وهي بداية اللغة، ثم بدأت هذه اللغة تتوسع، هذا المنشأ الأول الذي يتحدث عن نشأة اللغة والذي يشير إلى أنهُ منشأ ديني.
الاتجاه الثاني هو الاتجاه الاجتماعي في تفسير نشأةِ اللغة. وهو يقول بأن القضية لا ترتبطُ بالضرورة بأمر ديني ووحي إلهي، وإنما هو تعبير عن حاجة اجتماعية. فإن الله سبحانه بعدما زوّد الإنسان بهذه الأدوات من سمعٍ وبصرٍ وعقلٍ ولسانٍ وقدرةٍ بيانية، اكتشف البشر أنه بحاجةٍ إلى التواصل والتفاهم، فبدأ يبتكر اللغة. بدايةً بَدَأَ بالإشارة، والإشارة تحولت إلى عبارة، والعبارة تحولت إلى لغة.
ويمثلون لذلك بما هو حاصل في المجتمع ، فلو التقيتَ مع شخصٍ لا تعرفُ لُغته، كيف تتواصل معه؟ بدايةً تبدأ بالإشارات، ثم ربما تُشيرُ إلى نفسِك وتُخبرهُ باسمك، وهو يقومُ بالفعلِ نفسه، بعدها تدريجيًّا هذه الإشارات تتحول إلى عبارات وألفاظ، وفي النهاية تبتكرون لغةً تتفاهمون بها، كذلك البشر في أول أمره كان بهذه الصورة.
هناك أشخاص من المتقدمين والمبتكرين عُرِفوا بابتكار الألفاظ، في اللغة العربية مثلاً يعرب ابن قحطان كان ممن لهُ قدرةٌ استثنائية، فبدأ يضعُ الألفاظ إلى المعاني، ومِثلُهُ تجد في اللغات الأخرى كالإنجليزية والعبرانية وهكذا.
فإذن القضيةُ مرتبطة بحاجةٍ اجتماعية، وقد يَستَشهِدُ بعضهم على ذلك بأن الإنسان لم يبتكر لُغةً بينه وبينه الإنسان الآخر وحسب، وإنما ابتكر لُغةً بينهُ وبين الآلة أيضًا. الحاسب الآلي الآن لهُ لغة معينة تُحول هذه الألة من صامتة إلى ناطقة ومستجيبة لك، لو أزلتَ هذه اللغة من الحاسوب لرجعَ لوضعه الطبيعي وإلى صمته.
الروبوت له لغة معينة ورموزٌ خاصّة لو استخدمتها لتَفَاعلُ معك، ولو أزلت هذه اللغة التي كَوّنَها البشر لعادَ الروبوت قطعةً من حديد. وعليه فإن الانسان الذي يستطيع أن يبتكر لغة تواصل مع الآلات من السهل عليه أن يبتكر لغةً وطريقة تواصل مع بني جنسه.
وهذه النظرية هي الأكثر قبولًا في هذه الأزمنة، ولذلك ـ ربما ـ كان العلماء البحوث الأصولية العالية وعند تعرضهم إلى مبحث الوضع، وضع الألفاظ للمعاني. يبحثون في كيفية دلالة هذا اللفظ على المعنى المحدد، وعن الارتباط بينهما؛ هل هو ارتباطٌ حقيقي كما نسب إلى بعض عُلماءِ اللُغةِ القُدامى مثل ابن جني الموصلي[3]. الذي قيل إنه يعتقد وجود ارتباط حقيقي بين الكلمة والمعنى.
أو أنه لا يوجد ارتباط حقيقي بينهما وإنما هو عبارة عن صلة عقدها الواضع (شخصًا كان أو مجتمعًا) بين الكلمة والمعنى، و (قرن) بينهما أو (تعهد) بأن يستعمل هذا اللفظ في ذلك المعنى وأن يشير لذلك المعنى بهذا اللفظ، أو أنه صنع (ملازمة بينهما).
اللغة العربية نشأتها وميزاتها:
اللغة العربية هي واحدة من اللغات القديمة التي انتشرت في الجزيرةِ العربية، بالذات بعد نبي الله إسماعيل على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام.
إسماعيل جدُ النبي (ص) أُصوله عبرانية، فهو في الأصل يتكلمُ العبرانيةَ أو السيريانية، لكنهُ جاء إلى المنطقة العربية في مكة المكرمة، وقد كان أهلُها يتحدثُون العربية، ففُتِقَ لسانُهُ بالعربية.
هذه المنطقة تطورت فيها اللغة العربية، استوطنها الناس خاصةً بعد وجود البيت الحرام فيها مع أن الوادي كان غير ذي زرع، هذا الاستقرار يُنتجُ العلم والثقافة والحضارة ويُطَوِرُ اللغة، وهذا ما حصل. وما جاء زمن بعثة النبي (ص) إلا واللغة العربية وصلت إلى درجات مُتقدمةٍ من السعةِ والإتقان، فنزل القرآن الكريم في هذه المنطقة باللسان العربي.
إضافةً إلى ذلك، الميزات الموجودة في اللغة العربية ليست موجودةً في سائِر اللغات، فهي لغةٌ أغنى، وأثرى، وأوسع. لنأخذ بعض الأمثلة التي توضح بعض ميزات اللغة العربية:
أولاً اللغة العربية تعتمد على الاشتقاق من اللفظ الجذري، لو لاحظت قواميس اللغة العربية تجد أنها تذكرُ الكلمة الأولى التي تتكون من ثلاثة حروف، مثلا “ضَرَبَ” معناها أصلٌ يدل على احتكاك شيءٍ بشيء، ثم تبدأ بذكر كل اشتقاقاتها.
الاعتماد على الجذر اللفظي ولا سيما اذا كان قليل الحروف يُعطي اللُغوي مساحة كبيرة للاشتقاق، ولذلك ذكروا أن اللغة العربية فيها ١٦ ألف جذر، وهذا عددٌ كبيرٌ جدًّا، لنفترض أن كل جذرٍ يُشتقُ منه مئات الكلمات، وهذا ما هو موجودٌ بالفعل، فإن أعدادَ الكلمات ستكُون هائلة. لذلك أشار العلامة الدكتور جواد علي إلى أن الألفاظ والكلمات الموجودة في اللغة العربية تصلُ إلى ١٢ مليون كلمة عربية [4].
لنقارن هذا العدد بلغةٍ أخرى، فأشهرُ لغة الآن هي اللغة الأنجليزية، بعضُ الدراسات تذكر أن جميع كلمات اللغة الإنجليزية عددها فقط ٦٠٠ ألف كلمة. لو قارنا هذا العدد بذاك الموجود في اللغة العربية لوجدنا أن كلمات اللغة العربية تصل إلى ٢٠ ضعف من اللغة الإنجليزية، والتي تُعد الآن سيدة اللغات في العالم.
سعةُ اللغة، كثرةُ الكلمات فيها وكثرةُ العبارات تجعلُ الـمُتكلم قادرًا على الحركة في مساحةٍ واسعةٍ جدًّا، لو أراد أن يُعبر عن أدقِ الأفكار فإنه لا يتحير في الكلمة. مثلاً لو كان لديك شارع عرضه نصف متر وشارع آخر عرضه ١٠ أمتار، ولديك أيضا سيارة من آخر طراز، في الشارع الأوسع تستطيع الاستفادة من هذه السيارة بصورةٍ أفضل من الشارع الضيق، لأنه في هذا الشارع الضيق لربما هذه السيارة لا تستطيع أن تتحرك فيه وإن كانت من أفضلِ السيارات.
ومثلُ ذلك اللغة، اللغة التي تحتوي على كلماتٍ كثيرة، وألفاظٍ متنوعة، ومساحتُها واسعة فإنها تسمحُ للمتكلم والكاتب بحريةٍ ومساحةٍ كبيرة في الكتابة والتحدث. وهذا ما سنتطرقُ إليه فيما بعد لنقول أن المعاني القرآنية العالية الـمُنَزّلة من السماء تحتاج إلى لغةٍ بحجمها، لغةً غنيةً، قويةً ثريةً، أما اللغات ضعيفة التركيب وقليلة الألفاظ فلن تستوعب هذه المعاني الكثيرة.
ثانيًا اللغةُ العربية تستفيد من الهيئات. عندنا الكلمات مثل كلمة “ضَرَبَ” هذه كلمةٌ فيها مادة، مادتها (ض ر ب)، وفيها أيضًا هيئة والتي تعني الصيغة الخاصّة بها، مثل “ضرب” تختلف عن “ضارِب” و" مضروب " و" ضراب " و "يضرِب”. الحروف هي نفسُها ولكن الصِيغ متعددة.
الهيئات في اللغة العربية لها معان، وهذا أيضًا يُعطي سعةً كبيرةً للغة، لو نظرنا مثلا لكلمة “كَتَبَ” فمرّةً تُصبح “كَاتِب” ومرّةً “كِتَاب” ومرة “كتًّاب” بمعنى كثير الكتابة، أيضًا تارةً تُبنى للمعلوم " كتب " وتارةً تبنى للمجهول “كُتِبَ” وهكذا. وكُل واحدةٍ من هذهِ الهيئات تَفتحُ بابًا واسعًا بحيث لا يحتاج الكاتب إلى شيء غير تغيير الهيئة.
لنضرب مثالين يُذكران في بقية اللغات للتوضيح. مثلاً كلمة “كَتَبَ” هي مبنيةٌ للمعلوم فتقول “كَتَبَ فلانٌ الكِتاب”. لو أردتَ بناءَها لللمجهول تقول “كُتِبَ الكتاب”. كُلُ ما تحتاج إلى فِعله هو ضَمُ الحرف الأول وكسرُ الحرف الثاني فتُصبح الكلمة مبنية للمجهول.
لو نظرنا في اللغة الإنجليزية، جملة المبنيِّ للمعلوم تكونُ هكذا
someone wrote the book
ولتحويلٍها للمجهول تُصبح هكذا
has written been the book
هنا اضطررنا لتغيير الفعل، ولإضافة كلمتين إضافيتين أيضًا حتى نُغير الفعل من مبنيٍّ للمعلوم لمبنيٍّ للمجهول. ولو نظرنا لنفس المثال في الفارسية مثلاً، ستصبِحُ جملة المبنيِّ للمعلوم “نوشته شد” احتجنا إلى صيغة “مكتوب” ونضيفُ لها كلمةَ “أصبح” فتُصبح “الكتاب كان مكتوبًا”. في اللغة العربية لا نحتاج لكل هذا، مثلا صيغةُ “فعّال” نستطيعُ قول “ضرّاب” “كتّاب” وهكذا، نفسُ حروفِ الكلماتِ الأصلية ولكن نُغير صيغتها فقط. وهذا ما يُميز اللغة العربية أن سعتها كبيرة، وتناولها سهل فلا تحتاج لاستعارة عبارات أو كلمات أخرى.
في القرآن الكريم لدينا كلمة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّه) لو نظرتَ لترجمتها في اللغة الإنجليزية تراها مكتوبةً في سطر كامل!!، ونفسُ الشيء أيضًا في اللغة الفارسية، وهذا يدُل على حيويةٍ وحركيةٍ وقدرةٍ في الاختصار في اللغة العربية، وهذا غيرُ موجودٍ في اللغات الأخرى.
والكلامُ نفسُهُ أيضًا ينطبق على الإعراب والحركات. لو أردنا معرفةَ الفاعلِ والمفعولِ به في سائِر اللغات فإننا نحتاجُ لشيءٍ إضافي يُعرفنا به، في الفارسية مثلاً يُضيفون حرفي الراء والألف نُضيفهما بعد الكلمة حتى تُصبح مفعولاً به، أو في لغات أخرى نضطرُ للالتزامِ بموقعِ الفاعلِ أو المفعولِ به في الجملة حتى يتم التعرف عليهم.
بينما في العربية لو غيرت موقع المفعول به أو الفاعل فلا يتغيرُ معنى الجملة، كُل ما تحتاجُه هو وضعُ الحركاتِ على الحروف، فالإعراب والحركات تكفيك من عناء الاستعانة بإضافات أخرى وبأنماط معينة، ويُعطيك مساحة في تغيير مواقع الكلمات في الجملة بِحُرِية.
وهناك الكثير من القضايا التي تتميز بها اللغة العربية من الاشتقاق، والحقيقة والمجاز، والنحت وما شابه ذلك، ولكننا لا نريد أن ندخل الآن في حديث لُغويٍ مفصّل، ما ذكرناه يكفي.
هذه الأسباب وأمثالُها تجعلُ اللغةَ العربية أقدرَ من غيرها من اللغات الأخرى في تحمُلِ المعاني القرآنية العالية، هناك معان دقيقة عالية تحتاج لعباراتٍ وألفاظٍ محددة تمامًا. اللغةُ الغنية، الواسعة، القادرة تُقدم لك ألفاظًا كثيرةً وعباراتٍ متعددة وأنت تُحركها مثل ما تُريد. أما اللغةُ الفقيرة في مفرداتها وجذورها يصعبُ عليها أن تتحمل المعاني العالية والمفاهيم الكبيرة، لذلك كانت اللغة العربية هي الأَوْلَى بِأن تكون وعاءً للقرآن الكريم (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ).
هل تعني وصف عربي الوضوح دون اللغة؟
نعم البعض هنا قال “عربي” ليس المقصود منها أن ألفاظَهُ عربية وإنما بمعنى فصيح وواضح، لأن مصدرَ هذهِ الكلمة “عربي” يدُل على فصاحة فتقول “فلان أَعرَبَ عما في نفسه” أي أنه أفصَحَ عما في نفسه، فالمعنى في الآية هو “قرآنٌ فصيح”، ولكن الجواب على ذلك هو كلا الأمرين، لغةٌ عربية وأيضًا لغةٌ عربيةٌ فصيحةٌ ميسرة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، وهذا هو جوابُ السؤال الأول الذي يستفسر عن سبب اختيار اللغة العربية للقرآن الكريم بالرغم من تعدد اللغات.
جوابُ السؤال الثاني المتعلق بأن الإعجاز في القرآن الكريم هو إعجازٌ في اللغةِ العربية، أما الفرس والإنجليز فهو ليس إعجازًا لهم. لأن القضية سالبة بانتفاء موضوعها..
الجواب أنهُ إذا كان القرآن الكريم تحدى جبابرة اللغة العربية وعُتَاتَها أن يأتوا بسورةٍ من مثله ولم يستطيعوا ذلك، وهي أغنى وأوسع وأقوى اللغات، فمن بابٍ أولى أن يكون مُعجِزًا في اللغات الضعيفة والهزيلة.
فإنه لو تفوق مثلاً فريقٌ رياضي على أقوى فريقٍ رياضي في العالم، فالفرق الضعيفة يكون التغلبُ عليها بسيطًا بالنسبة لهذا الفريق الفائز. ونفس الكلام ينطبق على اللغات، اللغة العربية بما ذكرنا لها من ميزات هي أقوى وأوسع اللغات وأغناها، وجبابرةُ هذه اللغة لم يستطيعوا مُجاراة القرآن حتى في سورةٍ واحدة، فإذا كان القرآن تغلب على أقوى اللغات وأقوى جبابرتها فبالنسبة إلى سائر اللغات سيكونُ الأمر سهلاً.
هذا بالإضافة إلى أن الإعجاز اللغوي والبياني هو جزءٌ من إعجاز القرآن الكريم، وليس كل إعجاز القرآن منحصرًا في لفظه.
القرآن الكريم إلى اليوم له فضلٌ على اللغة العربية في أنها حفِظها، وإلا كان من المحتمل أن تندثر اللغة العربية ككثيرٍ من اللغات التي انتهت، لكن القرآن الكريم ومن قامُوا عليه وهم أفصحُ الناس وأبلغهم، وهذا كان ملفتٌ للنظر أن نبي الله (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) كان لهم ميزةٌ أنهم كانوا أفصَحَ الناسِ في زمانِهم.
رسولُ الله (ص) يقول “أنا أفصحُ من نَطَقَ بالضاد بيد أني من قُريش” وفي موضعٍ آخر يقول “أُوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِم” كلماتٌ قصيرة وقليلة لكن تحوي مجاميعَ عظيمة من المعاني. هذا رسول الله (ص) وأما أمير المؤمنين (ع) فيكيفك قولُ مُحارِبِه فيه وهو معاوية “ما سَنَّ الفصاحةَ لِقريشٍ غيرُه” يقولون أنه عندما خرج محجٍُ ابنُ أبي محجٍ الثقفي وقد كان عندهُ بعضُ الانحرافات في الكوفة، فأمير المؤمنين (ع) عاقبهُ بما يستحِق، فغضب وانسل في الليل إلى الشام إلى معاوية وقال له “جِئتُكَ من عندِ أَبخَلِ الناس وأعيى الناس” أعيى يعني أعجزهم عن الكلام فقال له معاوية “من تعني؟” قال “أعني ابن أبي طالب” فقال له معاوية “كيف تقولُ أنهُ أبخلُ الناس؟ واللهِ لو كانَ لهُ بيتان، بيتُ تِبرٍ - ذهب - وبيتُ تِبن” لأنفق تِبرَه قبل تبنه - أي أنهُ ليس متعلقًا بالمال - وأما قولُك أنه أعيى الناس كيف تقولُ ذلك؟! واللهِ ما سنَّ الفصاحةَ لقريشٍ غيرُه”.
وقد اشتهر أن الامام عليًّا عليه السلام مرَّ على جماعةٍ يتحدثون في مسجد الكوفة عن أكثرِ الحروفِ ترددًا في كلام العرب وهو الألف والنُقطة، هل تستطيع الكلام بدونها؟ من الصعب جدًّا ذلك، فإذا بأمير المؤمنين (ع) يقف أمامهم ويخطُبُ خُطبةً كاملةً في مباحثٍ عاليةٍ من التوحيد وبعثة رسول الله (ص) وليس فيها ألِفٌ واحدة، انتهى منها وبدأ في خُطبةٍ على غراراها ومنوالها لا يوجد فيها نقطةٌ واحدة. ولم يكن أي كلام، بل كانت مباحثَ دقيقة مرتبة في مسائل علمية من توحيد الله وبعثة النبي (ص)، لو حاولَ شخصٌ القيامَ بذلك لاضطر للجلوس فترةً في المنزل ومحاولة التصحيح والإعادة والتغيير ولن يستطيع أن يأتي بمثلها أيضًا. فهذه فصاحةٌ وبلاغة.
لولا أيضًا أن اللغة العربية فيها هذه المساحة لما كان يمكن هذا الأمر، فالإمام (ع) لم يأت بألفاظ وكلماتٍ من خارج اللغة، وإنما اللغة العربية فيها هذه الإمكانية والسعة، وعلي (ع) أحاط بها. لذلك القرآن الكريم جاء بهذه اللغة.
والإمام الحسين (ع) لما بدأ يخطب يوم عاشوراء في كربلاء صاح القائد الأُموي “ويحكم إنهُ ابنُ أبيه، لو وقف عامَّة نهارِه يتكلم لما عَيَّ أو أُحصر” هو كالسيل يتدفق، اقطعوا عليه حديثه وابدأوا المعركة، فهؤلاء عليهم السلام كانوا في غاية الفصاحة والبلاغة والإحاطة باللغة.
والسيدة زينب (ع) اللَبؤَةُ الهاشمية، ثمرةٌ من شجرةِ أبيها في فصاحتها، كأنها تزِنُ كلماتها ميزانَ الذهب في موضعٍ يطيشُ فيه عقلُ الحليم ويخرسُ فيه المتكلمُ في مجلس يزيد بن معاوية حيث ألقت خطبتها المشهورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). فقه الاستنباط ؛ السيد محمد تقي المدرسي 1/ 85
(2). لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة وجوه متعددة من التفسير.
(3). أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، رومي الأصل ـ ت 392 هـ أُستاذ الشريف الرضي رحمه الله، كان إمامًا في اللغة وصاحب نظريات مبتكرة.
(4). نقل في مواقع إلكترونية متعددة، ومقالات عن كتابه المفصل في تاريخ العرب .. ولم يتيسر لي العثور عليه في الكتاب نفسه.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
السيد عادل العلوي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (7)
العلاقة بين المعجزة والوحي
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الزهراء.. الحزن الأبدي
ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
الصّحيفة الفاطميّة
السّعيد محاضرًا حول آليّات التّعامل الإيجابيّ مع الإنترنت والوسائل الرّقميّة
منتظرون بدعائنا
الشيخ صالح آل إبراهيم: ما المطلوب لكي يكون الزواج سعيدًا؟
آيات الأنفس الأولى