مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

الميزان في تقييم العمل (5)

طبقًا لوصيّته

لقد أوصى أمير المؤمنين قبل ارتحاله عن هذه الدنيا بليلتين، حيث كان مستلقياً على الأرض، ولم يكن تحته فراش أو وسادة، وإنّما كان تحت قدميه ما يشبه اللحاف الرقيق، نعم كانوا قد وضعوا بعض الوسادات خلف رأس أمير المؤمنين، حيث كان يتّكئ عليها، إذ لم ينم على الفراش. حينها أوصى ابنه الحسن:

ألا وإني منصرف عنكم، وراحل في ليلتي هذه، ولاحق بحبيبي محمّد صلّى الله عليه وآله كما وعدني، فإذا أنا متُّ يا أبا محمد، فغسّلني وكفنّي وحنّطني ببقيّة حنوط جدّك رسول الله صلّى الله عليه وآله، فإنّه من كافور الجنّة جاء به جبرئيل عليه السلام إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدّم أحدٌ منكم مقدّم السرير، واحملوا مؤخّره واتبعوا مقدّمه، فأيّ موضع وُضع المقدّم فضعوا المؤخّر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، فإذا أنت صلّيت عليَّ يا حسن، فنحّ السرير عن موضعه، ثم اكشف التراب عنه فترى قبراً محفوراً ولحداً مثقوباً وساجةً منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروجَ من قبري فافتقدني فإنّك لا تجدني، وإنّي لاحقٌ بجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله، واعلم يا بُني ما من نبيّ يموتُ وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلا و يجمع الله عزو جلّ بين روحيها وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كلّ واحدٍ منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حطّ فيه، ثم اشرِج اللحد باللِبن وأهِل التراب عليّ ثم غيِّب قبري.

 

ثمّ أوصاهم أن يرجعوا إلى الكوفة ليلاً، ويحافظوا على خفاء قبره، ويرسلوا نعشاً خالياً تحمله ناقة إلى المدينة بحيث لا يلتفت أحدٌ إلى موضع قبره.

هل رأيتم! هذا هو الميزان {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} انظروا إلى أيّ حدّ تصل الأمور مع هذه الأمّة الطّاغية المرائية، إلى حدّ يقول معه: أخفوا قبري، لأنّ الخوارج والنواصب، وأعوان معاوية، يأتون ويحفرون القبر ويخرجون الجسد، حيث كان قد وقع الكثير من هذه الحوادث آنذاك، لذلك قال أمير المؤمنين: أخفوا قبري.

 

يروي محمّد ابن الحنفيّة:

أنّه بعد وفاة أبي وارتحاله عن دار الدنيا، قد ارتفع الضجيج والنواح من بيتنا، ثمّ أسرع الإمام الحسن لتغسيله، فكان أخي الحسين يصبّ الماء والإمام الحسن يغسل، وكان البدن ينقلب يميناً ويساراً من تلقاء نفسه، دون أن يقلّبه أحد، وبعد ذلك نادى الإمام الحسن أخته زينب، أنْ أعطني بقيّة الحنوط الذي كان قد أتى به جبرائيل من الجنّة والذي كان قد تحنّط به النّبي والزهراء، فأتت به السيدة زينب، فحنّط الإمامُ الحسن أميرَ المؤمنين بحنوط الجنّة ووضع له من كافور الجنّة.

يقال: إنّه حينما فتح ذاك الحنوط، فاحت رائحته في جميع أرجاء الكوفة، ثمّ بعد ذلك كفّنوه بالكفن، يقول محمّد بن الحنفيّة: كانت تفوح من بدن والدي رائحة مسك وعنبر لم نكن قد شممناها من قبل.

ثم أخذوه في وسط الليل الدامس، فوضعوا بدنه على ذاك السّرير الخشبيّ، وحمل الحسن والحسين السرير من خلفه، فارتفع السّرير من الأمام، وذهبوا به خارج المدينة.

والذين شيّعوا الجنازة هم الإمام الحسن، والإمام الحسين، ومحمّد بن الحنفية، وأولاد أمير المؤمنين الذكور، وصعصعة بن صوحان، وبعضٌ آخرون من خواصّ الأصحاب، حيث إنّ الإمام الحسن كان قد منع الأشخاص الآخرين من المشاركة في التشييع والدفن.

فخرجوا في وسط الليل من الكوفة إلى النّجف، حيث لم تكن النّجف مدينة بعد، وإنّما كانت صحراء خالية، دون ماء ولا عشب، فمشوا بالجنازة على هذه الوتيرة رويداً رويداً.

 

يقول محمّد بن الحنفيّة: أقسم بالله، إنّنا كنّا كلّما نمرّ بالجنازة قرب مكان أو منطقة أو حائط أو حجر أو جبل أو فلاة أو مرتفع.. إلا وكان يسلّم على أمير المؤمنين، مع أنّ الليل كان دامساً لا يرانا أحد، حتّى وصلنا إلى أرض "الغريّ"، إلى قائم غريّ (وهو منخفض حيث أنّ هناك دعامة قد جعلوها قرب الكوفة كعلامة للغريّ، يقال: حينما مرّوا بجنازة أحد الملوك من هناك، كان قد اعوجّ الصّاري الطويل تعظيماً وإجلالاً، وسلّم على أمير المؤمنين، وبقي معوجّاً ولم يعد، وكذلك عرش "أبرهه" جاء إليه عبد المطّلب، فإنّ السّرير كان قد سلّم وانحنى وبقي على هذا الحال.

إلى أن وصلوا بالجنازة إلى قطعة من الصّخر، فأجلسوه عليها، فكبر الإمام الحسن على جنازة أبيه سبع تكبيرات، وقال: لا تجوز السّبع تكبيرات لأحد غير أبي إلا المهديّ من آل محمّد، حيث سيكبّر على جنازته سبع تكبيرات أيضاً.

 

ثمّ أزاحوه بعد الصلاة، وحفروا ذاك المكان، فرأوا أنّ الأمر كان كما أخبرهم والدهم تماماً، فوجدوا قبراً جاهزاً، ولحداً مسهّداً، ووجدوا لوحة من الخشب وضعت على القبر، قد كتب عليها باللغة السريانيّة:

هذا القبر الذي ادّخره نوح قبل سبعمائة سنة من الطوفان لوصيّ نبيّ آخر الزمان.

ثمّ وضعوا جنازة أبي جانب القبر، وابتعد جميع الأفراد عن القبر إلا ثلاثة، أخي الحسن وأخي الحسين وأنا.

ثمّ أدخلوا جنازة أمير المؤمنين داخل القبر، ووضعوا عليه من تلك اللّبن التي كان قد أعدّها له نوح عليه السلام، ثمّ عاد الإمام الحسن وفتح واحدة منها فلم يرى الجسد، ثمّ انتظر قليلاً، ثم عاد وفتحها فرأى أنّ الجسد رجع مكانه.

 

وعن ذلك يروي الشيخ "حافظ البرسيّ" صاحب كتاب "مشارق أنوار اليقين" فيقول: قال أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن: حينما تضع الجنازة في اللحد داخل القبر، لا تهل التراب عليها، وإنّما صلّ ركعتين ناحية القبر جانباً، يقول: ذهبنا وصلينا ركعتين ورجعنا إلى القبر، فرأينا أنّ قماشة من السّندس الأخضر قد مُدّت فوق بدن أمير المؤمنين، فقام الإمام الحسن ونظر إلى أعلاها، فرأى النّبي وآدم وحضرة إبراهيم، قد جلسوا يتكلّمون مع أمير المؤمنين، ثمّ رفع الإمام الحسين السّندس من الأسفل، فوجد في الأسفل أمّه فاطمة الزهراء وآسية ومريم وحوّاء، قائمات يعزّين في أمير المؤمنين، فألقوا السّندس وأهالوا التّراب على بدن أمير المؤمنين، وملأوا القبر بالتّراب. فأخذ صعصعة بن صوحان حفنة من التّراب ونثرها على رأسه، وصاح: السّلام عليك يا أمير المؤمنين! هنيئاً لك على ما أكرمك الله به، ولقد كان صبرك عظيماً، وكان جهادك عظيماً، وقد ابتليت بشتّى البلايا والمصائب، وكنت الرابح في تجارتك حتّى لحقت بحبيبك.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد