قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

أصالة الحاكمية في العقيدة الإسلاميّة

هناك حقيقة فريدة في القرآن المكي والقرآن المدني على نحو سواء، يتولّى القرآن المكي الجانب الاعتقادي منها ويرسخها، ويتكفل القرآن المدني الجانب العملي والتنفيذي منها، وتلك الحقيقة هي حاكمية اللَّه تعالى في حياة الإنسان . . . وتقوم هذه الحاكمية على تجريد الآخرين من السلاطين والحكّام والآلهة من حقّ الولاية والحكم وتقرير المصير في حياة الناس . وهذان وجهان لقضية واحدة .

 

ومن أعجب الأمور أنّ هذه الحقيقة بوجهيها كانت تملأ مشاعر المسلمين في نشأة هذا الدين الأولى، وكانت أولى ما يستثير انتباه أعداء هذا الدين، وهي أكثر شيء في هذا الدين كلّف الإسلام والمسلمين جهد المواجهة، ومعاناة الصبر على تحدّيات الأعداء .

 

ورغم ذلك كلّه فإنّ هذه الحقيقة لا تملك اليوم في نفوس المسلمين ذلك الوضوح والإشراق .

 

إنّ مفهوم (لا إله إلّا اللَّه) من أوضح المفاهيم في الإسلام، وأكثرها بداهة، وفي نفس الوقت من أكثر المفاهيم التي لابسها الغموض، وأصابها التعتيم الفكري والثقافي، خلال تاريخنا المعاصر .

 

فإنّ مدلول هذه الكلمة هو تجريد الآلهة من غير اللَّه تعالى من كل سلطان وسيادة وولاية وحاكمية في حياة الإنسان، وحصر الولاية والسلطان والحاكمية في اللَّه تعالى.

 

ولا نستطيع أن نفهم هذا (التجريد) و (الحصر) في كلمة (لا إله إلّا اللَّه) إلّا من خلال دراسة التصور الجاهلي للآلهة، ودراسة الفهم القرآني للإله.

 

ولـمّا كان القرآن يطرح كلا التصورين، فإنّ بإمكاننا أن نرجع إلى القرآن الكريم في رسم كلٍّ من هاتين الصورتين: صورة (الإله) في الذهنية الجاهلية، وصورة (الإله) في التصور القرآني.

 

ولنبدأ برسم صورة الإله في الذهنية الجاهلية.

 

التصور الجاهلي لـ (الإله)

 

يقول تعالى في تصوير التصورات الجاهلية عن (الإله):

 

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) «1».

 

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) «2».

 

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) «3».

 

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) «4».

 

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) «5».

 

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) «6».

 

هناك مجموعة من النقاط نستطيع أن نستخرجها من هذه الأضبارة من الآيات المباركة التي تعكس لنا التصور الجاهلي لـ (الإله):

 

1 - كان الناس في الجاهلية يعتقدون أنّ هذه الآلهة لها درجة من النفوذ والسلطان في هذا الكون، ولذلك كانوا يدعونها حين الضرّ والبأس، فهي تحسن وتسيء، ولها سلطان ونفوذ في الإساءة والإحسان إلى الناس.

 

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) «7».

 

ومن ردّ القرآن لهم نكتشف أنّهم كانوا يعتقدون أنّ هذه الآلهة تضرّ وتنفع:

 

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «8».

 

2 - كان الناس يلجأون إليهم ويطلبون منهم النصر والعزّ.

 

3 - يحكمون في حياة الناس، ويشرّعون لهم، ويأمرون وينهون، وينفذ أمرهم ونهيهم في الناس.

 

4 - وكانوا يعتقدون أنّ اللَّه تعالى هو القاهر لعباده فوق هذه الآلهة، وكانوا لا ينفون وجود اللَّه تعالى، وإنّما يسلبون اللَّه تعالى سلطانه وولايته وحاكميته في حياة الناس، ويمنحونها لآلهتهم.

 

وملاك هذه الأمور الأربعة جميعاً هو أنّ هذه الآلهة تشارك اللَّه تعالى في سلطانه وقيمومته على هذا الكون، وفي نفوذه وقدرته، وأنّها تملك في حياة الناس السيادة، والولاية، والحكم، والسلطان.

 

ذلك بإجمال شديد التصور الجاهلي للإله.

 

التصوّر الإسلامي لـ (الإله)

 

وننتقل الآن إلى الصورة الثانية لـ (الإله) التي يعكسها القرآن الكريم.

 

إنّ القرآن ينفي هذه الآلهة جميعاً، ويجرّدها عن الخلق والتدبير والأمر، ويحصر ذلك كله في اللَّه تعالى.

 

ويعتمد هذا (التجريد) و (الحصر) في كلمة التوحيد في القرآن على أصول منطقية، بعضها يمسك ببعض. وهي جميعاً تؤدي إلى غاية واحدة، وهذه الأصول - كما يرسمها القرآن - هي:

 

1 - أنّ الخلق كله للَّه ‌تعالى، وليس للَّه ‌تعالى شريك في الخلق:

 

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) «9».

 

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) «10» .

 

2 - وللَّه تعالى تدبير هذا الكون، وهو المهيمن عليه، ولا يشاركه في ذلك أحد:

 

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) «11».

 

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) «12».

 

3 - واللَّه تعالى وحده يعلم بما في هذا الكون، ولا تخفى عليه خافية في الجو والبر والبحر.

 

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) «13».

 

ولا شك أنّ العلم شرط الهيمنة والسلطان على الكون.

 

وهذه الأصول الثلاثة: توحيد الخلق، والتدبير، والعلم في الكون، تؤدي إلى نقاط ثلاثة مهمة:

 

1 - توحيد الملك : فالكون كلّه ملك للَّه ‌تعالى، ولا يشاركه في هذا الملك أحد، فهو المالك، يفعل ما يشاء، ولا يُسأل عمّا يفعل.

 

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) «14».

 

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) «15».

 

2 - توحيد الحاكمية والأمر والسلطان في حياة الناس:

 

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) «16».

 

(لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) «17».

 

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) «18».

 

(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) «19».

 

3 - ونتيجة ذلك كله توحيد الطاعة والتقوى والانقياد للَّه ‌تعالى:

 

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) «20».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) . مريم : 81 .

(2) . يس : 74 .

(3) . النحل : 20 - 22 .

(4) . الزمر : 3 .

(5) . التوبة : 31 .

(6) . الشورى : 21 .

(7) . هود : 54 .

(8) . يونس : 18 .

(9) . النحل : 20 .

(10) . فاطر : 3 .

(11) . الزمر : 5 .

(12) . يونس : 3 .

(13) . الأنعام : 59 .

(14) . الفرقان : 2 .

(15) . الأنبياء : 23 .

(16) . الزخرف : 84 .

(17) . القصص : 71 .

(18) . الأعراف : 54 .

(19) . آل عمران : 154 .

(20) . التغابن : 16 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد