مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

المراحل الثلاثة في رحلة الحج (1)

الرحلة الكادحة إلى الله

 

رحلة الإنسان إلى الله تعالى رحلة كادحة متعبة، تبدأ بـ - (الأنا والهوى) وتنتهي إلى لقاء الله... يتم للإنسان فيها التحكم على (الأنا والهوى) بشكل كامل، (ولا يقضي عليهما).

 

ولا يتمّ للإنسان هذه السيطرة والتحكم في (الأنا والهوى) إلّا بعد جهد شاق، وكدح عسير... (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً)، وهذا الكدح العسير هو في مواجهة (الأنا والأهواء) المغروستين في عمق النفس وفي مواجهة (الفتن) الموزعة على ساحة الحياة، وما بين (الأنا والهوى) من جانب، و (الفتن) من جانب آخر، من التجاذبات القويّة المهلكة للنفس.

 

وهذا هو معنى الابتلاء الذي جعله الله تعالى على طريق الإنسان إليه عزّ شأنه، ولا يرقى الإنسان إلى الله إلّا من خلال هذه الابتلاءات الصعبة، العسيرة الكادحة، والغاية في هذه الرحلة الكادحة هي لقاء الله (فَمُلاقِيهِ).

 

ولكن هذه الحركة الكادحة للتحرر من سلطان (الأنا) و (الهوى) و (المغريات والفتن) التي تعيق حركة الإنسان إلى الله، لا تتم إلّا من خلال الوسط الاجتماعي، والحشر في وسط الناس، وليس من خلال الاعتزال عن الناس بالحياة الرهبانية.

 

فقد جعل الله تعالى الطريق إليه، للتحرر من سلطان الأنا والهوى والمغريات التي تعيق حركة الإنسان إليه تعالى، من خلال حركة الجمهور المؤمن الراشد، وليس في الرهبانية والاعتزال والخلوات، كما يسلك الرهبان الطريق إلى الله، بالهروب عن الناس والفتن والمغريات والمثيرات، لتسهيل أمر الحركة إلى الله. «1» فهذه ثلاث نقاط جوهرية في الحركة إلى الله:

 

مجاهدة الأنا والأهواء، لغرض التحكم فيها، وليس لكبتها والقضاء عليها، والانتهاء إلى لقاء الله، وهو غاية هذا الطريق الصعب. ثم اختيار الوسط الاجتماعي ساحة للانطلاق إلى الله... وهذه هي النقطة الثالثة في هذه الحركة.

 

رحلة الحج

 

والحج صورة مصغرة رمزية لهذه الحركة الشاقة العسيرة إلى الله، واختزال لمراحل هذه الرحلة الشاقة، وهو ينطوي على هذه المراحل جميعاً، ويتدرج بالإنسان مرحلة مرحلة إلى الله، ويدرّب الإنسان، ويمكّنه من طي هذا الطريق الصعب، وكأنه دورة تدريبية للسلوك الشاق إلى الله... قد قطعها أبونا إبراهيم (ع) بأمر من الله من قبل، وجاء بعده أنبياء الله: ثم من بعدهم رسول الله وخاتم الأنبياء (ص) على نهجه ومسلكه بأمر من الله في سلوك هذه المراحل الرمزية إلى الله، ونحن نسلك هذا الطريق، ونأخذ بهديهم، ليعيننا الله تعالى على سلوك المراحل الشاقة الكادحة إلى لقائه عز وجل (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

 

وتبتدأ هذه الرحلة (الاختزالية) بالميقات، وتنتهي بطواف الوداع (المعروف بطواف النساء)، ونحن نشير إن شاء الله إلى المراحل الثلاثة التي يقطعها الحاج في هذه الرحلة النموذجية من الأنا والهوى إلى الله.

 

المرحلة الأولى: التحرر من الأنا والهوى

 

تبدأ هذه الرحلة من الميقات بتجاوز الذات والأنا، ومحاولة الانصهار في المسيرة الإيمانية إلى الله تعالى؛ وهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الإلهية.

 

ويصبّ الناس بعد تجرّدهم (الرمزي) من حالة (الأنانية) و (الأنا) في الحشد البشري الكبير في الطواف حول البيت، كما تصب السواقي والأنهر الصغيرة في البحر الكبير، فلا تستطيع أن تميّز بعد ذلك موقع هذه السواقي من البحر الكبير.

 

بداية هذه الرحلة (الميقات)، حيث يحاول الإنسان أن يتجرّد عن ذاته وأهوائه وخصائصه التي تميّزه عن الآخرين بالإحرام، وينصهر في المسيرة الإلهية الحاشدة، التي لا يتمايز فيها الأفراد.

 

في الميقات تتساقط هذه الحواجز، وينصهر الناس في الحشد الرباني العظيم المتدفق إلى المسجد الحرام، لا يتميز فيها العربي من الكردي والفارسي عن التركي، ولا يتميز فيها الغني عن الفقير.

 

إنّ الميقات حد فاصل بين (الأنا)، وبين الأُمّة المؤمنة.

 

وقبل أن يدخل الحاج الميقات يعيش كما يعيش سائر الناس متمايزين، منفصلين ، وللـ - (أنا) تمييز وتشخيص، وللـ - (أنا) تظاهر وبروز في حياتهم، وللـ - (أنا) سماته ومعالمه الواضحة في حياتهم، فإذا دخل الميقات تضاءل (الأنا)، وخفّ صراخه وصوته، وفقد جملة من معالمه ومميّزاته، وفقد لونه وصيغته الصارخة؛ وهذا الانقلاب في الشخصية ينبغي أن يتم في (الميقات)، ويرمز إلى هذا الانقلاب (لباس الإحرام)، وقد قلنا إنّ الحج يعبر عن المعاني والمفاهيم التي ينطوي عليها بلغة الرمز.

 

عند الميقات يتجرّد الحاج من كل ملابسه، وما تحمله ملابسه من سمات شخصية، وطبقية، وقومية، وإقليمية. إنّ لباس الإنسان يحمل هوية الإنسان، ويحمل الإشارة إلى شخصية الإنسان وانتمائه القومي، والإقليمي، والعشائري، وطبقته، ومهنته، ودرجته في الثراء والفقر، والمستوى الاجتماعي.

 

فإذا بلغ الحاج الميقات تجرّد عن ملابسه، ولبس ثياب الإحرام إزاراً ورداء... قطعتين من القماش، لم يستعمل فيهما الخيط كالآخرين، على نحو سواء، في غير بذخ، ولا ترف، ولا تمييز، وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته، وتعبر عن شخصيته؛ إنّ هذه الخطوة الأولى في الميقات تعبّر عن تجرّد الإنسان عن هويته، وشخصيته، وأنانيته، وعن عبور الذات وتجاوز (الأنا).

 

وكما يُجرّد الميّت عن ملابسه، لأنّ دور الأنا في حياته قد انتهى، ولم‌ يعد للأنا حجم ولا دور، لا شكل في المرحلة الجديدة من حياته، كذلك الميقات، يتجرد فيها الحاج عن هويته وذاتيته، وكأنّ الميقات مصفاة، وأول شيء تأخذه هذه المصفاة من الإنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا، وانسلخ عن ذاته أو حاول ذلك، حقَّ له أن يتجاوز الميقات إلى الحرم، وما لم يتخلّص الإنسان عن ذاته، فلا يتمكّن أن يواصل الرحلة إلى لقاء الله... فإذا خلص في هذه المصفاة من ثقل الذات اجتاز الميقات وتوجه إلى الحرم.

 

وإنّ أكثر ما يثير المتاعب في حياة الناس، ويعكّر العلاقة فيما بين الناس، هو التصادم والتخالف الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات عند الإنسان، وتنصهر، ويخلص الإنسان عن طغيان (الأنا) ينتهي شطر كبير من مشاكل الإنسان ولقاءاته السلبية مع الآخرين، وما يستتبعه من صدام، وتردي العلاقة، وحالة الإثرة، والأنانية، وحبّ الذات، فإذا خلصت حياته من سلطان الذات والأنا سلم الإنسان من هذه المشاكل والمتاعب التي تعج بها حياة الناس وتمكن من أن يضع حياته وعلاقاته الاجتماعية على أسس سليمة وأن يحكّم السلام في علاقاته مع الآخرين.

 

التجمّل والترف

 

وفي الميقات يخلص الإنسان من خصلة أخرى من خصال (الأنا)، وهي خصلة ممدوحة لو كانت في الحدود المعقولة التي لا تستأثر باهتمام الإنسان كله، ولا تملك إرادة الإنسان، ولا تَحْكُمها فإذا تحولت هذا الخصلة إلى خصلة حاكمة على إرادته كانت صفة ذميمة للإنسان.

 

وتلك هي خصلة التجمّل، فهي خصلة ممدوحة، في الحدود التي تظهر على الإنسان نعم الله تعالى وفضله، فإذا تحوّلت إلى خصلة من خصال الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا إبراز نعم الله تعالى، كانت من البطر والرئاء، وتحولت إلى صفة ذميمة تسلبه القدرة على تحمّل الشظف، وسلوك طريق ذات الشوكة، والإسلام لا يكافح هذه الخصلة، وإنما يعدّلها ويهذّبها.

 

وفي الميقات يدخل (الأنا) في هذه التصفية الإلهية، ويلزمه الإحرام بالتخلي في فترة الإحرام، من هذه الخصلة، ويحرّم عليه الطيب والتجمّل، حتى بالنسبة للنساء فيما يتجاوز الحد المألوف للمرأة في التجمّل ليتمكّن الإنسان في نفسه من هذه الخصلة التي تشكّل حالة تظاهر للأنا، وحالة ترف تؤثر تأثيراً سلبياً على إرادة الإنسان وقدرته في مواجهة متاعب الطريق، إذا لم يعمل على تعديل هذه الخصلة، وتهذيبها، وإرجاعها إلى نصابها الممدوح الذي يُقرّه الإسلام ويأمر به.

 

سلطان الهوى والشهوات

 

وفي الميقات يمرّ الإنسان بتصفية ثالثة، وهي تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات والغرائز، وهي مسألة في غاية الدقة في الإسلام، وقد قلنا تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات، ولم نقل من الهوى والشهوات، وبينهما فرق، وذلك لأنّ الإسلام لا يكافح الأهواء والشهوات في نفس الإنسان، وإنما يعتبرها ضرورة من ضرورات الحياة، ومن دونها تختل الحياة، وإنما الذي يكافحها الإسلام هو سلطان الهوى والشهوات على الإنسان وإرادته.

 

وليس الأهواء والشهوات في حد ذاتها مصدرَ للانحراف، والسقوط في حياة الإنسان، وإنّما الانحراف والسقوط يأتي من ناحية سلطان الهوى على إرادة الإنسان، فإذا تمكّنت الأهواء والشهوات من الإنسان، وخضع الإنسان لها عند ذلك فقط، يتمكن الشيطان من الإنسان، ويتعرض للسقوط والانحراف، ولذلك فإنّ المنهج الإسلامي في التربية يعمل على ترويض الأهواء وتطويعها لإرادة الإنسان، وتمكين الإرادة منها، دون أن يكافحها ويحاربها ويستأصلها ويصادرها.

 

و(الصوم) نموذج واضح لهذا المنهج التربوي، و(الميقات) هو الآخر يقع في هذا الخط التربوي، ففي الميقات يتعرّض الإنسان لتصفية واسعة في (الأنا) و (الهوى)، يمتص منها سلطان الأنا والهوى، ثم يسمح له بالدخول في رحاب ضيافة الله تعالى، بعد أن يجرده من هذه النزعة الحيوانية التي تطغى على تصرفاته وتحكم إرادته وفعله.

 

والهوى عندما يحكم الإنسان يتحول إلى مصدر للشرّ في علاقات الإنسان وحياته الاجتماعية، يسلب الأمن والسلام من حياة الناس، فليس ما بين الناس من خلاف، وصراع، وصدام، مصدره الاختلاف في الرأي غالباً، وإنما يعود السبب في نسبة كبيرة وواسعة من هذه الخلافات إلى عامل الهوى في العلاقات الاجتماعية.

 

وللإمام الخميني كلمة ذات دلالة عميقة فيما نقول؛ يقول: (لو أنّ مائة وأربعة وعشرين ألف نبي عاشوا في مكان واحد، لما اختلفوا فيما بينهم، لأنه لا سلطان للهوى في نفوسهم).

 

فالميقات نقطة تحول وانقلاب في حياة الإنسان وأهم ما في هذا الانقلاب هو العبور من (الأنا) و(الهوى) وخصالهما في حياة الإنسان، فإذا تجرد عن ذلك، كان مؤهلًا للدخول في رحاب ضيافة الله في الحج، ومن عجب أنّ المذاهب الفكرية المادية تؤكد عكس ذلك، على تعزيز الأنا وتثبيته، واعتماد عنصر الاعتداد بالنفس وتنمية حالة الغرور والعجب، بخلاف الإسلام الذي يضع منهجه التربوي على أصل مكافحة سلطان الأنا، وإضعافه، وتحجيمه، وتحويل الإنسان من محور سلطان الأنا إلى محور عبودية الله تعالى، وسلطانه في حياته، ويدعو الإنسان إلى التحلّل من هذا المحور، والارتباط بالمحور الرباني والانصهار فيه (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). «2» وهذه هي المرحلة والسمة الأولى من سمات الحج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا نرفض مطلقاً الخلوت السلوكيّه التي يختارها السالكون إلى الله تعالى - ولكنها - ليست المنهج العام في الإسلام للعبادة والتربية والتزكية والحياة الاجتماعية.

(2) الأنعام: 162

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد