مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

الميزان في تقييم العمل (3)

أمير المؤمنين ميزان الخشوع لله وميزان الفداء في سبيله

كان أمير المؤمنين قد أصيب بسهم في قدمه، فذهبوا إلى حضرة الزهراء عليها السّلام وسألوها قائلين: لم نستطع إخراج السّهم من قدم أمير المؤمنين، أما هناك من حيلة؟

أجابتهم: أخرجوه حينما يكون ساجداً، لأنّه لا يشعر بالألم حينئذ.

فتمّ إخراج السّهم من قدم أمير المؤمنين وهو في حال سجوده، والحال أنّه لم يمكن ذلك في غير حال الصلاة، حيث كان سهماً ذا ثلاث شعب، فلابدّ وأن يبضّعوه فيما لو أرادوا إخراجه، إلا أنّهم استطاعوا فعل ذلك حين السجود، فأيّ توجّه كان لديه أثناء صلاته!!

سيحضرون أعمال الأمّة ويقيسونها، ويقولون: نحن لا نتوقّع منك أن تكون كأمير المؤمنين، بحيث تقدر على قلع سهمٍ من قدمك، فهذا فوق طاقتك، كما وأنّه لا يتوقّع منك وجود تلك الجذبات الإلهيّة أثناء الصلاة، بحيث أنّك تسقط مغشيّاً عليك، وإنّ ما نطلبه منك هو الصلاة مع استحضار قلبك، فقل: الله أكبر.. السّلام عليكم.. ولكن بدون تفكيرٍ في التّجارة والزراعة، الحكومة.. الرياسة.. الشّراء.. البيع.. جمع المال واقتنائه.. أو الزوجة والابن.. هل هذا صعب؟! من المؤسف جداً، والمخجل كثيراً أن لا يستطيع الإنسان الالتزام بهذا المقدار من التوجّه.

 

لقدْ كان يَفدي النّبيَ بنفسه أثناء المعارك والحروب، ولم يكن يفكّر بنفسه أبداً حينما يحمى الوطيس وتشتدُّ المواجهة، بحيث كان جسده يمتلئ بالسّهام والجراحات، فقد أصيب بدنُ أمير المؤمنين عليه السّلام بتسعين جراحة في معركة أُحُد، وكان بعضها بليغاً إلى حدٍّ بلغَ العظمَ وسرى فيه، وكانوا قد ضمّدوا له تلك الضربات، ووضعوا عليها الفتيل بإحكام حتّى تلتئم و.. هكذا كان فداؤه للنبيّ الأكرم. فينصبون ذلك ميزاناً للحساب، ويحضرون في الجانب الآخر أولئك الأفراد الذين كانوا آنذاك، إلا أنّهم لم يحرّكوا ساكناً، ولم يُخرجوا سيوفهم من أغمادها أصلاً، أو أنّهم قاموا بالفرار إلى أعالي الجبال مراقبين، أرَبِحَ النّبي أم انهَزَمْ؟! قُتِلَ أم لم يُقتلْ؟! هلْ يكون هؤلاء في درجة واحدة مع الآخرين!!

كان يدّعي هؤلاء الخلافة وكانوا يقولون: يا عليّ نحنُ أجدرُ منك بالخلافة.. فهيّا بنا نستولي على حكومة المسلمين.. ونترأس ونتأمّر عليهم.. أمّا أمير المؤمنين، فحينما كان في المدينة بُعيدَ حربِ أُحُد، حيث كان ممدّداً على الفراش تحت المراقبة والرّعاية إثر تلك الجراحات، بَلغَ النّبيَّ أنّ الكفّار يستعدّون للإغارة ليلاً على المدينة، فأعلن النّبي الجهاد وأمر المسلمين بالدّفاع عن ثغور المدينة، فما كان من أمير المؤمنين إلا أن عاد وحمل سيفه..

 

ومثله ما حدثَ قبيل معركة بدر، حيث كانت العتمة حالكة في تلك الليلة، والخوف والرّعب يلفّ الجميعَ من كلّ جانب، فأعطى النّبي القربة لسعد بن أبي وقّاص، وأمره أنْ يذهب ويملأها ماء، فذهبَ وبحثَ كثيراً ورجعَ وقال: يا رسول الله! لم أجد ماء، ثمّ أعطى النبيّ القربة إلى غيره.. وغيره ولكن دون فائدة، يرجعون ويقولون: لم نجد الماء!! إلى أنْ أعطاها إلى أمير المؤمنين ـ فلا مجال لـ "لم أجد" عند أمير المؤمنين، بل لا بد من الإتيان بالماء، فالنبيّ طلب منه ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ـ فحمل القربة وراح يبحث في الصّحراء المظلمة الموحشة.. عتمة وبرد.. حيث كان الأعداءُ قد سيطروا على جميع أطراف بدر وأحاطوا بها وأحكموا محاصرتها، فذهبَ بمفرده وبلغَ قعرَ البئر وملئ القِربة، وما إنْ نَهضَ وأخرجَ القربة وأرادَ التوجّه نحو النّبي، حتّى هبّت من فوقه ريحٌ عاصف، فرقدَ أمير المؤمنين ينتظر هدوء العاصفة، وما إن هدأت حتّى عصفت ريحٌ أخرى، ثمّ ريحٌ ثالثة كذلك، إلى أن رجع إلى النّبي فسأله: يا علي! لمَ تأخرت؟ فأجابه: قد داهمني ريحٌ شديدٌ ثلاث مرات.

فقال له رسول الله: أمّا الرّيح الأولى فجبرائيل، والثانية إسرافيل، والثالثة ميكائيل، مع كلّ منهم ألفٌ من الملائكة، قد هبطوا من السّماء كي يحيّوك ويباركوا لك، ويهنّئوك، فقد تباهت الملائكة بك وتفاخرت بفعلك، وهؤلاء الملائكة البالغ عددهم ثلاثة آلاف، سوف يكونون لك عوناً ليكون النّصر غداً حليفك وعلى يديك.

 

لقد كان عدد جيش المسلمين في معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلاً، مقابل تسعمائة وخمسين رجلاً في جيش الكفّار، كلّهم مجهّزون بالسيوف والعدّة والعتاد والفرسان والجمال.. أما المسلمون فلم يكن لديهم شيء من ذلك، وقد قتلَ أمير المؤمنين عليه السّلام ستةً وثلاثين من الأعداء، وأما بقية المسلمين فقد قتلوا أربعة وثلاثين شخصاً من الكفّار، وذلك بمعونة من الملائكة، يعني أمير المؤمنين بمفرده قتلَ أكثر من نصف ما قتله مجموع جيش المسلمين البالغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلاً، هذا هو الميزان.

وكذلك في تلك الليلة التي بات فيها مكان رسول الله في فراشه، وهو ما قد وردنا ضمن الروايات، التّي ذكرها الشيعة والسنّة، بل وكبار أهل التسنُّن، حيث ذكروا أنّ جبرائيل أقام تلك الليلة فوق رأس أمير المؤمنين، وميكائيل تحت قدمَيه، حيث كانا يتعجّبان ويتعلمان ممّا قام به أمير المؤمنين ويقولان: بخ بخ لك يا عليّ! أنظار جميع ملائكة السّماء متوجهة إليك الآن، لأنّ الله يباهي بك ملائكته ويفتخر بك على جبرائيل وميكائيل.

 

لقد أرادَ الله أنْ يمتحنَ جبرائيل وميكائيل، قال: أريدُ أن أجعلَ حياة أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يختار أن يكون عمره أقصر من رفيقه، وعمر رفيقه أطول من عمره؟ فلم يقل جبرائيل: ليكن عمري أقصر وعمر ميكائيل أطول، ولم يقل ميكائيل ليكن عمري أقصر وعمر جبرائيل أطول، بعد ذلك، قال الله لهما: اهبطا! فنزلا؛ فقيل لهما: فلتجلسا فوق رأس هذا الرجل وتحت رجليه؛ شابّ عمره لا يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر، هذا الشّاب قد نام مكان النبيّ، وجعل تمام جسده في معرض السهام والرماح والسيوف والحراب، فهو مستعدّ لأن ينقضّ عليه أربعون شخصاً من شجعان ذلك الزمان وفحوله، ويقطّعوه قطعة قطعة، هذه المواساة التي صدرت من عليّ للنبيّ، لم تستطيعا أنتما أيّها الملكان المقرّبان منّي أن تقوما بها، إذن عليٌّ أفضل من الأنبياء، وعليٌّ مقرّب ومقدّم على الملائكة.

 كذلك حالة الرحمة والعطوفة التي كانت لدى أمير المؤمنين، فقد نُقل حول ذلك الكثير من الحكايات والمواقف العجيبة، يذكر منها ابن أبي الحديد في كتاب "شرح نهج البلاغة" حيث ينقلها عن الشّافعيّ والزمخشريّ فيقول: إنّ من المدهش جداً وغير المعقول أبداً أن يكون لشخص هاتان الحالتان في آن واحد، فأمير المؤمنين مع ما كان عليه من الشّجاعة والإقدام، حيث لم يبخل بنفسه ولم يتقاعس لحظة واحدة في سبيل نشر الدين وإرساء قواعده، وقمع الطغاة وقلع شوكتهم، فهو مُصارِع الأبطال وهازمهم.. وفارس الميدان.. ومع ذلك نراه تنهال الدّموع من عينيه!!

 

فإنّه من يكن رقيقَ القلب عطوفاً رحيماً.. فلا معنى للشّجاعة عنده، بل كيف يتسنّى له ذلك؟! فصفات عليّ المتضادّة تدلّ على أنّه مظهرٌ للصفات الإلهيّة الجلاليّة والجماليّة في آن واحد.

فعليٌّ فانٍ في الله، وصفات الجمال والجلال تظهر من خلاله، وحينما يتطلّب الموقف ضرب السّيوف، فلا خوف لديه ولا جزع، وحينما يجب عليه أنْ يتوقّف.. ويعطف.. فإنّه يتواضع ويتواضع ويتواضع إلى حدّ يجلسُ ذاك الطّفل اليتيم ويضعه في حضنه، يقبّله.. يمسح على رأسه.. يلاطفه.. ويرافقه حتّى يوصله إلى منزله، وبعد ذلك يذهب إلى عمل،, والحال أنّه خليفة المسلمين!!

وقد ربّى أصحاباً على نفس هذا الممشى والسّلوك، فكانوا أوفياء كأمير المؤمنين، مثل قيس بن سعد بن عبادة، مثل محمّد بن أبي بكر، مثل مالك الأشتر، مثل سعد، فكانوا يمتلكون صفات عالية، وكانوا أشخاصاً ملكوتيّين، وهذا هو مقام ميزان الأعمال.

 

لأجل ذلك {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وحينئذ، فإنّ الميزان الذي يقيس به الله جميع أعمال الأمّة هو مقياس أمير المؤمنين.

هنيئاً لأولئك الأفراد الذين يكون أعمالهم في الدنيا قريباً من ميزان أمير المؤمنين، فهم كذلك يوم القيامة، قريبون منه، يعبرون الحشر والنشر والقيامة والصراط والحساب والعرض.. كلّ ذلك كلمح البصر {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد