الشيخ المفيد ..
قال أبو جعفر [ في الجدال ] : الجدال في الله منهي عنه، لأنه يؤدي إلى ما لا يليق به(1).
وروي عن الصادق ( عليه السلام )(2) أنه قال: يهلك أهل الكلام وينجو المسلمون(3).
قال أبو عبد الله الشيخ المفيد - رحمه الله : الجدال على ضربين: أحدهما بالحق، والآخر بالباطل، فالحق منه مأمور به ومرغب فيه، والباطل منه منهي عنه ومزجور عن استعماله.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فأمر بجدال المخالفين وهو الحجاج لهم، إذ كان جدال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقًّا، وقال تعالى لكافة المسلمين: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] فأطلق لهم جدال أهل الكتاب بالحسن(4)، ونهاهم عن جدالهم بالقبيح.
وحكى سبحانه عن قوم نوح - عليه السلام - ما قالوه في جدالهم فقال سبحانه: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] فلو كان الجدال كله باطلاً لما أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) به، ولا استعمله الأنبياء - عليهم السلام - من قبله، ولا أذن للمسلمين فيه.
فأما الجدال بالباطل فقد بين الله تبارك وتعالى عنه في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69] فذم المجادلين في [ آيات الله ] لدفعها أو قدحها وإيقاع الشبهة في حقها.
وقد ذكر الله تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - أنه حاج كافرًا في الله تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] الآية. وقال مخبرًا عن حجاجه قومه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] وقال سبحانه آمرًا لنبيه صلى الله على وآله وسلم بمحاجة مخالفيه: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } [الأنعام: 148].
وقال - عز اسمه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [آل عمران: 93] الآية. وقال لنبيه (صلى الله على وآله وسلم) : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [آل عمران: 61] الآية. وما زالت الأئمة - عليهم السلام - يناظرون في دين الله سبحانه ويحتجون على أعداء الله تعالى.
وكان شيوخ أصحابهم في كل عصر يستعملون النظر، ويعتمدون الحجاج ويجادلون بالحق، ويدمغون(5) الباطل بالحجج والبراهين، وكان الأئمة - عليهم السلام - يحمدونهم على ذلك ويمدحونهم ويثنون عليهم بفضل.
وقد ذكر الكليني - رحمه الله - في كتاب الكافي - وهو من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة - حديث يونس بن يعقوب مع أبي عبد الله - عليه السلام - حين ورد عليه الشامي لمناظرته، فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: (وددت أنك يا يونس كنت تحسن الكلام).
فقال له يونس: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأهل الكلام، يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله.
فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: (إنما قلت ويل لهم إذا تركوا قولي وصاروا إلى خلافه) ثم دعا حمران بن أعين ومحمد بن الطيار(6)، وهشام بن سالم وقيس الماصر فتكلموا بحضرته، وتكلم هشام بعدهم فأثنى عليه ومدحه وقال له : (مثلك من يكلم الناس)، وقال - عليه السلام - وقد بلغه موت الطيار: (رحم الله الطيار ولقاه نضرة وسرورًا، فلقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت)(7).
وقال أبو الحسن موسى بن جعفر - عليه السلام - لمحمد بن حكيم.: (كلم الناس وبين لهم الحق الذي أنت عليه، وبين لهم الضلالة التي هم عليها).
وقال أبو عبد الله - عليه السلام - لبعض أصحابنا : (حاجوا الناس بكلامي، فإن حجوكم فأنا المحجوج) وقال لهشام بن الحكم وقد سأله عن أسماء الله تعالى واشتقاقها فأجابه عن ذلك، ثم قال له بعد الجواب: (أفهمت يا هشام فهمًا تدفع به أعداءنا الملحدين في دين الله وتبطل شبهاتهم)؟ فقال هشام: نعم، فقال له: (وفقك الله).
وقال - عليه السلام - لطائفة من أصحابه: (بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه، وبينوا لهم [ضلالهم الذي هم عليه ] وباهلوهم في علي بن أبي طالب - عليه السلام -) فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه.
وروي عنه - عليه السلام - أنه نهى رجلاً عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلانًا عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال: (هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه) فثبت أن نهي الصادقين - عليهم السلام - عن الكلام إنما كان لطائفة بعينها لا تحسنه ولا تهتدي إلى طرقه وكان الكلام يفسدها، والأمر لطائفة أخرى به، لأنها تحسنه وتعرف طرقه وسبله.
فأما النهي عن الكلام في الله - عز وجل - فإنما يختص بالنهي عن الكلام في تشبيهه بخلقه وتجويره في حكمه.
وأما الكلام في توحيده ونفي التشبيه عنه والتنزيه له والتقديس، فمأمور به ومرغب فيه، وقد جاءت بذلك آثار كثيرة وأخبار متظافرة، وأثبت في كتابي (الأركان في دعائم الدين) منها جملة كافية، وفي كتابي (الكامل في علوم الدين) منها بابًا استوفيت القول في معانيه وفي (عقود الدين) جملة منها، من اعتمدها أغنت عما سواها، والمتعاطي لإبطال النظر شاهد على نفسه بضعف الرأي، وموضح عن قصوره عن المعرفة ونزوله عن مراتب المستبصرين، والنظر غير المناظرة، وقد يصح النهي عن المناظرة للتقية(8) وغير ذلك، ولا يصح النهي عن النظر لأن في العدول عنه المصير إلى التقليد والتقليد مذموم باتفاق العلماء ونص القرآن والسنة.
قال الله تعالى ذاكرا لمقلدة من الكفار وذامًّا لهم على تقليدهم: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23، 24]
وقال الصادق - عليه السلام -: (من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل)(9).
وقال - عليه السلام -: (إياكم والتقليد، فإنه من قلد في دينه هلك) إن الله تعالى يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] فلا(10) والله ما صلوا لهم ولا صاموا، ولكنهم أحلوا لهم حرامًا، وحرموا عليهم - حلالًا، فقلدوهم في ذلك، فعبدوهم وهم لا يشعرون).
وقال - عليه السلام -: (من أجاب ناطقًا فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله تعالى فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان).
ولو كان التقليد صحيحًا والنظر باطلًا لم يكن التقليد لطائفه أولى من التقليد لأخرى، وكان كل ضال بالتقليد معذورًا ، وكل مقلد لمبدع غير موزور، وهذا ما لا يقوله أحد، فعلم بما ذكرناه أن النظر هو الحق والمناظرة بالحق صحيحة، وأن الأخبار التي رواها أبو جعفر - رحمه الله - وجوهها ما ذكرناه، وليس الأمر في معانيها على ما تخيله فيها، والله ولي التوفيق.
______________
(1) الاعتقادات ص 42.
(2) بصائر الدرجات: 521.
(3) بصائر الدرجات: 541 / 4 و 5، التوحيد: 458 / 22.
(4) في بقية النسخ: بالحق.
(5) في بعض النسخ: يدفعون.
(6) انظر ذيل كتاب (أوائل ا لمقالات - ص 69 - 70 طبع 1371) بقلم العلامة الزنجاني. چ.
(7) بحار الأنوار 2: 136.
(8) في بعض النسخ: لتقية.
(9) بحار الأنوار 2: 105.
(10) في بقية النسخ: ولا.
المصدر : تصحيح إعتقادات الإمامية
الشيخ محمد الريشهري
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد باقر الحكيم
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
لقمان الحكيم (1)
خطأ التفسير الميكانيكي للكون وقرود شكسبير
الانتظار والصراع بين المستضعفين والمستكبرين
أهمية الصورة الفنية
الغيب والشهود
أبعاد التغيير في مجتمع الجزيرة العربية (2)
عواقب لتخليق (الحياة المرآتية) على الحياة والأرض في المستقبل
أذى أهل الطائف لرسول الله
النفاق في صدر الإسلام
الوجود واحد وبسيط