مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

نحو تحوّل نوعي في العمل الثقافي... منطلقات ومبادئ مفيدة

مقصودنا من إيجاد تحوُّل ثقافي في أي مجتمع هو الارتقاء بثقافة هذا المجتمع من أجل تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات التي تنبثق من رؤيتنا الكونية الإسلامية.

 

الثقافة هي المحرّك الأساس لكل الأنشطة والسلوكيات. ورغم اختلاف الثقافات في العالم فإن منها ما هو راق ومنها ما هو أرقى. وكلما ارتقت الثقافة كانت السلوكيات المنبعثة منها أقوى وأكثر تأثيرًا على صعيد تحقُّق الاهداف.

 

تحتوي الثقافة على عناصر عديدة، وتتمظهر في شؤون الحياة المختلفة؛ لكن انعكاس ثقافة أي مجتمع يبرز في القيم السائدة فيه. ففي الواقع تكون القيم هي المحرّكات الأولى للأفعال والتوجهات.

 

هناك علاقة وطيدة بين المعتقدات أو الرؤى الكونية وبين القيم المنبثقة منها. فلكل رؤية كونية قيَمها أو منظومتها القيمية الخاصة.

 

إذا سادت منظومة قيمية متفوّقة وسامية، فسوف تكون الحركة العامة للمجتمع تقدّمية سريعة قادرة على تجاوز جميع العقبات وتحقيق الانتصارات في شتى الميادين.

 

لهذا، فإنّ أي سعي لإيجاد تحوّل ثقافي سيكون هدفه بالدرجة الأولى ترسيخ منظومة قيمية عليا؛ وذلك من خلال ترسيخ العقائد والأفكار التي تعكس الحقائق الكبرى في الوجود. فتعميق الرؤية يولّد القيم المتناسبة معها.

 

والعمل الثقافي بكل أساليبه يركّز على تغيير الأفكار وصناعة المعتقدات وترسيخ الإيمان بالحقائق حيث ستتجلى أولًا بتبنّي المجتمع للقيم التي تنبثق منها، ثمّ تنعكس في السلوكيات التي ترتقي بالمجتمع على طريق الكرامة والمجد والازدهار.

 

وباختصار، إنّ إيجاد تحوُّلٍ ايجابي في الأعمال الثقافية يستلزم العمل على الكشف عن الأفكار والمعتقدات المرتبطة بالحقائق الأساسية ثم تعميق الإيمان بها. وعندها سيكون التحوُّل القيمي ثمرة حتمية ونتيجة قطعية فيما لو وجد لنفسه الأرضية الاجتماعية المناسبة، وعلى رأسها توفُّر قيادة تعكس كل هذه الأفكار وتتبنّى مشروعها التقدمي.

 

يجب أن يقف على رأس الحراك الثقافي قيادة تؤمن بهذا التحوّل، وتقدر على تحمّل أعبائه، وتوجّه الطاقات الإبداعية لإعداد الخطط والبرامج التي تحقق الأهداف المنشودة.

 

يقوم المفكّرون بدور بارز في هذا المجال، وهو الكشف عن تلك الحقائق الكبرى وتعميق حضورها في الأذهان، حيث يصل الدور إلى الحراك الاجتماعي الذي يكون عنوانه الأبرز الجهاد في سبيل الله، لأنّ الحياة على الأرض كانت من أجل هذا الجهاد: {أَمْ حَسِبْتُمْ‏ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ}.‏[1] وهذا ما يؤدي إلى ترسيخ الإيمان بهذه الحقائق وتفعيل حضور القيم الإيجابية وترسيخها.

 

لدينا تراث فكري مهم، وإن كان يتطلب الكثير من الأعمال الفكرية والبحثية والتعليمية والتبليغيّة، حيث تبرز الحاجة يوميًّا إلى الربط بين الأفكار والواقع. وهذا ما يستدعي استخدام الفنون الجميلة. فالفكر المجرّد عن الواقع لا يُنتج رؤية وعقيدة، وبدون الفنون لا يصل إلى الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع.

 

القيادة الثقافية ترعى هذه العمليات وتؤلّف بين عناصرها وتنسّق بينها، حتى لا يحصل أي نوع من النزاع أو التضارب. فالفنون الجميلة ما لم تنطلق من رؤية كونيّة صحيحة تصبح سببًا للضلالة والغواية. والرؤى الكونية والمعتقدات ما لم تنبع من الحقائق الكبرى تتحوّل إلى مذاهب مضلّة. والفلاسفة ما لم ينزلوا إلى أرض الواقع، لن تنكشف لهم صوابية أفكارهم أو خطؤها.

 

إن القطيعة بين الفلسفة والفن كانت سببًا في انحسار دور الفلسفة وضياع بوصلة الفن، كما إنّ انكفاء الفلاسفة عن الواقع العملي وتحدياته وقضاياه أدى إلى ضعف الفكر وتراجع تأثير المفكرين.

 

إهمال الفن بكل أساليبه يفسح المجال للفنون الشيطانية أو الأعمال الفنية النابعة من الرؤى الكونية المادية والإلحادية وغيرها لتهيمن على أذهان الناس.

 

تتمتع الفلسفة الإسلامية بميزة كبرى لا توجد في الفلسفات الأخرى وهي أنّها تتربع على ثروات هائلة من المعارف التي أتى بها الوحي، وظهرت في القرآن وتراث أهل بيت العصمة. حيث لم يكن على الفلاسفة هنا سوى العمل على استخراج هذه الكنوز التي كثير منها جاهز ومصقول ولا يتطلب منهم إلا وضعها في مواضعها لبلورة معالم الرؤية الكونية الشاملة والعميقة.

 

إنّ دور فلاسفة الإسلام هو أقرب إلى عمل الحكيم منه إلى المنقّب والصائغ. فمع توفُّر هذه الحقائق الكبرى بلغة سهلة لا يبقى سوى العمل على ترتيبها وتنظيمها؛ وهذا ما يتطلّب فهمًا عميقًا لا يقدر عليه إلا الذهن الفلسفي الطاهر من الجدال الخفي.

 

تشابكَ دور الفيلسوف مع أدوار المحدّثين والمفسّرين الذين عملوا على تقديم التراث كما هو، فكان للفيلسوف الأفضلية لسببين:

 

الأول: تعامله مع التراث بعقلانية ومقاربته له وفق أصول محكمة.

 

الثاني: تقديمه للتراث وفق رؤية متكاملة منسجمة.

 

وهكذا بدأ بحث طلاب الحقائق عن الرؤى عند الفلاسفة دون سواهم. ثمّ جاء دور فلاسفة العرفان ليضيفوا إلى المنهج العقلاني إمكانات الكشف والشهود وقدراته التي استطاعت أن ترتقي بالرؤية الكونية درجات غير مسبوقة. فامتاز العرفان النظري بهذا المعنى على الفلسفة النظرية وتقدّم عليها.

 

وهكذا أضحى أمام المفكرين رؤية كونية غنية عابقة بالحقائق الكبرى التي تتيح لهم إنزالها وتطبيقها على وقائع الحياة وقضايا المجتمع ليرتقي تأثير الرؤية أضعافًا مضاعفة، فنقترب بذلك نحو إنتاج الفن الأصيل الملتزم.

 

وفي كل خطوة من هذه الخطوات كانت الموانع والعقبات تقف حجر عثرة وتمنع من اتّساع التأثير وامتداده وتحصره وتحاصره في أماكن ضيقة لتخنقه وتقضي عليه. وكانت أبرز هذه الموانع داخلية تنبع من العصبيات والجهل المركَّب والسياسات الجائرة، وتتشكّل بصورة مذاهب وفرق تستخدم الإرهاب والإرعاب.

 

لذلك وجب على المفكرين وأمثالهم أن يواجهوا ويجاهدوا ويقاسوا ويتحملوا كل أشكال الأذى. ولولا الغزو الخارجي الذي أضعف تلك المؤسسات الرسمية الراعية للإرهاب، لبقي وضع المسلمين على ما كان عليه لآلاف السنين. فقد شاءت القدرة الإلهية والحكمة الربانية أن يجرى التغيير من خلال فك بعض القيود عبر أعدائه.

 

لكنّ الأذهان التي كانت أسيرة تلك المعتقدات وحبيسة تلك المذاهب ورغم توفُّر نسبة من الحرية الجديدة، لم تتمكّن من التحرُّر المطلوب، فبقيت تساهم في تخلُّف المجتمع وضعفه عن مواجهة التحديات الكبرى.

 

وهكذا تطلب الأمر العمل على هذه الشريحة التي تقوقعت وعجزت عن فهم الزمان، فلم تتمكن من تطبيق الرؤية على الواقع، وأضحى المجتمع الذي وثق بهذه الشريحة الضحية الكبرى، بينما كان يصارع ويواجه تحديات وجودية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. سورة آل عمران، الآية 142.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد