
وقد أدرك الإمام علي عليه السلام، منذ اللحظة الأولى صعوبة موقفه، فكشف للأمة عن أن حركة التاريخ قد عادت ذات نبض جاهلي، فقد عاد التاريخ السابق على النبوة.. كما صارح الأمة بأن المواجهة مع القيم البائدة العائدة تقتضي الحكم بأن يكون قويًّا وصارمًا... كما صارحهم بأن الآمال في تغيير سريع وكامل نحو الأفضل ينبغي أن تتضامن قليلاً ليتاح للسلطة الشرعية أن تواجه قوى الجاهلية بمرونة.
هذه الرؤية السياسية عبّر عنها الإمام في خطبة خطبها في أول خلافته، في المدينة، أو هي - حسب رواية الجاحظ في كتابه البيان والتبيين عن أبي عبيدة معمر بن المثنى - أول خطبة خطبها بالمدينة، قال فيها حسب رواية الجاحظ عن أبي عبيدة: ألا لا يرعين مرع على نفسه (1) شغل من الجنة والنار أمامه. ساع مجتهد ينجو، وطالب يرجو، ومقصر في النار... اليمين والشمال مضلة، والوسطى الجادة (2) منهج عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة.
إن الله داوى هذه الأمة بدوائين: السوط والسيف، لا هوادة (3) عند الإمام فيهما. استتروا في بيوتكم (4) وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم. من أبدى صفحته للحق هلك (5)... انظروا: فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فآزروا... وقلما أدبر شيء فأقبل. ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء وإني لأخشى أن تكونوا في فترة، وما علينا إلا الاجتهاد. (6).
حذرهم، أولًا، من إثارة القلاقل والاضطربات. ثم أثار في عقولهم وقلوبهم عقيدة البعث واليوم الآخر. ثم بيّن لهم أن الانحراف عن منهج الكتاب والسنة إلى اليمين أو إلى الشمال يؤدي بصاحبه إلى الضلال والتيه، ولذا فإن نبض الجاهلية العائد ضلال.
ثم كشف لهم عن أن المرحلة تقتضي الحكم أن يكون صارمًا (السوط والسيف)، ولذا، فإن على الناس ألا يخوضوا في أي شأن يزيد الوضع سوءا بإثارة العصبيات القبلية والنزعات العشائرية، داعيًا إياهم إلى أن يكفوا ويتوبوا عما سلف منهم من إفساد.
ثم أعطاهم حق الرقابة، وطالبهم بحقه في تأييدهم ومؤازرتهم. ثم أبدى تشاؤمه من المستقبل وشكه في عودة النهج النبوي إلى سابق قوته (قلما أدبر شيء فأقبل)، ولكنه، مع ذلك، لم يفقد الأمل في تحسن الأوضاع، (لئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء).
ثم حذرهم من أن على الآمال المشرقة في التغيير نحو الأحسن... نحو النهج النبوي الصافي، أن تضامن نفسها، وأن يعود أصحابها إلى شيء من الواقعية في تطلعاتهم: ... وإني لأخشى أن تكونوا في فترة. قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الفترة: الفترة هي الأزمنة التي بين الأنبياء إذا انقطعت الرسل فيها، كالفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله، لأنه لم يكن بينهما نبي، بخلاف المدة التي كانت بين موسى وعيسى عليهما السلام لأنه بعث فيها أنبياء كثيرون. فيقول عليه السلام: إني لأخشى ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالى فيكم، فتكونوا كالأمم الذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلى نبي يشافههم بالشرائع والأحكام.
وكأنه عليه السلام كان يعلم أن الأمر سيضطرب عليه. ثم قال: (وما علينا إلا الاجتهاد) يقول: أنا أعمل ما يجب علي من الاجتهاد في القيام بالشريعة وعزل ولاة السوء وأمراء الفساد عن المسلمين، فإن تم ما أريده فذاك، وإلا كنت قد أعذرت (7).
إن الإمام عليه السلام قبِل الحكم، إذن، بمزيج من التشاؤم والأمل، ولكن سرعان ما تسرب الذبول إلى شعلة الأمل، فإن القوى المترددة سرعان ما أخذت تنحاز رويدًا رويدًا نحو المعسكر المناهض للنهج النبوي، إن لم يكن في العلن ففي السر... هذا من جهة، ومن جهة أخرى راحت الجماهير الغاضبة، المترعة قلوبها بآمال التغيير تضغط في سبيل التغيير دون أن تقدر ظروف المرحلة. وكان اتباع سياسة متوازنة ضرورة حيوية لئلا ينفجر المجتمع من الداخل بانحياز قوى موالية للنهج النبوي، ولكنها غير واعية وغير ناضجة، نحو معسكر الثورة المضادة.
وهكذا، فبعد الصدمة التي شلّت قوى الثورة المضادة، وبعد فترة الانتظار التي مرت بها الفئات الأخرى من الأمة، تفجر الموقف من جديد، وعاد الغليان إلى المجتمع، وعادت حالة الاختلاط والاضطراب المحمومة. وظهرت للإمام علي في هذه المرحلة التي بلغت فيها أزمة الحكم وأزمة الفكر الذروة - ظهرت له بوضوح تام موجع ومدم للقلب معالم تاريخ المستقبل للأمة الإسلامية حافلاً بالأهوال والمآسي، وبكل ما فيه من ظلام ودماء، وتمزقات وانهيارات، تتخللها هنا وهناك، في بعض الأحيان، لمعات نور وحالات سلام عارضة، وآمال مضيئة ملهمة، وخيبات أمل قاسية.
لقد رأى، رأى بحدس يضيئه نور نبوي، وعقل مستوعب لحركة التاريخ وآليتها التي تكاد أن تكون رياضية - رأى الفتنة آتية بكل ظلامها، وحيلها، وتلبيسها الحق بالباطل. ورأى بعدها انتصار حركة الردة بقيمها الجاهلية، بلبسها للإسلام (لبس الفرو مقلوبًا).
ورأى بعد ذلك معاناة الأمة: فسمع بقلبه الكبير أنين المظلومين الذين تسحقهم أنيابها الوحشية، ورأى بقلبه الكبير نزيف الدماء من ضحاياها، وأحس بأعمق أعماق كرامته الإنسانية ذل الإنسان المسلم في مجتمع الردة، وبكى بحرارة ومرارة لكل ما سيصيب الناس بعده.
ورأى بعد ذلك نار الثورة تحرق كل شيء، وتهدم كل شيء، تستلهم حق الناس ومرارتهم... ولكنها ثورة تقع في أخطاء الفتنة في أحيان، وفي مهاوي الردة في أحيان، وقلما تهتدي الطريق الوسطى... ورأى أخيرًا، في البعيد البعيد... بعد طول عذاب وعناء، نور الأمل الآتي في النهاية... نور الخلاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا يرعين.. أي لا يبقين، أرعيت عليه أي أبقيت: يقول: من سالم وهدأ فإنما سلم نفسه وأبقى عليها.
(2) الجادة: الطريق المستقيمة الواضحة.
(3) الهوادة: الرفق والصلح، وأصله اللين.
(4) استتروا في بيوتكم: لا يريد منع التجول كما يقولون في أيامنا، وإنما يريد النهي عن التجمعات ذات الطابع التحزبي القبائلي التي تدفع إليها العصبية القبلية كما إنه لا ينهاهم عن النقد السياسي لأنه قال (فإن أنكرتم فأنكروا).
(5) الصفحة: جانب الوجه، أو هي الوجه. يريد الإمام أن من تعرض للحق بمخالفته وتجاوزه يهلك، لأنه سيعاقب.
(6) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1 / 275 - 276. ورواها الشريف الرضي في نهج البلاغة بتغيير بعض العبارات، انظر الخطبة رقم 176: ومن خطبة له عليه السلام في الشهادة والتقوى وقيل: إنه خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته.
(7) المصدر السابق : 1 / 281.
أمثلة من النعم المعنوية والباطنية في القرآن الكريم
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
باسم الله دائمًا وأبدًا
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
لا تستسلم وحقّق أهدافك
عبدالعزيز آل زايد
مؤقّتات خفيّة في الدماغ تتحكّم في الاحتفاظ بالذّاكرة أو نسيانها
عدنان الحاجي
أيّ نوع من المربّين أنت؟
السيد عباس نور الدين
كيف تعامل أمير المؤمنين (ع) مع التاريخ في مجال تعليمه السياسي؟ (3)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
معنى (هنأ) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
المنّ يزيل الأجر
الشيخ محمد مصباح يزدي
الحداثة الفائضة في غربتها الأخلاقية
محمود حيدر
أريد أن يكون ولدي مصلّيًا، ماذا أصنع؟
الشيخ علي رضا بناهيان
السيّدة الزهراء: صلوات سدرة المنتهى
حسين حسن آل جامع
الصّاعدون كثيرًا
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
أمثلة من النعم المعنوية والباطنية في القرآن الكريم
باسم الله دائمًا وأبدًا
اختبار غير جراحي للكشف عن الخلايا السرطانية وتحديد موقعها
أمسية أدبيّة لغويّة بعنوان: جمال التراكيب البلاغية، رحلة في أسرار اللغة
لا تستسلم وحقّق أهدافك
مؤقّتات خفيّة في الدماغ تتحكّم في الاحتفاظ بالذّاكرة أو نسيانها
أيّ نوع من المربّين أنت؟
كيف تعامل أمير المؤمنين (ع) مع التاريخ في مجال تعليمه السياسي؟ (3)
معنى (هنأ) في القرآن الكريم
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}