الحالة الاجتماعية
ويأتي بعد ذلك كله، دور الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، حيث كان الناس يعيشون حياة الشقاء والبلاء، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، كما دلت عليه كلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقدمة في أوائل هذا الجزء عن الحالة الإجتماعية عند العرب ـ وهي لا تختلف كثيراً عما عند غيرهم ـ ونضيف إلى ذلك هنا: ما قاله جعفر (رحمه الله) لملك الحبشة، حينما ذهب عمرو بن العاص ليخدعه عنهم: (كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف) (1).
فهذه الحالة الاجتماعية القاسية التي كانت تهيمن على الأمة، وذلك الضياع الذي يسيطر عليها قد هيأ الإنسان الجاهلي نفسياً لقبول الحق، والتفاعل معه، وجعله يتطلع للدعوة التي يجد فيها الحق والخير، ويعرف أنها تستطيع أن تخفف من شقائه وآلامه، وتنقذه من واقعه المزري والمهين ذاك. وقد عبر جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) عن ذلك، لملك الحبشة، بعد عبارته المتقدمة، فقال: (فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وعفافه فدعانا إلى الله؛ لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة الخ ..) (2).
وقد عبر أهل المدينة على لسان أسعد بن زرارة عن أملهم في أن يحل (صلى الله عليه وآله) بدعوته تلك مشاكلهم المستعصية، حيث يذكر المؤرخون: أن الأوس والخزرج ما كانوا يضعون السلاح في ليل ولا نهار (3)، فمن الطبيعي إذن أن يشتاقوا إلى الخروج من وضع كهذا إذ نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان. وسيأتي الحديث عن ذلك حين الكلام على دخول الإسلام إلى المدينة.
هذا، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاندفاع نحو الإسلام، إنما كان ظاهراً وقوياً في جملة الضعفاء والعبيد، والفقراء، أما أولئك المستغلون والمستكبرون وأصحاب الأموال، والأطماع، من أمثال: أبي جهل، وأبي سفيان؛ فقد كانوا هم الذين يهتمون بالقضاء على الدعوة، ومنعها من الانتشار، وإن المطالع لتاريخ الإسلام في مكة ليجد الكثير الكثير من الشواهد التي تؤيد ما ذكرناه هنا، مع تأكيدنا على أن ذلك لا يختص بما جرى بالنسبة لنبيّنا (صلى الله عليه وآله) بل هو ينسحب على غيره من الأنبياء السابقين، وقد عبّر القرآن عن هؤلاء المخالفين من الطبقة الأرستقراطية ب (الملأ) في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة.
نوع معجزته صلى الله عليه وآله
ومما ساعد على انتشار الإسلام وانتصاره نوع المعجزة التي جاء بها (صلى الله عليه وآله) فإن هذا القرآن قد حيَّر العرب، ليس فقط بما يتضمنه من قوانين عامة وشاملة، ومن معان وإخبارات غيبية، ومن قصص فيها العبر والعظات، رأى فيها غير المسلمين تصحيحاً دقيقاً لما جاء منها في كتبهم، وغير ذلك من علوم ومعارف، وإنما قهرهم وبهرهم فيما كانوا يعتبرون أنفسهم، ويعتبرهم العالم بأسره قمة فيه، إكمالاً للحجة، وحتى لا يبقى مجال لأي خيار؛ لأن خروجه (صلى الله عليه وآله) في بيئة كهذه، بحجة كهذه، لا بد أن يجعلهم يذعنون وينقادون للحق، وإلا فلسوف يراهم كل أحد، ويرون أنفسهم أيضاً معاندين للحق، ومناصرين للباطل.
نعم، لقد بهرهم هذا القرآن وحيَّرهم، ولم يترك لهم مجالاً للخيار فإما الجحود على علم ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ...﴾ (4)، وأما الإيمان والتسليم. وإذا كنا نعلم: أن من مميزات العربي، وبحكم حياته وطبيعته: أنه كان يعيش حياة الحرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ولم تلوث فكره وعقله الأفكار والشبهات والآراء المصطنعة ـ كما كان الحال بالنسبة لسائر الأمم، كالرومان والفرس وغيرهما، الذين كانوا يحاولون فلسفة أديانهم البعيدة عن الفطرة، والمنافرة لها، وإظهارها بمظاهر معقولة ومقبولةـ.
إذا كنا نعلم ونرى ذلك، فإن هذا القرآن قد جاء منسجماً مع فطرة العربي، ومتلائماً مع طبعه وسجيته، ومع صفاء نفسه وقريحته، تماماً كما كانت الدعوة نفسها منسجمة مع فطرته وروحه، ويستجيب لها عقله، وضميره ووجدانه، لأنه كان يعيش على الفطرة، والإسلام دين الفطرة: ﴿...فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ...﴾ (5). ولذلك نراه سرعان ما صار يبذل ماله وولده ودمه في سبيل هذه الدعوة، ويقتل حتى أباه وأخاه من أجلها...
بشائر اليهود والنصارى به صلى الله عليه وآله
وأيضاً، فان بشائر أهل الكتاب بقرب ظهور نبي في المنطقة العربية، قد سهل هو الآخر قبول دعوته، وانتشار رسالته. فقد جاء في التوراة المتداولة: (وهذه هي البركة، التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران) (6). فالمجيء من سيناء كناية عن تكليم الله لموسى (عليه السلام) في سيناء، وساعير هي جبال فلسطين، وهو إشارة لعيسى (عليه السلام).
وفاران اسم قديم لأرض مكة (7)، التي لم يظهر فيها إلا نبينا الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، الذي أنزل عليه القرآن. والنبي محمد (صلى الله عليه وآله) هو من نسل إبراهيم (عليه السلام)، الذي جعلها أرض غربته، تقول التوراة: (وأعطى لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان، ملكاً أبدياً) (8). فالمقصود بأرض غربة إبراهيم خصوص مكة، لأنها هي التي أسكن أهله فيها. وأرض كنعان وإن كانت هي بلاد الشام ولكن المقصود فيها هنا عموم بلاد العرب، بضرب من التجوز، لأن إبراهيم لم يهاجر إلى الشام، ولا أسكن أهله فيها (9). وجاء في الإنجيل قوله: (وهذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين؛ ليسألوه: من أنت؟ فاعتر ، ولم ينكر، وأقر: إني لست أنا المسيح. فسألوه: إذن ماذا؟ إيليا؟ فقال: لست أنا، النبي أنت؟ فأجاب: لا) (10).
فالمراد بإيليا ليس إلياساً ـ كما ربما يدعى ـ وذلك لأنه قد كان قبل عيسى بقرون، فلا بد أن يكون المقصود به رجلاً يأتي بعد عيسى. وكذلك الحال بالنسبة إلى النبي الذي سألوه عنه. ومن المعلوم أنه لم يأت بعد عيسى غير نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، وأوصيائه (عليهم السلام) فلعل المقصود بالنبي هو محمد (صلى الله عليه وآله) وبإيليا وصيه علي (عليه السلام). هذا، وبشارات العهدين به (صلى الله عليه وآله) كثيرة جداً، فمن أرادها فليراجع الكتب المعدة لذلك (11) مع الأخذ بعين الاعتبار:
أن التوراة والإنجيل الموجودين فعلاً قد نالتهما يد التحريف والتزوير، كما يظهر لمن راجع كتاب: الهدى إلى دين المصطفى، والرحلة المدرسية، للمرحوم البلاغي وإظهار الحق لرحمة الله الهندي، وغير ذلك. ويكفي أن نذكر هنا: أن القرآن قد قرر: أن أهل الكتاب ﴿...يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (12). وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ...﴾ (13).
ولو أن أهل الكتاب كان يمكنهم إثبات خلاف هذا النص القرآني، لبادروا إليه، ولما عرَّضوا أنفسهم للحروب والبلايا في سعيهم الدائب لإطفاء نور الله، هم ومشركو مكة، الذين كانوا يتعاونون معهم تعاوناً وثيقاً. بل إن أهل الكتاب أنفسهم كانوا يتوعدون العرب، ويقولون لهم: (ليخرجنَّ نبي، فيكسرنَّ أصنامكم، فلما خرج رسول الله كفروا به) (14).
ويقول مغلطاي: (إنه لما شاع قبل ولادته: أن نبياً اسمه محمد، هذا إبان ظهوره، سمى جماعة أبناءهم محمداً، رجاء أن يكون هو، منهم محمد بن سفيان بن مجاشع الخ.. ثم عد جماعة من المسمين بهذا الاسم) (15). ولما دعا رسول الإسلام بعض المدنيين ـ قبل الهجرة ـ إلى الإسلام، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إن هذا الذي كانت اليهود يدعوننا به، أن يخرج في آخر الزمان، وكانت اليهود إذا كان بينهم شيء، قالوا: (إننا ننتظر نبياً يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وثمود، فنتبعه، ونظهر عليكم معه إلخ..) (16).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. راجع تاريخ الخميس ج1 ص290 وقاموس الرجال ج2 ص371 والبداية والنهاية ج3 ص73 و74.
2. تاريخ الخميس ج1 ص290 وراجع : البداية والنهاية ج3 ص73 و74.
3. البحار ج19 ص8 و 9 و 10 وإعلام الورى ص55.
4. القرآن الكريم: سورة النمل (27)، الآية: 14، الصفحة: 378.
5. القرآن الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 30، الصفحة: 407.
6. سفر التثنية ، الإصحاح 33 الفقرة 1.
7. معجم البلدان للحموي ج4 ص225.
8. سفر التكوين الإصحاح 17 الفقرة 8.
9. كما يفهم من مراجعة تاريخ حياته في كتب التاريخ؛ فراجع على سبيل المثال كتاب : قصص الأنبياء لطبارة.
10. إنجيل يوحنا الإصحاح الأول ، الفقرة 19 ـ 21.
11. راجع كتاب : أنيس الأعلام (فارسي) ، والرحلة المدرسية والهدى إلى دين المصطفى ، ورسول الإسلام في الكتب السماوية ، وغير ذلك.
12. القرآن الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 146، الصفحة: 23.
13. القرآن الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 157، الصفحة: 170.
14. البحار ج15 ص231 .
15. راجع : سيرة مغلطاي ص7.
16. الثقات ، لابن حبان ج1 ص90.
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
محمود حيدر
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ جعفر السبحاني
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
مسؤوليتنا في زمان صاحب الزمان
الغاية من طلب سليمان ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده
لكي لا نصبح أعداءً للإمام المهديّ!
(ملاك) الرّواية الثّانية لعبدالعظيم الضّامن
بالإيحاء.. كان الوجود كلّه (4)
العوامل المساعدة على انتصار الإسلام وانتشاره (2)
الاثنا عشريّة وأهل البيت عليهم السلام (2)
للطيور روابط اجتماعية كروابط الصداقة بين البشر
كيف تؤثّر أذواقنا الشّخصيّة في إبداعنا؟
الاثنا عشريّة وأهل البيت عليهم السلام (1)