العهود لا تنقض، وهي ملزمة للجميع
ونجد في نص المعاهدة التي كتبها علي أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما بين ربيعة، اليمن، ما يدل على أن العهد ملزم لكل الآخرين الذين ينتمي إليهم المباشرون لعقد العهد.. وذلك يقطع أي عذر، ويمنع من أي تعلل، أو محاولة خداع. وهذا مطلب عادل، وسليم، فإن كل الأمور التي تمس حياة المجتمعات، لا يمكن أن يعتمد فيها مبدأ موافقة كل فرد منها ولا سيما مع اختلاف المصالح، وتشتت الآراء، وتباين الأهواء، حسبما ذكر أمير المؤمنين «عليه السلام» في الفقرة المنقولة عنه في عهده للأشتر النخعي «رحمه الله»..
إن عتب العاتبين، وغضب الغاضبين، لا يجوز أن يجعل ذريعة لنقض العهد، ما دام أن إرضاء كل أحد غير ممكن، ولا سيما في الأمور المرتبطة بمستقبل الجماعات، وعلاقاتها ومواقفها، حتى ولو كان العاتبون والغاضبون فريقاً ثالثاً، يريد أن يحصل على مكاسب سياسية أو غيرها، ويكون له دور ما في التحرك السياسي، أو تأثير ـ إيجابي أو سلبي ـ على ساحة الصراع. فإذا كان القانون العام هو عدم نقض العهد بسبب ذلك، فلا بد أن تنقطع أطماع الطامعين، ما دام أن عتبهم لن يجدي نفعاً، ولن يؤثر شيئاً.
إن العهد لا ينقض لأجل استذلال قوم قوماً، ولا لمسبة قوم قوماً؛ فإن تعرض فريق للاستذلال من قبل فريق آخر، بسبب عقده للعهد، وكذا اتخاذ عقد العهد من قوم وسيلة لتعييرهم ومسبتهم، لا يبرر للعاقدين له نقض عهدهم.. وإذاً.. فإن من يقدم على عهد، لا بد وأن يعلم مسبقاً: أنه لا بد له من الوفاء بما عقده، حتى في أشق الأحوال، وأصعبها، فهو إذن عالم بما يفعل، ومطلع على نتائجه مسبقاً، وقد أقدم مختاراً على ذلك.. فعليه أن يتحمل نتائج ما أقدم عليه..
وقد أشار علي أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى ذلك كله في العهد الذي كتبه بين اليمن وربيعة، فقد جاء فيه: «.. لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب، ولا لغضب غاضب، ولا لاستذلال قوم قوماً ولا لمسبة قوم قوماً على ذلك شاهدهم وغائبهم، وسفيههم وعالمهم، وحليمهم وجاهلهم، ثم إن عليهم عهد الله الخ . .» (1).
احترام أمور المعاهدين
وحين يكون المعاهدون يتمتعون بحماية دولة الإسلام، فإن أموالهم ـ كأموال المسلمين ـ لا تمس، بل تبقى لهم، ويمارسون حريتهم التجارية بصورة تامة.. قال علي أمير المؤمنين «عليه السلام» في كتاب له إلى عمال الخراج: «ولا تمسن مال أحد من الناس، مصلّ، أو معاهد، إلا أن تجدوا فرساً، أو سلاحاً الخ..» (2).
المعاهدون لا يجفون ولا يقصون
وقد كتب علي أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى بعض عماله: «واعزز المسلمين، ولا تظلم المعاهدين» (3). وكتب أيضاً إلى عامل آخر له ، يقول: «أما بعد، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم، ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلباباً من اللّين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وأمزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء» (4).
من نتائج الصلح والعهد
وعن نتائج الصلح والعهد، فهي: (دعة الجنود . الراحة من الهموم . الأمن لبلاد المسلمين). وذلك معناه: أنك أصبحت قادراً على التخطيط للمستقبل لأنك قد ارتحت من همومك، وأصبحت قادراً أيضاً على تنفيذ خططك، لأنك تملك الوقت الكافي، والطاقات الفاعلة، المهيأة للعمل الجاد والدائب، دونما مانع أو رادع..
كما أن هذا السلم والأمن لسوف يجنب بلادك التعرض للأزمات الاقتصادية الحادة، ويحفظ مرافقها الاقتصادية والحيوية من التدمير، أو التعطيل، أو صرفها في مواجهة متطلبات الحرب. هذا، عدا عن حفظ القوى الفاعلة والمؤمنة من أن تتعرض للتدمير، أو للتشويه، ثم ما ينشأ عن ذلك من آثار اجتماعية لا تجهل.
ويجب أن لا ننسى أن حالة عدم الاستقرار، بل والخوف وعدم الأمن في أحيان كثيرة، من شأنها أن تشل حركة المجتمع في المجالات المختلفة، وتمنعه من أن يقوم بدوره على النحو المطلوب والمؤثر. ثم هناك الحالة الفكرية والنفسية وكثير من السلبيات الأخرى، التي تنشأ عن ظروف الحرب، وتتفاعل بصورة تصاعدية في كثير من المجالات، والقطاعات.. وكل ذلك يمثل هموماً حقيقية لأي حاكم يشعر بمسؤولياته الإلهية، والإنسانية تجاه مجتمعه وأمته.
العهد.. والحذر
وإذا كان عقد العهد مع العدو لا يعني أن العدو قد تنازل عن كل طموحاته، وصرف النظر عن كل مراداته وخططه، فإنه ربما يكون قد قارب ليجد الفرصة للوثوب، وإيراد الضربة القاصمة.. فقد جاء النهي عن الاطمئنان لهذا العدو، حيث قد تقدم قول أمير المؤمنين «عليه السلام» في عهده للأشتر: «ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه؛ فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن». وقال تعالى: ﴿ ... وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ... ﴾ (5).
الخيانة في حجمها الكبير
وبما أن الله سبحانه قد جعل عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فإن الشرط الأساس فيه هو أنه لا إدغال، ولا مدالسة ولا خداع فيه؛ فإذا رأى أن العدو لا يعمل بشروط الصلح ومقتضيات العهد، وإنما هو يتآمر، ويعد العدة للغدر، فإن نفس هذه الأعمال تكون نقضاً منه للعهد، وتخلياً عن شروطه، فلا معنى حينئذٍ للالتزام بهذا العهد من طرف واحد، وإنما لا بد من نبذ العهد إليه ومعاملته معاملة الخائن المجرم، قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ (6). وعن علي «عليه السلام»: الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله. (7).
وبالنسبة إلى بني النضير، فإنهم قد مارسوا الخيانة في أبشع صورها وأفظعها، حين تآمروا على القيادة الإسلامية والإلهية، فرد الله كيدهم إلى نحورهم، وحفظ الله نبيه، وأعز دينه، وأدال المسلمين من أعدائهم، من أسهل الطرق، وأيسر السبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. نهج البلاغة ج3 ص148 الرسالة رقم 74.
2. نهج البلاغة بشرح عبده ج3 ص90 الرسالة رقم 51.
3. تاريخ اليعقوبي ج2 ص200 و 201.
4. نهج البلاغة ج3 ص21 الرسالة رقم 19، وأنساب الأشراف ج2 ص161 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص203.
5. القرآن الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 102، الصفحة: 95.
6. القرآن الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 58، الصفحة: 184.
7. نهج البلاغة ج3 ص210 الحكمة رقم 259 وغرر الحكم ج1 ص60 وروض الأخيار ص111 وربيع الأبرار ج 3 ص375 ومستدرك الوسائل ج2 ص249. وغرر الخصائص الواضحة ص59 ومصادر نهج البلاغة ج4 ص4 وص401 عن بعض من تقدم وعن شرح النهج للمعتزلي ج1 ص216 .
محمود حيدر
الشيخ جعفر السبحاني
حيدر حب الله
السيد جعفر مرتضى
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ حسين مظاهري
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
بالإيحاء.. كان الوجود كلّه (1)
نظم القرآن البديع (1)
الحكمة القرآنية بين النظرية التجريدية والسلوك العملي
المعاهدات في الإسلام (2)
بعض أئمّة علم القرآن الكريم من الشّيعة الإماميّة
سرّ القنوت والتّشهّد والتّسليم في الصّلاة (1)
العدل الإلهي
بحث عن عالم البرزخ والنّفخ في الصّور والكوثر (1)
المعاهدات في الإسلام (1)
السّعادة حسن العاقبة