لا شيء يحرّر الإنسان مثل الحقيقة. لكن جميع حقائق العالم لا قيمة لها إن لم يعرف المرء حقيقة نفسه. وإنّما يبتعد الإنسان عن هذه الحقيقة حين يغفل عن نفسه.. لهذا قيل إنّ اليقظة والانتباه هما مفتاح معرفة النفس.
لكي نستيقظ، قد نحتاج إلى تصوّر الاحتمالات التي يمكن أن نكون عليها، وتصوّر ما يمكن أن ينجم عن ذلك في النهاية. ولهذا، كان الاعتقاد بالمصير الأبدي والتوجّه إليه واستحضاره عنصر اليقظة الأوّل.
إن لم يكن لنفوسنا من غاية تبلغها، فلا أهمية لمعرفة حقيقتها وما هي عليه.. فما نفع أن نعرف شيئًا يزول ويفنى عمّا قريب؟! ولهذا، اقترنت الغفلة عن الذات بالعبثية والإباحية دومًا.
إنّ إدراكنا لما يمكن أن نصير إليه في النهاية، يضعنا أمام مجموعة واسعة من الاحتمالات المهمة التي تدفعنا نحو التوغّل في أعماق النفس، تحرّقًا لمعرفة ما سنؤول إليه. وحينها، ينبعث الهاجس الكبير لمعرفة أنفسنا حقًّا. وسوف يتساءل المرء إن كان اليوم هو نفسه ما سيكون عليه في الغد والمصير.
والعنصر الأوّل في تحديد ذلك يكمن في الحبّ أو فيما نحب. فالحبّ هو المركب الذي يسير بنا إلى الغاية؛ وفيه يكون المحبوب هو تلك الغاية حقًّا.. وقد ذُكر في أحاديث أهل الحكمة والعرفان أنّ المرء لو أحبّ حجرًا لحشر معه.[1] والمرء مع من أحبّ يوم القيامة.
أكثر الحب المنتشر بين البشر يرجع إلى حبّ النفس؛ ولهذا، فإنّهم يدورون في دوامة لا تنتهي إلّا أن يخرجوا من أنانيتهم. وصحيح أنّ حب النفس لا بد أن يتمثّل بشيء ما، لأنّ النفس بما هي هي ليست بشيء حتى تكون متعلّق القلب ومورد الحب. ولكن أكثر الأشياء التي تتعلّق بها النفوس لن يكون لها موقع في نهاية السفر. فإن كنت تشعر من حين إلى آخر بفراغ كبير في نفسك وكأنّ باطنك قعر لا قرار له، فهذا لأنّ قلبك قد تعلّق بالزائل الفاني. وكل زائل هو في الحال لا شيء، وإن كنت تراه غير ذلك.
إنّ الكثير من محبوبات هذا العالم لا تزيد قلوبنا إلّا فراغًا وهي الأفئدة التي قال الله تعالى عنها {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواء}.[2] فما هو الكمال الذي يمثّله هذا المحبوب في الحقيقة؟ وهل هو مجرد ظاهر جميل لشيء فارغ أو قبيح؟
أجل، هناك حبّ يسمو بالإنسان ويرتقي به من حب النفس، ويخرجه من ذاته، ويعتقه من أنانيته؛ وهو الحبّ الذي يتعلّق بمحبوب بلغ من الكمال ما لا يوجد له أيّ تجسد أو مثيل في كل العوالم السافلة والمتوسطة (التي لا تكون غاية السفر ونهاية السير).. وهذا المحبوب هو الذي أشير إليه كهدف أعلى وغاية قصوى ومقرّ أبدي، كما في قوله تعالى {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّة * فَادْخُلي في عِبادي * وَادْخُلي جَنَّتي}..[3] فهؤلاء العباد الذين نسبهم الله إلى نفسه هم المثوى والمرجع الأعلى لسفر النفس المطمئنة، لأنّ كمالاتهم ليست من كمالات العوالم الزائلة.
بدون حبّ لا يوجد سير ولا صيرورة. وخير للمرء في مثل هذه الحالة أن يكون حجرًا أو حديدًا.
حين نحبّ، فهذا يعني أنّنا أصبحنا بشرًا مستعدّين لنتجوهر ولنتصوّر بالصور المناسبة التي تشاكل المحبوب. وهذا يعني أنّنا بدأنا مسيرة التحوّل ودخلنا في قافلة السائرين. وعلينا بعد ذلك أن نحدّد هدف سيرنا وسلوكنا، فنختار المحبوب الذي يحسن أن نكون على شاكلته في نهاية المطاف.
فبالإضافة إلى التأكّد من أنّنا نحبّ ونعشق (أي نسير ونتحرّك)، ينبغي أن نتأكّد من ماهية المحبوب الذي تعلّقت قلوبنا به. فلا أحد يتمنى أن يحشر بصورة حطب أو حصب جهنم أو وقودها وحجارتها. لكن الكثير من الناس سيكونون كذلك؛ وليس بعيدًا أن نكون منهم. فالغفلة عن هذا الأمر المهم غالبًا ما تؤدي إلى مثل هذه العواقب الوخيمة.
إن كنت تحب عباد الله، الذين يحقّ لك نسبتهم إليه، فأبشر؛ لأّن قلبك قد تعلّق بالمحل الأعلى. وما عليك بعدها إلّا أن تحافظ على هذا الحب وتصونه، إن أردت حسن العاقبة، وأن تزيد من لهيبه إن كنت تحب اللحاق سريعًا.
والحب، بمقدار ما هو أمر حضوري يسهل إدراكه، فهو محفوف بآلاف الأمور التي يمكن أن تظهره بغير حقيقته. وكلّما كنت إلى أفق الحب أقرب، كان إدراك حقيقة الحبّ والمحبوب عليك أسهل وأيسر. ومعنى ذلك أن تكون ممن يأنس بالحب ويعلي شأنه، ويعتمد عليه، ويفتخر به، فلا يرى لأيّ شيء آخر عليه فضلًا مهما كان أمرًا حسنًا أو عظيمًا.
المحب لا يعتد بشيء مقابل الحب مهما بلغ هذا الشيء. لأنّ الحب هو أروع وأصفى عطايا الله تعالى ومننه، وهو أظهر ما في العنايات الإلهية من حيث حضور الله. ولهذا يقال أنّ الله إذا أراد بعبد خيرًا وأحبّ أن يجعله من أهل السابقة الحسنى الذين قال عنهم في كتابه المجيد {إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى}،[4] فإنّه يلقي في قلبه الحبّ أولًا، ثم يجعل أعماله وقرباته تجلّيات حبّه.
تصوّر المشهد من جانب الربّ المتعال؛ فلو كان الله القادر المتعال يريد بعبد من عباده خيرًا وتفضيلًا وإكرامًا فلماذا لا يسهّل عليه سبل الوصول إليه؛ وهل هناك ما هو أسهل من جذبه إلى مقام قربه؟!
فعظماء العالم من أهل الله وأوليائه هم المجذوبون الذين سلكوا بالحب طرق الرب وكان العشق وقود مراكبهم، فقطعوا أودية السير والوصال وهم مع الله تعالى.
والخبر المفرح هو أنّنا جميعًا في معرض هذه الجاذبة الإلهية؛ وما علينا إلّا أن نزيل عن قلوبنا كل ما يمنع وصول هذه الجاذبة. وحين نعجز عن ذلك، علينا أن نبكي ونتضرع بين يدي الله، معترفين بعجزنا هذا؛ لأنّ إدراك العجز كما قيل نار تحرق كل أكوام التعلقات بما سوى المحبوب الأوحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. "يَا عَلِيُّ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحَبَ فِي اللَّهِ حَجَرًا لَحَشَرَهُ اللَّهُ مَعَه". [بحار الأنوار، ج36، ص 335]
[2]. سورة إبراهيم، الآية 43.
[3]. سورة الفجر، الآيات 27 - 30.
[4]. سورة الأنبياء، الآية 101.
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
السيد عباس نور الدين
الفيض الكاشاني
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
حيدر حب الله
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي المشكيني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
تأثير الوحي في السماء والأرض
حين يحدّد الحبّ حقيقتنا
الخضوع الكوني لله تعالى
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (5)
توقيت القيلولة النّهاريّة ومدّتها عامِلا تنبُّؤٍ باحتمال وفاة كبار السّنّ
ثبوت واقعة الغدير من منظور تاريخي وعلمي (1)
أفضل توزيع للخيرات في العام!
كيف يكون الله حاضراً في حياتنا؟
﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَهُ﴾
فائدة البحث في المكّي والمدني من السور القرآنية