لنا أن نسأل هنا: هل للعلم دورٌ في تحضير الهيرويين أم لا؟ نعم، للعلم دورٌ في ذلك، لكن ليس العلم بحقيقته المجرّدة صنع ذلك، بل الرّغبات الشهوانيّة الشيطانيّة هي الّتي صنعته؛ لأنّ العلم كالمصباح بيد الإنسان، أين ما أخذه أضاء له ذلك الحيّز الّذي اصطحب معه المصباح إليه. فالمُهمّ هنا هو هدف حامل المصباح وغايته. فمثلًا، صيدلانيٌّ ما حائزٌ على شهادة عالية، في حين يكون دخله الشهريّ ثلاثة أو أربعة آلاف تومانًا، فهل يمكننا هنا عدّ الهيرويين السامّ نتاج التطوّر الزمني والتقدّم العلمي في هذا القرن، ونقرّ به، ونتعاطاه على أنّه من متطلّبات العصر!؟
إذًا، العلم المطلوب هو العلم النافع المفيد للبشريّة، والّذي يكون بيد العناصر الخيّرة في المجتمع. وما أعظم القرآن حين يذكر استعدادَيْن عند الإنسان في آنٍ واحد، أي متحدَّيْن معًا وهما: استعداده للإبداع، وقد تمثّل في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ..﴾[1]، واستعداده للظلم وقد تجسّد في قوله تبارك اسمه: ﴿.. إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُوما جَهُولا﴾[2]، فهما لا ينفصلان عن بعضهما بعضًا. أيّ إنّ وجود الاستعداد للظلم قد جعل الإبداع البشري في خدمة توجهه، والنتيجة هي عندما تصبّ قابلية الإبداع في خدمة النزوات الشخصيّة الشهوانيّة، فمن الطبيعي أن يكون هناك أفلام مدمّرة هدّامة، ويكون هناك هيرويين.
نظرة الإسلام للتطوّر الإنسانيّ
إذًا، نفهم من هذا كلّه أنّ الإنسان كما يمكنه أن يتقدّم ويتطوّر، كذلك يمكن أن ينحرف، ولقد أخبرنا معلّمو الأخلاق منذ أقدم العصور بهذا الأمر، إذ ذكروا أنّ وجود العلم عند الإنسان لا يدلّ على أنّه سيجعله في خدمة البشريّة، إذ يمكن أن يكون هناك عالم لكن يسخّر علمه في خدمة شهوته.
يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): "... ها إنّ ها هنا لعلمًا جمًّا (وأشار بيده إلى صدره) لو أصبتُ له حَمَلَةً! بلى أصبتُ لقنًا غير مأمونٍ عليه، مستعملًا آلة الدين للدّنيا، ومستظهرًا بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقادًا لحملة الحقّ، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك! أو منهومًا باللذّة، سلس القياد للشهوة، أو مُغرمًا بالجمع والادّخار"[3].
ويقول الشاعر "سنائي": "يجب أن تخشى من علم تتعلّمه لأجل الحرص والطمع؛ لأن مثلك في ذلك مثل السارق الّذي يدخل دارًا ليلًا وبيده مصباح، فإنّه ينتقي أفضل الأثاث وأحسنه".
وهذا الكلام صحيح جدّاً، إذ لا يكفي أن يدّعي الإنسان بالعلم ويعمل ما يشاء حتى يقول القائل: "إن كلّ ما يعمله صحيح". كلّا بل علينا أن نتعرّف إلى حقيقة العلم الّذي يحمله هل هو علم حرّ أو أسير؟ وهل يسخّر الإنسان علمه في الطريق الّتي يستصوبها عقله أو في طريق آخر، وعلى حدّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام: "مستعملًا آلة الدين للدنيا"[4].
هذا فيما يخصّ فردًا واحدًا، فكيف بالمجتمع الّذي يعمل جمع من العلماء على تطويره وتقدّمه، وجمع آخر من الناس المستغلّين يتحيّنون الفرص لاستغلاله؟
إذًا، هذا معيار يمكن أن نحصل عليه لنحكم على التطوّرات الّتي تطرأ في كلّ عصر، أيّ منها تطوّرات مفيدة نافعة، وأيّ منها مضرّة ورديئة. وفي التطوّرات الّتي تصبّ في خدمة النزوات الشخصيّة المغرضة، لا ينبغي مجاراتها على أنّها من متطلّبات العصر؛ لأنّ هذه المجاراة تعني السقوط والتردّي.
ولمّا قلتم إنّ هذا العصر هو عصر العلم. فنقول: نعم، إنّه عصر العلم، ولكن هل العلم وحده؟ وهل نضبت مناهل الوجود الإنسانيّ الأخرى ليبقى العلم وحده؟ وهل يكفي أن يكون الإنسان عالمًا فقط؟ ألم تكن عند هذا الإنسان طاقات أخرى؟
ومن الملفت للنظر أنّه لم يسترق العلم في عصر من العصور كما استرق في عصرنا هذا، لذلك لا ينبغي أن نطلق على هذا العصر "عصر العلم"، بل عصر استرقاق العلم، وعصر أسر العلم، أي لم يترك العلم حُرًّا كما هو، ولم يطلق له العنان أن يؤدّي دوره المطلوب في خير البشرية ونفعها، كما كان في الأعصار المنصرمة، فقد كان أكثر انطلاقًا. ولم تمرّ عليه فترة لقي فيها من التعاسة والاستغلال والتكبيل، كما لقي في واقعنا المعاصر هذا.
ولو تابعتم الأحداث لوجدتم أنّه بمجرّد ظهور عالم حاذق في حقل من الحقول كحقل الاختراع مثلًا أو علم النفس، فإنّ القوى السياسيّة المتسلّطة تبادر فورًا إلى كسبه ووضعه تحت تصرفها، مطالبةً إيّاه أن يسخّر علمه في خدمة أهدافها وتوجّهاتها. ولا حيلة له عندئذٍ، ولعلّ أفضل مثال على ذلك هم "علماء الذرّة" الّذين هم أتعس حظًّا من الآخرين في عالم اليوم. ففي كلّ مكان يبرز فيه عالم ذرّي من الطراز الأوّل، فإنّ تلك القوى المتمكّنة تبادر إلى اعتقاله ليضع علمه تحت تصرّفها لئلّا يطّلع على ذلك الأعداء. وتنظّم تلك القوى برنامجًا معيّنًا وتطلب من ذلك العالم أن يعمل في ضوئه وليس له أن يخرج عليه أو يحيد عنه، بل ليس له حقّ الحياة دونه مع العلم أنّ العلماء من الطراز الأوّل حيثما وجدوا فإنّهم يعلمون أسرارًا من العلوم الطبيعيّة لا يعلمها غيرهم.
إذاً أيّ عصر علم هذا؟ نعم، قد نعبّر عنه أنّه عصر العلم، ولكن ليس عصر حريّة العلم، بل استرقاق العلم وأسره. إنّه عصر سيطرة قوى أخرى غير قوّة العلم على مقرّرات الشعوب ومصائرها، وكذلك استغلال تلك القوى لقابليات العلماء كوسيلة لتحقيق أهدافها.
ولو قلنا عندئذٍ: إنّنا لا ينبغي أن نساير متطلّبات العصر وتطوّراته بشكل تامّ مطلق، فإنّ هذا لا يعني تعارضًا مع العلم والتطوّر. وإنّما يعني إقرارًا بالواقع حيث إنّ سبب ما ذكرنا هو أنّا نعلم أنّه لم يحن إلى حدّ الآن عصر يكون العلم فيه حُرًّا أو العقل حُرًّا، أو تكون للاثنَيْن سيطرة على شهوات الناس وحبّهم للجاه والشهرة. وبعبارة أخرى، لم يأت عصر يكون فيه "أينشتاين" حاكمًا و"روزفلت" محكومًا، بل العكس هو الصحيح. ولـ"أفلاطون" نظرية معروفة هي نظرية "المدينة الفاضلة"، حيث يقول فيها: "إنّ العالم لا يرى السعادة إلّا في زمان يكون فيه الحكماء حُكّامًا، والحكّام حكماء، أمّا إذا كان الحكماء شريحة، والحكّام شريحة أخرى فلا يرى سعادة أبدًا".
ونعتقد نحن المسلمين ولا سيّما أتباع أهل البيت (عليهم السلام) أنّ عصر السعادة الحقيقيّة للبشريّة هو عصر ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، وهو عصر العدالة بكلّ ما للكلمة من معنى. وهو العصر نفسه الذي تكون أوّل ميزاته تحكم العقل لا الهوى في الميادين المختلفة، وكذلك هو عصر تكون للعلم فيه منزلته الخاصّة به، حيث لن يكون مسترقًا مكبّلًا، ولا بدّ أن يكون كذلك. ويعبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عنه بأنّه عصر يرتشف فيه الناس كأس العلم والمعرفة، حيث يقول (عليه السلام): "ويُغْبَقون كأس الحكمة بعد الصَّبوح"[5].
وورد في الكافي أنّ في عصر الظهور، يضع المهدي يده على رؤوس الناس فتزداد عقولهم[6].
وأودّ أن أحيطكم علمًا، أنّي قد لا أكون قد حقّقت مرادي في شرح هذا الموضوع وبيانه، ولكن كونوا على علم أنّه من الخطأ بمكان أن نعبّر عن هذا العصر بأنّه عصر العلم، أو عصر العقل، أو عصر الفكر؛ لأنّه لا حرية للعقل والفكر والعلم فيه، حيث العالم ما زال عالم الشهوات، وحبّ الجاه والظهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] القرآن الكريم، سورة الأحزاب، الآية:72.
[2] نفس المصدر.
[3] السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، قم، دار الهجرة، 1414هـ، ط 1، ص496، من كلام له لكميل بن زياد في العلم.
[4] م، ن، ص 496.
[5] السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، ص 208، الخطبة 150. يُغبقون: يُسقون بالمساء. الصّبوح: ما يُشرب وقت الصباح.
[6] "إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَلَى رُءُوسِ الْعِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وَ كَمَلَتْ بِهِ أَحْلَامُهُمْ"، الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1407هـ، ط 4، ج1، ص25، باب العقل والجهل، ح21.
الشيخ مرتضى الباشا
محمود حيدر
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
الشهيد مرتضى مطهري
السيد جعفر مرتضى
حيدر حب الله
الشيخ شفيق جرادي
السيد عادل العلوي
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (4)
﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ..﴾ مناقشة في الإطلاق (3)
سبب عدم قدرة المصابين بالسّكتات الدّماغيّة على القراءة
كيف يكون العلم طريقًا للسّعادة؟
أربعة كتب جديدة لعبدالعزيز آل زايد
أمسية لصدى القصّة المصريّة لمناقشة مجموعة القاصّ ناصر الجاسم: (دم الغّزلان)
جائزة (فيليب جونسون) للمهندس محمد أبوفور كأوّل مهندس عربيّ يفوز بها
الرضا (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون
﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ..﴾ مناقشة في الإطلاق (2)