من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

القصّاصون يثقّفون النّاس رسميًّا (2)

اهتمام الحكام بالقصاصين

 

وكان الحكام يهتمون بأمر القصاصين بصورة واضحة، وقد تجلى هذا الاهتمام في جهات عديدة:

 

1 ـ فقد تقدم: أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان يجلس إلى القصاصين، ويستمع إليهم، وكذلك معاوية، وعمر بن عبد العزيز.

 

2 ـ وقد جعلوا للقصاصين جُعلاً (أي أجراً) على عملهم (1). وكان عمر بن عبد العزيز ـ حسبما يقولون ـ يعطي القاص الذي رتبه للقيام بهذه المهمة دينارين شهرياً، فلما ولي هشام بن عبد الملك جعل له ستة دنانير (2).

 

3 ـ كان منصب القصاص منصباً رسمياً يتدخل فيه الخليفة بنفسه، نصباً وعزلاً، كما تقدم عن عمر، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز. وسيأتي ما يدل على ذلك أيضاً عن عوف بن مالك، وعبادة بن الصامت، حيث قالا: لا يقص إلا أمير، أو مأمور الخ. ويدل عليه أيضاً كلام غضيف بن الحارث مع عبد الملك بن مروان (3)، فراجع.

 

وقد ذكر المقريزي طائفة ممن تولوا منصب (قصاص) في القرون الأولى على التعاقب، فليراجعه من أراد ذلك (4). أما من كان يقص بدون إذن من الحاكم، فقد كان يعرض نفسه للمؤاخذة من قبل الحكام (5). ولعل القاص الذي ينصبه الحاكم هو الذي كان يقال له: «قاص الجماعة» (6).

 

ويشير إلى ذلك: أن أبا الهيثم كان قاص الجماعة في عهد بني أمية، فلما جاء بنو العباس عزلوه، فاعترض على ذلك واستنكره (7).

 

4 ـ إن الخلفاء كما أنهم كانوا يجعلون للجماعة قاصاً، فإنهم كانوا يجعلون للجند قاصاً أيضاً، لأجل تحريكهم، وبعث الحماس فيهم (8)، وتوجيههم سياسياً، حسبما يتوافق مع أهداف الحاكم وطموحاته. وقد صرح الحسن بن عبد الله: أن الملك هو الذي يتولى منصب قاص الجند (9).

 

5 ـ لقد كان الخليفة يتدخل حتى في كيفية ونوع ومقدار العمل الذي يسمح به للقاص، وتقدم أن عمر وعثمان قد عينا لتميم الداري الوقت والمدة والمكان.

 

كما أن عمر بن عبد العزيز ـ الذي تلمّذ على يدي مسلم بن جندب القاص ـ (10) قد كتب إلى صاحب الحجاز: أن مر قاصك: أن يقص على كل ثلاثة أيام مرة. أو قال: قاصكم (11) .

 

6 ـ لقد كان الأمراء أنفسهم يمارسون عمل القصص، حتى قيل ـ بل لقد جعلوا ذلك رواية عن النبي «صلى الله عليه وآله» ـ كما عن عبادة بن الصامت، وعوف بن مالك: «لا يقص إلا أمير، أو مأمور، أو مختال. أو قال: أو متكلف» (12).

 

القصاصون في خدمة سياسات الحكام

 

وغني عن القول هنا: أن القصاصين قد قاموا بدور فاعل في تثبيت دعائم الحكومات الظالمة، وأصبحوا أبواقاً لها للدعاية والإعلام، يشيعون في الناس ما يريد الحكام إشاعته، مما يخدم مصالحهم، ويوصلهم إلى أهدافهم. ويكفي أن نذكر هنا:

 

1 ـ أن معاوية حين جاء لحرب الإمام الحسن «عليه السلام» في العراق، استصحب معه القصاص؛ فكانوا يقصون في كل يوم، يحضون أهل الشام عند وقت كل صلاة؛ فقال بعض شعرائهم: من جسر منبج أضحى غب عاشرة، في نخل مسكن تتلى حوله السور (13).

 

2 ـ ويقولون أيضاً: إن معاوية حينما بلغه: أنّ علياً «عليه السلام» قنت فدعا على أهل حربه، أمر القاص الذي يقص بعد الصبح وبعد المغرب: أن يدعو له ولأهل الشام (14).

 

3 ـ وكان عبد الملك شكا إلى العلماء!! ما انتشر عليه من أمر رعيته، وتخوفه من كل وجه، فأشار عليه أبو حبيب الحمصي القاضي بأن يستنصر عليهم برفع يديه إلى الله تعالى. فكان عبد الملك يدعو ويرفع يديه، وكتب بذلك إلى القصاص؛ فكانوا يرفعون أيديهم بالغداة والعشي (15).

 

4 ـ وكان محمد بن واسع الأزدي من جملة القصاص والوعاظ في جيش قتيبة بن مسلم في خراسان، وكان يقول قتيبة في حقه: إنه بالنسبة إليه أفضل من ألف سيف ورمح. فراجع (16).

 

5 ـ قال عبد الملك بن مروان لغضيف بن الحارث: «إنا قد أجمعنا الناس على أمرين: قال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر الخ» (17).

 

6 ـ كما أن القصاصين قد قاموا بدور مهم في إحداث الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد، في زمن عضد الدولة، فمنعهم من القصص. وذلك في سنة 367 ه‍ (18). وكذلك جرى في سنة 398 ه‍ . ق. ثم سمحوا لهم بمزاولة أعمالهم بشرط تركهم التعرض للفتن (19).

 

جرأة القصاصين وسيطرتهم

 

كان القصاصون جريئين على الله ورسوله، فلم يكونوا يتورعون عن وضع الحديث، حتى لقد قال ابن حبان: «كانوا إذا حلوا بمساجد الجماعات، ومحافل القبائل مع العوام والرعاع أكثر جسارة في الوضع» (20). أي في وضع الحديث على لسان رسول الله «صلى الله عليه وآله».

 

وقد حدَّث ابن عون، فقال: «أدركت المسجد، مسجد البصرة، وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه إلا حلقة واحدة تنسب إلى مسلم بن يسار، وسائر المسجد قصاص» (21). ودعا عطاء بن أبي رباح بخمسة قصاص، فقال: قصوا في المسجد الحرام. قال: وهو جالس إلى أسطوانة. قال: فكان خامسهم عمر بن ذر (22) وأما سيطرتهم على عقول الناس، فذلك أوضح من الشمس، وأبين من الأمس، ويوضح ذلك كثير من الحالات والقضايا التي حصلت لبعض المعروفين، الذين كانوا يرفضون طريقتهم، وينظرون إليهم بعين الريب والشنآن.

 

ولكن كانت كلماتهم تجذبهم، وأحاديثهم تسحرهم، رغم علمهم بكونها موضوعة ومكذوبة. ومن غريب ما يذكر هنا: أن أم الإمام أبي حنيفة لا تقبل بفتوى ولدها، ولكنها ترضى بقول قاص يقال له: زرعة (23). كما أن أحد الكبار المعروفين يحتج لبعض الأمور بقول أحد القصاصين من مسلمة أهل الكتاب، وهو تميم الداري (24).

 

وحين حاول الشعبي أن ينكر على أحد القصاصين في بلاد الشام ما يأتي به من ترهات، قامت عليه العامة تضربه، ولم يتركه أتباع ذلك القاص، حتى قال برأي شيخهم نجاة بنفسه (25). بل لقد بلغ الاحترام والتقديس لمجلس القصص والقصاصين أن تخيل البعض: أن الكلام أثناء القصص لا يجوز، كما لا يجوز الكلام في خطبة الجمعة، حتى أعلمه عطاء: أن الكلام أثناء القصص لا يضر (26). وقال مالك: «.. وليس على الناس أن يستقبلوهم كالخطيب» (27).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. تاريخ المدينة لابن شبة ج 1 ص 15 و 16 والخطط والآثار للمقريزي ج 2 ص 254 .

 2. تاريخ المدينة ج 1 ص 15 وراجع : الحوادث والبدع ص 103 .

3. راجع تاريخ المدينة ج 1 ص 10 ومجمع الزوائد ج 1 ص 188 .

4. راجع : الخطط والآثار ج 2 ص 254 .

5. راجع : أنساب الأشراف ج 4 قسم 1 ص 34 ـ 35 .

6. راجع : المصنف للصنعاني ج 3 ص 220 وتاريخ المدينة ج 1 ص 16 و 14 .

7. راجع المعرفة والتاريخ ج 2 ص 436 .

8. راجع : تمدن إسلام وعرب در قرن چهارم هجري ج 2 ص 80 و85 والجرح والتعديل ج 6 ص 163 .

9. راجع : الجيش والقتال في صدر الإسلام ص 135 .

10. راجع : التاريخ الكبير ج 3 ص 354 والمعرفة والتاريخ ج 1 ص 596 .

11. القصاص والمذكرين ص 28 . لعل الصحيح : أخبار القصاص والمذكرين .

12. راجع : قوت القلوب ج2 ص302 و303 وكنز العمال ج10 ص124 عن الطبراني والمعجم الصغير ج1 ص216 وتاريخ المدينة لابن شبة ج1 ص8 و9 والتراتيب الإدارية ج2 ص336 عن أحمد ، وأبي داود ، والطبراني في الكبير والأوسط ، والهيثمي . والقصاص والمذكرين ص25 و28 وسنن ابن ماجة ج2 ص1235 ومسند أحمد ج4 ص233 وج 6 ص29 وربيع الأبرار ج3 ص588 وسنن الدارمي ج2 ص319 ومختصر تاريخ دمشق ج7 ص240 وج 10 ص338 و339 . وراجع : مجمع الزوائد ج1 ص190 والنهاية في اللغة ج4 ص70 ولسان العرب ج7 ص74 و75 وعن تحذير الخواص ص59 . والحوادث والبدع للطرطوشي ص101 ط تونس سنة 1959 .

13. تاريخ بغداد ج 1 ص 208 وراجع : سير أعلام النبلاء ج 3 ص 146 وفي هامشه عن ابن عساكر .

14. الخطط للمقريزي ج 2 ص 253 والولاة والقضاة هامش ص 203 عن رفع الإصر ص 47 .

15. الخطط للمقريزي ج 2 ص 254 .

16. راجع : البيان والتبيين ج 3 ص 273 والعقد الفريد ج 2 ص 170 .

17. مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 105 وتحذير الخواص ص 70 .

18. راجع : البداية والنهاية ج11 ص289 وطبقات الحنابلة ج1 ص158 والمنتظم ج7 ص88 وسير أعلام النبلاء ج16 ص509 وتاريخ الإسلام للذهبي (حوادث سنة 350 ـ 380 ه‍ـ) ص153 .

19. راجع : المنتظم ج7 ص337 و338 وتاريخ الإسلام للذهبي (حوادث سنة 380ـ400 هـ ) ص337 ـ 338 وشذرات الذهب 149 و150 وبقية المصادر في كتابنا : صراع الحرية في عصر المفيد ص24 و25 الطبعة الأولى .

20. عن المجروحين ج 2 ص 30 ، أ .

21. القصاص والمذكرين ص 16 .

22. المصدر السابق ص 32 .

23. القصاص والمذكرين ص90 وتاريخ بغداد ج3 ص366 .

24. عيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 ص 297 .

25. السنة قبل التدوين ص211 عن تمييز المرفوع عن الموضوع ص16 ب . والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع .

26. المصنف للصنعاني ج3 ص388 .

27. الحوادث والبدع ، لأبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي ص99 ط تونس سنة 1959 م .

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد