(يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ).[1]
أنظر إلى أي مجتمع وأُحاول أن أعرفه وأفهمه فلا يمكنني أن أستغني عن قراءة تاريخه. وتاريخ أي مجتمع لا يتميز عن تاريخ مجتمعٍ آخر إلا بما تركه للأجيال اللاحقة، بل وللبشرية لتستفيد منه وتنتفع. يصبح تاريخ أي مجتمع أو ماضيه ذا قيمة فيما لو خلّف لنا ما نقدر على الاسترشاد به لأجل إصلاح حاضرنا والتقدُّم الحقيقي نحو مستقبلنا.
إنّ الأمر هنا يشبه تمامًا ما يتركه الآباء للأبناء، فإن لم يقدر الأبناء على تذكُّر حكمة واحدة من آبائهم، فكأنّ آباءهم ما كانوا وُجدوا على هذه الأرض. سريعًا سيتم نسيانهم ويصبحون في المنسيين كمن قد نُسي.
قدرة أي مجتمع على استجماع حكمة الأجداد وجعلها متاحة على نطاق المجتمع هي التي ستُبلور تميُّز هذا المجتمع وهو يمضي على طريق بناء ورسم معالم هويّته وترسيخها.. قد نخدع أنفسنا بدراسة آثار هذا المجتمع أو ذاك ما لم نجد في هذه الآثار ما يقدّم حكمة. الآثار الخالية من الحكمة والمعرفة المفيدة ليست سوى دليل على موت من كان هنا.
حين نتذكّر آباءنا ونحن نطأ الأرض أو البيوت التي ورثناها منهم ونترحّم عليهم، فنحن نؤكّد فناءهم. بقاء الماضين وخلودهم إنما يكون بما قدمّوه لنا وتركوه من علمٍ ينفع.
كثيرة هي العلوم التي تبقى لكنها مع ذلك لا تنفع. قد يكون بعضها نفع في زمانه، لكنّ العلم الحقيقي لا يموت؛ وهذا معنى خلود الحكمة. العلم النافع قد يكون نفعه بذاته أو لأنّه يمكن البناء عليه للوصول إلى علمٍ نافع. ولذلك يجب أن يكون العلم النافع سببًا لإضافة قيمة على الحياة. القيمة المضافة هنا هي التي إذا تراكمت أدت إلى اكتشاف الحقيقة المطلقة أو قمعت الجهل وقضت عليه.
ما دام الجهل يتكرر جيلًا بعد جيل فهذا يعني أنّ أبناء هذا المجتمع لم يسلكوا طريق الحكمة الخالدة. نسمّي هذا الأمر "العودة إلى نقطة الصفر". هنا تكمن المشكلة الكبرى في حياة المجتمعات والمؤسسات بل الأحزاب والمنظمات. حين لا تتمكّن هذه المؤسسات من مراكمة المعارف بالطريقة التي تجعلها أكثر حكمة وقدرة.
لماذا نسمع عن نهضة علمية في مجتمعٍ ما حدثت قبل مئات السنين، ثم نرى أن هذا المجتمع قد رجع إلى الجهل الأولي قبل نهضته تلك، وكأنّ عليه أن يبدأ من جديد؟! بكل بساطة يدل هذا على أنّ المجتمع لم يكن يراكم علمًا في واقعه وتجربته المعاشة. والعلم الذي لا يتراكم في الحياة هو العلم غير النافع حتمًا وإن حفظه المؤرخون.
العلم النافع يثبت في الأرض ويتجذر؛ وهو القيمة الوحيدة التي تبقى مع مرور السنين، اللهم إلا إذا حدث أمرٌ ما وتبدّل هذا المجتمع بأسره حتى لو بقي الاسم هو الاسم.
لماذا تأتي إلى قرية في بلدنا وتسمع أنّه كان فيها قبل مئات أو عشرات السنين شخصيات علميّة فذّة، ثمّ لا ترى فيها اليوم أيّ أثرٍ لهم في حياة أهلها؟!
لو كان هؤلاء يحملون علمًا نافعًا لورثه الناس وتناقلوه أكثر ممّا يتناقلون الثروات. الثروات تضيع لكن العلم النافع يرسخ لأنه ينحفظ في النفوس ويظهر في العمل والسلوك الاجتماعي والحضاري.
العلم النافع يكون سببًا للنضج، فلا يكرر الناضجون الأخطاء التي وقعوا فيها سابقًا أو ارتكبها أجدادهم من قبل. ولهذا، لا يفترق العلم النافع عن البيان الخالد ولا ينفك عنه؛ وهذا هو سر انحفاظه وحفظه وتناقله وانتقاله.. فعلى سبيل المثال، المعارف الزراعية المتوارثة أدّت إلى إتقان الزراعة بالطريقة التي لم يعد المزارعون بحاجة للبدء من الصفر (مع ملاحظات لا مجال لذكرها الآن). هذه المعارف هي خير مثال على ما نحن بصدده. فلأنّ قسمًا كبيرًا منها قد امتزج بالتجربة النافعة وكانت ثمارها مشهودة وملموسة، فقد تناقلها الناس جيلًا بعد جيل.
لهذا، يجب أن نعيد النظر وندقق كثيرًا فيما لدينا من "علوم" أو ما نعتبره علمًا ونعدّ صاحبه عالـمًا. ويجب على كل طالب علم أن يسأل نفسه ويقيّم علمه فيما إذا كان نافعًا حقًّا على مستوى سير المجتمع على طريق التقدُّم والارتقاء الحضاري. لكن حين يضيّع العالِم هذا المعنى ولا يُدرك العلاقة بين العلم والارتقاء الحضاري، فمن المستحيل أن يكتشف العلم النافع أو يميّزه.
للعلماء التقليديين عالمهم الخاص الذي فيه يتفاخرون وبه يشعرون بقيمة علومهم، لكن إن لم يكن علمهم عاملًا لهذا التقدُّم، فلن يُحشروا على صورة العلماء وإن حوسبوا كذلك.
العلم النافع يرتبط بذلك الرصيد المعرفي الذي يقدّم الحكمة اللازمة للنجاح في الحياة وفي إدارة المجتمع وهدايته واقتداره ونجاته وارتقائه حتى يكون خير الأمم. ولو فرضنا أنّ هذا الرصيد عبارة عن ألف حكمة، فإنّ العالِم النافع هو الذي يأتي ويساهم في ازدياد مجتمعه من هذا الرصيد. حين يبلغ المجتمع مثل هذا الرصيد وتترسّخ فيه ألف حكمة، عندها لن يكون هناك مجتمعٌ أقوى منه أو أفضل أو أرقى.
بلوغ المجتمع مثل هذه الحالة التي يتبادل فيها أبناؤه مثل هذه الحكمة المطلقة (ألف حكمة في مثالنا) ويتوارثونها يعني أنه قد وصل إلى معرفة جميع أسرار النجاح في شتى المجالات. هنا يكون العلماء أوتاد الأرض فلا يزول مجتمعهم الذي يقدّر علمهم ولا ينقرض، بل يسود. وحين يربط العالِم بين علمه النافع ونشره وتوريثه، فسوف يدرك أهمية البيان العابر للأجيال، بل العابر للطبقات والشرائح، وهذا هو البيان الجامع الذي يُسمّى الكلام الجامع الذي لا تزيده الأعوام إلا غضاضة.
الذين يساهمون في بناء وصناعة مثل هذه الشخصيات هم للمجتمع كالجبال للأرض. الجبال تمنع الأرض من أن تميد بأهلها، والعلماء الذين يزيدون المجتمع حكمة وقدرة يحفظونه ويرتقون به فلا يرجع ولا يتخلف عن ركب الحضارة الحقيقية.
ما هي المعارف الموجودة بين أيدينا والتي تبني مثل هذه الشخصيات؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. نهج البلاغة، ص 496-497.
حيدر حب الله
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي المشكيني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
كيف يكون الله حاضراً في حياتنا؟
﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَهُ﴾
فائدة البحث في المكّي والمدني من السور القرآنية
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (4)
ناصر الوسمي في نادي روافد الأدبي: ما لم تقله العتبات
المبدعون أوتاد الله في أرضه
آليات في الدماغ تميّز بين الواقع والخيال
الإيثار، عنوان الحلقة الجديدة من برنامج (قصّة اليوم) لسينما قروب
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (3)
في مفهوم ولطائف آية: (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)