مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

النّهضة والتّغيير في فكر الإمام الحسين (ع) (1)

إن الإحياء الشامل لمفاهيم الإسلام، هو الشرط الأساس عند دعاة النهوض والإصلاح لكل تغيير في الواقع، ولكل عملية بناء وتشييد، والمدخل للخروج من نفق التبعية والتخلف.

قد يكون للحضارات الإنسانية دور في تجديد ثقافتها الإسلامية، لما للحضارة من دور وظيفي في النهوض وخاصة الثقافي منه، وكون الثقافة تدخل في تشكيل الهوية، بالتالي تأتي خطوات النهضة والثبات- رغم التأرجح في البين- من هذا التلاقح الإيجابي، وكيفية استنطاق تاريخ الحضارات ومخزونها في الوجدان والذاكرة استنطاقًا معرفيًّا، قادرًا على فتح أفق عقلية، وتستطيع أن تستفيد من التجربة الإنسانية في تقييم التجربة الدينية، وتطوير بنية الفهم والعقل في سبيل اتساع دائرة فهم للنص.

وفي أيّ عملية إحياء شاملة للمفاهيم الإسلامية من قبل المصلحين، يتم غالبًا التركيز على العمود الفقري لذلك الصرح العظيم، الذي تتفرع عنه باقي المفاهيم، وتستظل به منظومة القيم والمعايير التي تشكل مرجعية يقاس عليها غالبًا الحق والباطل.

وقبل فهم طبيعة تلك المفاهيم، من الضروري عمل إطلالة سريعة على كيفية تصوير الصراع بين الإمام الحسين (ع) ويزيد بن معاوية لعنه الله، إذ إن هذا التصوير أثّر بشكل مباشر في كثير من الأحيان، وبشكل غير مباشر أحيانًا أخرى في فهم طبيعة معركة عاشوراء، وكشف كنوزها في ذلك الزمن، وتحجيم مفاعيلها وتأثيرها على حركة التغيير المركزية التي انطلقت من كربلاء، بل صنعت ردود أفعال ثورية لم تكن على نهج الإمام الحسين (ع) غالبًا، ولم تستمد روحها القيمية منه، بل غالبًا كانت كردود أفعال عاطفية على هول ما حدث في كربلاء بحق ابن بنت نبي الرحمة الحسين (ع)، الذي يعرف قدره ومكانته القاصي والداني، إلا أن هذه المعرفة لم تشكل رادعًا سلوكيًّا يمنع وقوع معركة كربلاء، وما حدث في يوم العاشر من محرم.

 

لقد تم تصوير الصراع بين الإمام الحسين(ع) ويزيد بن معاوية على أنه:

1. صراع بين قبيلتين نابع من روح الفهم العربي الذي بَعُدَ إلى حدٍّ ما عن الفهم الإسلامي، ذلك أن قضية الإمام الحسين (ع) ويزيد بن معاوية لم تكن صراعًا قبليًّا بين بني أمية وبنو هاشم، وإن اعتقد بنو أمية أنه صراع على الزعامات، لكن لم يكن النبي (ص) ووالده وجدّه وعمّه في وارد هذا الصراع، إذ نظر بنو أمية إلى نبوة النبي محمد (ص)، على أنها ادعاء لأخذ زعامة قريش، ومنافسة بني أمية عليها.

2. صراع بين كتلتين سياسيتين حول الخلافة والحكم والنفوذ.

3. صراع على المصالح والمنافع والثروات.

ولكن ما طبيعة هذا الصراع وحقيقته:

يمكننا فهم هذه الطبيعة من خلال تصريحات الإمام الحسين (ع)، وأقواله كما نقلت عنه عبر التاريخ والثابت منها، حيث قال: "وأني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالـمًا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين".

 

فالصراع هو:

1. صراع بين الانحرافية المتمثلة في الحكم الأموي، وبين امتداد الدعوة الإسلامية المتمثلة في الانتفاضات الإحيائية وأولها ثورة الإمام الحسين (ع).

2. إن الصراع عبر التاريخ ومنذ خلق الله نبينا آدم هو صراع بين نموذجين ومثلين، أحدهما مثل أعلى مرتفع، والآخر مثل منخفض. مثل أعلى مرتفع محوره الله ومنطلق الله تعالى، حيث هو جلّ شأنه من يشخص حقيقة الخليفة وشخصيته، وهو من يختار من يستخلفه في الأرض، ويكون الـمُسْتَخلِف عبدًا مطيعًا لإرادة الله ولتوجيهاته وأوامره، ومثل منخفض محوره الإنسان، الذي يعطي لنفسه الحق في أن يحدد من يكون حاكمًا وواليًا للناس، ويسلب ذلك من الخالق، والسلب هنا تحت ذرائع وشعارات قشرية باسم الدين، تعكس سطحية في فهمه، وخواء في إدراك الرسالة الربانية.

3. هو صراع بين جبهة الله وهي جبهة الحق، وبين جبهة إبليس وهي جبهة الباطل، وأحيانًا يكون هذا الصراع واضحًا جليًّا، وأحيانًا يكون مموهًا يصعب رؤيته إلا على أصحاب الوعي والإدراك.

4. صراع بين النماذج "مثلي لا يبايع مثله"، نموذج متصل بالسماء هو نموذج الإمام الحسين (ع) وهو متصل بنموذج النبوة والإمامة عبر التاريخ، ونموذج انقطع عن السماء، وهو نموذج يزيد وفرعون ونمرود وكل من سار على مسار "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين".

وأي نهضة تتطلب وعيًا بالواقع وانطلاقًا من نقطة مركزية هي "التوحيد" ومن "قيادة ربّانية"، وعادة المنهج النهضوي في أي فكر يسير في خطين متوازيين:

الأول: البناء الداخلي للإسلام وسبر أغوار الإشكاليات التي أعاقت إبرازه كحضارة نهضوية مستديمة في سيرورتها التاريخية، من خلال النظر إلى أهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الإسلامية.

الثاني: البناء الخارجي المتمثل في المشاريع المطروحة في عرض الإسلام لا في طوله، سواء كانت ترفع شعار الإسلام، ولكن تطبيقها في عرضه، أو كانت هي بذاتها مشاريع في عرضه نظريًّا وتطبيقيًّا.

 

ولقد تعرض الإسلام كمنظومة إلى عدة حروب:

1. معنوية

2. ومادية

وقد نطلق عليها حروبًا ناعمة وصلبة بمنطق اليوم:

– فالصلبة هي الحروب العسكرية الداخلية كالتي خاضها أمير المؤمنين (ع) في عهده أو تلك التي خيضت بعد رسول الله (ص) بشكل بعيد عن روح الدين، وساندت في دكّ مدامك الأسس المحورية لبنية الإسلام العزيز.

– الحروب الناعمة – وهي الأخطر- التي عملت واشتغلت على وعي المسلمين الغض، والذي لم ينضج بعد غالبًا في إدراك الإسلام وروحه ومعناه وأبعاده، كنظام حياة استراتيجي سيتكامل كبنية رصينة مع تكامل وعي الناس وإدراكهم.

 

وكان أهم ما تم هدمه خلال تلك الفترة هو:

1. مفهوم التوحيد، الذي يعني في جوهره العبودية لله وحده، وتحرير الإرادة من كل القيود والأغلال، لتنتظم في طول إرادة الخالق.

وتم ذلك ليس بشكل مباشر، وإنما بشكل غير مباشر وباستخدام الدين كآلة ووسيلة لتحقيق هدف تفريغ مفهوم التوحيد. مثال على ذلك:

– موضوع عدم جواز الخروج على الحاكم وطاعة ولي الأمر، حتى لو كان فاسقًا.

– ومثال آخر موضوع الجبر، وأن الإنسان مجبر غير مخير، لتبرير قتل الإمام الحسين (ع).

هذه النماذج استطاعت أن تقوض مفهوم العدل الإلهي من جهة، وتقوض إرادة الفعل والتغيير وتعزز من جهة أخرى، وتشرعن الرضوخ للظلم بحجة دينية ليس لها أساس صحيح، فتم تشويه مفهوم العبودية الذي يخضع الإنسان كوجود مستقل لله.

ويمكن من خلال هذا التقويض تشتيت ولاءات الإنسان لأرباب وآلهة عدة "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وتذويب إرادة الفعل عند المجتمع الإسلامي ليمرض بمرض أخلاقية الهزيمة. "إنشاء مفهوم للطاعة بعيد عن المفهوم القرآني، ليصبح بدلَ طاعة الله وأنبيائه ورسله والأوصياء، يدخل إليه طاعة الولاة والصحابة والخ، لنصل إلى أن طاعة الحاكم تصبح في عرض طاعة الله ومع ذلك تمضي".

2. تفتيت مفهوم الأمة الذي يؤسس لقوة الفرد ضمن أمته، بحيث لا يهمل بناء الفرد، ولكن يجعل امتدادات تكامله وازدهاره كقوة بشرية فاعلة ضمن الأمة.

فالفردانية كمفهوم غربي ليس جديدًا كفعل بشري، لكن المفهوم هو الجديد، وإنما الفعل كان عبر التاريخ صناعة طغاة وجبارين ومستكبرين، فعملية تشتيت الجمع هي سياسة عملانية لمن يريد أن يتحكم بالناس. فباتت الأمة التي صنعها رسول الله (ص)، والتي كان من ضمنها الأنصار الذين سطروا أروع صور الإيثار والتضحية والطاعة كجزء من هذه الأمة، باتت هذه الأمة قبائل وعوائل وولاءات متفرقة بين ولاة الأمصار.

 

علاقة الفرد بالأمة تأتي ضمن علاقتين:

الأولى: علاقة خصوص وعموم من وجه، وهذه العلاقة تكون في وقت السّلم، والسّلم هنا ليس عدم الحرب، وإن كان أحد معانيها ودلالاتها، وإنما هي الحالة التي تتحقق فيها العدالة الاجتماعية المرتبطة بتحقيق كرامة الإنسان. وهنا يمكن للفرد أن تكون له مساحته الخاصة، ومساحة أخرى ممتدة في الأمة، ضرورية وأساسية في تحقيق كماله وتكامله الوجودي.

الثانية: علاقة خصوص وعموم مطلق، وهذه تتحقق في حالة الحرب، والحرب هناك ليست فقط العسكرية منها، بل أيضًا هي الحروب الناعمة التي تستهدف الهوية والثقافة والعقيدة، أي تستهدف جوهر الوجود الإنساني، وهنا الفرد يندك في الأمة ويصبح كل وجوده في مواجهة هذه الحرب بأشكالها كافة، إذ إن كماله الإنساني متوقف على هذا الاندكاك.

وقد ظهرت جليّة عمليّة التفتيت في عصرنا بعد اتفاقية سايس بيكو التي فتت المنطقة إلى دول وجغرافيّات، ثم إلى أوطان لها سيادتها وهي أمر بذاته جيد أي السيادة، لكن تحولت هذه المفاهيم إلى وسائل تفتيت وتشتيت لوحدة الأمة، خاصة في القضايا المصيرية التي تتطلب موقف أمة وإجماعها، كقضية غزة التي يتم استنزافها من عدو وحشي، ومع ذلك نجد الأمة عاجزة عن موقف موحد لصالح نصرة غزة وأهلها المظلومين.

فبدل أن يستخدم مفهوم الوطن والسيادة إلى مفاهيم تتخادم مع الأمة وفي صالح رفعتها وحضارتها، باتت العائق الـمُكَبّل لهذه الأمة والـمُفَتّت لها.

3. تقويض منظومة القيم والمعايير والحقوق وتحويرها، فالدين لديه منظومة ثابته تقاس عليها الأشياء المتحركة عبر الزمن، ومن أهمها منظومة القيم والمعايير والحقوق، وهذه تبنى وفق رؤية استراتيجية تتفاعل مع باقي المفاهيم بشكل عضوي، فهي تزدهر وتتجلّى، بل لا يمكن أن تقوم قائمتها كما هي إلا في طول وفي ظل مفهوم التوحيد النظري والعملي الحقيقي، ومع قيامة وتحقق مفهوم الأمة، وعندما تم تقويض هذه المفاهيم المحورية، بالتالي سيتم تدريجيًّا تفتيت هذه المنظومة التي تشكل العمود الفقري للدين، وأهم القيم المحورية التي تم هدمها وتشويهها هي الحرية والعدالة والكرامة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد