مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر (1)

منابع القدرة والقوّة في حضارة الإسلام:

للوقوف على حقيقة المميّزات والقدرات الهائلة الّتي يتمتّع بها الإسلام العظيم، سوف نستعرض ذلك من خلال مبحثين:

الأوّل: التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة.

الثاني: التركيب العقائديّ والنفسيّ للفرد المسلم المعاصر.

المبحث الأوّل ـ التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة:

إنّ كلّ مسيرة واعية لها هدف، وإنّ كلّ حركة حضاريّة لها غاية تتّجه نحو تحقيقها، بالتّالي كلّ من المسيرة والحركة الهادفتين يستمدّان وقودهما، وزخمهما، واندفاعهما من الهدف الّذي يسيران نحوه، ويتحرّكان إلى تحقيقه. ولكن قد تتحوّل هذه الحركة أو المسيرة إلى سكون وتوقّف حينما يُستنفد الهدف، فعلى سبيل المثال: عندما يقوم فرد ما بالسعي الجدّي في سبيل الحصول على درجة علميّة وشهادة معيّنة ـ كهدف ـ فإنّنا نُلاحظ أنّ الجذوة تظلّ متّقدة في نفسه وتدفعه باستمرار نحو تحقيق الهدف الّذي يسعى للحصول عليه، حتّى إذا أنجز ذلك انطفأت الجذوة، وانتهى التحرُّك، وفقد أيّ مبرّر للبقاء ما لم يبرز هدف جديد. والشيء نفسه يصدق على المجتمعات، فإنّها كلّما تبنّت في تحرُّكها الحضاريّ هدفاً أكبر استطاعت أن تواصل السير، وتعيش جذوة الهدف شوطاً أطول، وكلّما كان الهدف محدوداً كانت الحركة محدودة، واستنفد التطوّر والإبداع قدرته على الاستمرار بعد تحقّق الهدف المحدود.

ومن هنا واجهت الفلسفة الماركسيّة القائمة على أساس (المادّيّة التأريخيّة)، مشكلة فيما يتّصل بتصوّراتها الفلسفيّة عن مسار التطوّر البشريّ التأريخيّ وفقاً لقوانين الجدليّة الديالكتيكية، وهي ـ أي المشكلة ـ أنّ الهدف اللاواعي الّذي تفترضه الماركسيّة لحركة التأريخ ومسيرة الإنسان هو إزالة العوائق الاجتماعيّة عن نمو القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، وذلك بالقضاء على الملكيّة الخاصة وإقامة المجتمع الشيوعيّ، فإذا كان هذا هو هدف المسيرة، فهذا يعني أنّها ستتوقّف، وأنّ تطوّر وإبداع الطاقة الإنسانيّة سيجمد في اللحظة الّتي يقوم فيها المجتمع الشيوعيّ، بالنتيجة تتوقّف حركة التأريخ البشريّ ومسيرته ككلّ.

والحقيقة أنّ الهدف الوحيد الّذي يضمن للتحرُّك الحضاريّ للإنسان أن يواصل سيره، وجذوته باستمرار، هو الهدف الّذي يقترب منه الإنسان باستمرار، ويكتشف فيه كلّما اقترب منه آفاقاً جديدة وامتدادات غير منظورة تزيد الجذوة اتقاداً، والحركة نشاطاً، والتطوّر إبداعاً.

وهنا يأتي دور الدولة الإسلاميّة لتضع الله عزَّ وجلَّ هدفاً للمسيرة الإنسانيّة الصالحة، وتطرح صفات الله وأخلاقه كمعالِم لهذا الهدف الكبير. وبالتّالي كلّما اقتربت المسيرة الإنسانيّة وحركتها خطوة نحو هذا الهدف، وحقّقت شيئاً منه انفتحت أمامها آفاق أرحب، وازدادت عزيمة لمواصلة الطريق، لأن الإنسان المحدود لا يُمكن أن يصل إلى هدفه المطلق، ولكنّه كلّما توغّل في الطريق إليه اهتدى إلى جديد، وامتدّ به السبيل سعياً نحو المزيد، وهو القائل سبحانه في محكم كتابه: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا"1، "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"2.

بالنتيجة: فإنّ التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة الّذي يقوم على أساس الإيمان بالله وصفاته، ويجعل من الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرّك الحضاريّ الصالح على الأرض، هو التركيب العقائديّ الوحيد الّذي يمدُّ الحركة الحضاريّة للإنسان بوقود وقوّة لا ينفدان أبداً.

هذا، وبعد أن تعرّفنا على التركيبة العقائديّة للدولة الإسلاميّة وهدفها السامي والحقيقي وهو الله تبارك وتعالى، لا بُدّ أن نتطرّق إلى نقطتين مهمّتين ـ ضمن هذا السياق العقائديّ ـ نبيّن فيهما الجانب الأخلاقيّ وآثاره من جهة، والجانب السياسيّ ومدلولاته من جهة أخرى.

 

1ـ أخلاقيّة التركيب العقائديّ للدولة:

إنّ إقامة الحقّ والعدل وتحمُّل مشاهد البناء الصالح بحاجة إلى دوافع تنبع من الشعور بالمسؤوليّة والإحساس بالواجب، وهذه الدوافع تواجه ـ دائماً ـ عقبة تحول دون تكوّنها أو نموها، وهذه العقبة هي الانشداد إلى (الدنيا) وزينتها والتعلُّق بها مهما كان شكلها.

فإنّ هذا الانشداد والتعلُّق يُجمّد الإنسان في كثير من الأحيان، ويوقف مساهمته في عمليّة البناء الصالح، لأنّ المساهمة في كلّ بناء كبير تعني كثيراً من ألوان الجهد والعطاء، وأشكالاً من التضحية والأذى في سبيل الواجب، وتحمّلاً شجاعاً للحرمان من أجل سعادة الجماعة البشريّة ورخائها، وليس بإمكان الإنسان المشدود إلى زخارف الدنيا والمتعلّق بملذّاتها، أن يتنازل عن هذه الطيّبات الرخيصة ويخرج من نطاق همومه اليوميّة الصغيرة إلى هموم البناء الكبيرة. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: "من أصبح والدنيا أكبر همّه فليس من الله في شيء"3. بالتّالي فإنّ هذا الأمر يترتّب عليه انحراف الإنسان، وتخلّيه عن دور الخلافة الرشيدة على الأرض، وارتكاب الأخطاء والمعاصي, كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حبُّ الدنيا رأس كلِّ خطيئة"4.

لذا كي تُجنّد طاقات كلّ فرد للبناء الكبير، لا بُدّ من تركيب عقائديّ له أخلاقيّة خاصة تُربّي الفرد على أن يكون سيّداً للدنيا لا عبداً لها، ومالكاً للطيّبات لا مملوكاً لها، ومتطلّعاً إلى حياة أوسع وأغنى من حياة الدنيا الزائلة، ومؤمناً بأنّ التضحية بأيّ شيء على الأرض هي تحضير وتمهيد بالنسبة إلى تلك الحياة الأخرويّة الدائمة، الّتي أعدّها الله تعالى للمتّقين من عباده.

وهذا التركيب العقائديّ ـ الأخلاقيّ قد حدّد معالمه العامّة الإسلام العظيم من خلال القرآن والسنّة، وذلك من أجل أن ينتزع من الفرد المسلم تعلُّقه الشديد بالدنيا وملذّتها، فأعطى للدنيا حجمها الطبيعيّ، أي أنّ الدنيا حينما تُتّخذ كهدف فهي تتعارض مع الآخرة وتتحوّل من دار للتربية إلى أرض للّهو والفساد. قال تعالى: "أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ"5.

وأمّا حينما تتّخذ الدنيا طريقاً للآخرة، أي أداة يُنمّي الإنسان في إطار خيراتها وجوده الحقيقيّ، وعلاقته بالله، وسعيه المستمرّ نحو المطلق في عمليّة البناء، والإبداع، والتجديد، فإنّ الدنيا تتحوّل ـ في هذه النظرة ـ من كونها مسرحاً للتنافس والتكالب على المال إلى مسرح للبناء الصالح والإبداع المستمرّ "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"6.

بالنتيجة: إنّ كلّ إنسان يؤمن بالنظرة الإسلاميّة إلى الدنيا، لا بُدّ أن يُجسّدها في سلوكه، وذلك من خلال ما يأخذه من الدنيا ويستمتع بحلالها وطيّباتها بقدر حاجته، لأنّ الدنيا وضعت في الأساس لسدّ الحاجة لا للاكتناز والتكاثر، وما دامت لا تُشكِّل للإنسان هدفه، وإنّما تُجدّد قدرته باستمرار على مواصلة الكدح في طريقه إلى ربّه وتحقيق هدفه، فمن الطبيعيّ أن يأخذ الإنسان منها حاجته ويوظّف الباقي للهدف الكبير، لأنّه إذا احتكر لنفسه أكثر من حاجته تحوّلت الدنيا بالنسبة إليه إلى هدف، وخسر بذلك دوره الصالح على الأرض وانحرف عن أهداف المسيرة الإسلاميّة الرشيدة، ووقع تحت ألوان الاستغلال، والظلم، والطغيان، ولهذا قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر"7.

وبهذا البناء الصالح للمواطن في الدولة الإسلاميّة يستطيع الإنسان أن يتحرّر من مفردات الدنيا، ويرتفع عن الهموم الصغيرة الّتي تفصله عن الله تعالى، ويعيش من أجل الهموم الكبيرة، وبذلك يواجه أعظم مسؤوليّات البناء بصدر رحب، وقلب مطمئن، ونفس قويّة، ومعادلة حسابيّة رابحة، لا موضع فيها للخسارة بحال من الأحوال، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"8.

 

2 ـ المدلولات السياسيّة لتركيب الدولة الإسلاميّة العقائديّة:

تقوم المدلولات السياسيّة في التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة بأدوار عظيمة في تنمية كلّ الطاقات الخيّرة لدى الإنسان وتوظيفها لخدمة الإنسانيّة كلّها، فمن تلك المدلولات ما يلي:

أ ـ استئصال الدولة الإسلاميّة كلّ علاقات الاستغلال الّتي تسود المجتمعات الجاهليّة، وتحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان في كلّ المجالات والنواحي، الأمر الّذي يوفّر للمجتمع طاقتين للبناء، هما:

ـ الأولى: طاقة الإنسان المستغَل الّذي تمّ تحريره، لأنّ طاقته كانت تُهدر لحساب المصالح الشخصيّة للآخرين، أمّا بعد تحريرها فهي تُصبح طاقة بنّاءة لخير الجماعة البشريّة ككلّ.

ـ الثانية: طاقة الإنسان المستغِل الّذي كان يُبدّد إمكاناته في تشديد قبضته على مستغَلّيه، بينما تعود هذه الامكانات بعد التحرير إلى وضعها الطبيعيّ، وتتحوّل إلى إمكانات بناء وعمل.

ومن هنا نعرف كم من قابليّات وإمكانات تذوب في ظلّ حكم الطاغوت في إطار علاقات الاستغلال، أو يُمارس الظالمون تذويبها ومحاصرتها، بينما تجد لها في المناخ الحرَّ الرشيد الّذي تخلقه الدولة الإسلاميّة القدرة على النمو والامتداد. وقد شهد تأريخ الإسلام على نماذج عدّة من الشخصيّات الّتي كانت عبيداً أو أشباه العبيد في مجتمعات الجاهليّة، وإذ بها تتحوّل في ظلّ الرعاية الإسلاميّة الكريمة والمنصفة إلى قادة كفؤة ومبدعة في مختلف مجالات الحياة الفكريّة، والسياسيّة، والعسكريّة، وذلك لأنّ الصالح للفرد في الدولة الإسلاميّة لا يُحدّده أيّ اعتبار (عرقيّ ـ نسبيّ ـ مركزيّ ـ ماليّ... إلخ) سوى قدرات الفرد وقابليّاته الخاصة.

ب ـ ومن المدلولات السياسيّة للدولة الإسلاميّة، الوضع الواقعيّ والفعليّ الّذي يعيشه الحاكم والحاكمون في الدولة الإسلاميّة، فإنّهم يعيشون مواطنين اعتياديّين في حياتهم الخاصة، وسلوكهم مع الناس، ومساكنهم الّتي يسكنونها، وعلاقاتهم مع الآخرين.

بينما الوضع القانونيّ ـ الوضعيّ لا يعكس ولا يُحقّق القدوة الصالحة في واقع الحياة العمليّة، بل هو لعبة تشريعيّة يُمارسها الطغاة والظلمة من خلال صياغة دساتير لشعوبهم مملوءة بمفاهيم المساواة والعدل بين الحاكم والمحكومين، ولكنّها تظلّ في واقع الحياة العمليّة مجرّد ألفاظ لا عطاء فيها ولا بناء، وليس لها من دور إلا التستّر على واقع التناقض بين حياة الحاكم وحياة المحكومين، وامتيازات الحاكم وهوان المحكومين.

أمّا في الدولة الإسلاميّة فتلك المفاهيم لا تُطرح على مستوى نقوش جميلة في لوحة الدستور، بل على مستوى تطبيق عمليّ وممارسة فعليّة في واقع الحياة. وقد شهدت التجربة الإسلاميّة بتأريخها الماضي والمعاصر على ذلك، ففي تأريخ التجربة الماضية وقف رئيس الدولة الإسلاميّة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بين يدي القاضي مع مواطن اعتياديّ شكاه إلى القاضي، فأحضرهما القاضي لكي يقضي بينهما. وأليس هو القائل عليه السلام: "أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، وأن أكون أسوة لهم في جشوبة العيش"9 ؟!

وإذا تجاوزنا تأريخ التجربة إلى واقعها المعاصر، وجدنا أنّ ذلك العلويّ العظيم الإمام الخميني قدس سره الّذي قاد كفاح شعبه تحت راية الإسلام حتّى نصره الله، وسقطت على يده امبراطوريّة الشاه بكلّ خزائنها، ورجع إلى بلده رجوع الفاتحين، لم يؤثر على بيته القديم بيتاً، بل عاد إلى البيت نفسه الّذي نفاه منه الجبّارون من قبل عشرين عاماً تقريباً، ليُقدِّم الدليل على أنّ الإمام عليّ عليه السلام لم يكن شخصاً معيّناً وقد انتهى، وإنّما هو خطُّ الإسلام الّذي لا ينتهي.

هكذا جسّدت الدولة الإسلاميّة المثل الأعلى للمساواة بين الحاكمين والمحكومين في القضاء والعدل، كما جسّدت في حياة الحاكم الخاصة القدوة الحقيقيّة والسلوة الروحيّة لكلّ المستضعفين في الأرض، لأنّ الحاكم كان يعيش كأيّ مواطن اعتياديّ لا يتميّز عليهم بقصور عالية، ولا بسيّارات فارهة، ولا ببذخ في الموائد والأثاث، ولا بألوان التفنُّن في اقتناء التحف والمجوهرات.

ج ـ ومن المدلولات السياسيّة ـ أيضاً ـ للدولة الإسلاميّة تعاملها على الساحة الدوليّة، فإنّها تتعامل لا على أساس الاستغلال وامتصاص الشعوب الضعيفة كما تصنع الحضارة الغربيّة، ولا على أساس المصالح المتبادلة كما تدّعي هذه الحضارة أيضاً، بل على أساس الحقّ، والعدل، ونصرة المستضعفين على الأرض. قال تعالى في محكم كتابه الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"10.

ولا شكّ في أنّ تعامل الدولة الإسلاميّة على الساحة الدوليّة بهذه الروح يؤدّي عالميّاً إلى إيقاظ الضمير الإنسانيّ وتوعيته على مفاهيم العدل والحقّ، وتحريكه للمساهمة في ذلك.

 

المبحث الثاني ـ التركيب العقائديّ والنفسيّ للفرد المسلم المعاصر:

إنّ أيّ نظام اجتماعيّ لا يُمارس دوره في فراغ، وإنّما في كائنات بشريّة وعلاقات قائمة بينهم، وهو من هذه الناحية تتحدّد درجة نجاحه وقدرته على تعبئة إمكانات المجتمع، وتفجير الطاقات الصالحة في أفراده تبعاً لمدى انسجامه إيجاباً أو سلباً مع التركيب النفسيّ والتأريخيّ لهؤلاء الأفراد.

ولا نقصد بذلك أنّ النظام الاجتماعيّ والإطار الحضاريّ للمجتمع يجب أن يُجسّد التركيب النفسيّ والتأريخيّ لأفراد المجتمع، ويحوّل نفس ما لديهم من أفكار ومشاعر إلى صيغ منظّمة، فإنّ هذا لا يُمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة إلى مجتمعات العالَم الإسلاميّ الّتي تشكو من أعراض التخلُّف، والتمزُّق، والضياع، وتُعاني من ألوان الضعف النفسيّ، لأنّ تجسيدَ هذا الواقع النفسيّ المهزوم ليس إلا تكريساً له واستمراراً في طريق الضياع والتبعيّة.

وإنّما الّذي نقصده هو بناء حضاريّ جديد لمجتمعات التخلُّف هذه لا بُدّ أن يمرّ من خلال اختيار الإطار السليم الّذي يأخذ في الحسبان مشاعر الأمّة، ونفسيّتها، وتركيبها العقائديّ والتأريخيّ، وذلك لأنّ حاجة التنمية الحضاريّة إلى منهج اجتماعيّ وإطار سياسيّ، ليست مجرّد حاجة إلى إطار من أطر التنظيم الاجتماعيّ، ولا يكفي لسلامة البناء أن يدرس الإطار ويختار بصورة تجريديّة ومنفصلة عن الواقع، بل لا يُمكن لعمليّة البناء أن تُحقّق هدفها في تطوير الأمّة واستنفار كلّ قواها ضدّ التخلُّف إلّا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمّة ضمنه حقّاً، وقامت على أساس يتفاعل معها، قال تعالى: "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" 11.

إذاً، لكي تكتمل لنا معالِم الصورة والرؤية الإسلاميّة في اختيار المنهج والإطار العام لبناء الأمّة واستئصال جذور التخلُّف منها، يجب أن نُدرك الحقيقة والأساس الّذي تنطلق منه، وهي حقيقة البدء بالتغيير الداخليّ للفرد والمجتمع معاً، وعلى ضوئها يكون لدينا مركّب حضاريّ عقائديّ قادر على تحريك الأمّة وتعبئة كلّ قواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلُّف، والتبعيّة، والاستغلال.

ومن يستطيع القيام بوظيفة التغيير الداخليّ وتقديمه للإنسان اليوم، هي الدولة الّتي تقوم على أساس إسلاميّ بحيث تُشكّل منه المنطلق نحو بناء إطارها الاجتماعيّ، ومنهجها العمليّ، وتفعيل عناصر القدرة التغييريّة فيها.

ــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة العنكبوت، الآية: 69.

2-سورة الكهف، الآية: 109.

3-  النراقي، جامع السعادات، ج2، ص26.

4- الكليني، الكافي، ج2، ص315، ح8.

5- سورة الحديد، الآية: 20.

6- سورة القصص، الآية: 77.

7- النراقي، جامع السعادات، ج2، ص27.

8- سورة الصف، الآيتان: 10- 11.

9-  نهج البلاغة، ج3، ص73.

10- سورة المائدة، الآية: 2.

11- سورة الرعد، الآية: 11.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد