كلمة "مقرّبون" جمع "مقرّب"، وهي إمّا اسم مفعول أو صفة مشبّهة بصيغة التفعيل، واشتقاقها من "قُرب"، و"القُرب" خلاف البُعد [1]، ولذا يصحّ النهي عن الاقتراب بقصد الأمر بالبُعد، كما في آية: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}.
أنواع القُرب:
القرب من المعاني النسبيّة، فهو لا يُتصوّر ولا يكون إلا بافتراض أمرين أو أكثر، وقد يراد به القرب المكاني الخاص، كما في آية: {فلا يقربوا المسجد الحرام} [2]، وقد يراد به القرب الزماني المعيّن، كما في آية: {أليس الصبح بقريب} [3]، وقد يراد به القرب النسبي، كما في آية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [4]، وقد يراد به القرب الصفاتي، كما في آية: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} [5]، إلى غير ذلك من أنواع القرب، والقرب المضاف إلى الذات الإلهية في مثل: {إن ربي قريب مجيب} [6]، و{نحن أقرب إليه من حبل الوريد} [7]، هو القرب المعنوي الروحاني وحسب لعدم صحة غيره.
والقرب إن كان طرفا الإضافة فيه أمرين ماديين فهو قرب صادق عليهما بنسبة متساوية، بمعنى أن التقارب بينهما متبادل وبنسبة واحدة، فليس أحدهما أقرب إلى الآخر من الآخر، وأما إن كان أحد الطرفين أمراً غير مادي فإن القرب سيكون آحادي النسبة، أي من طرف واحد فقط، كما هو شأن الكفار، فإنهم بعيدون عن ربهم و{ينادون من مكان بعيد} [8]، لكن الله تعالى قريب من الكل، حتى من الكفّار، كما قال تعالى: {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} [9].
ثم إن قرب الله من عباده تارة يكون شفقة ورأفة بهم: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} [10]، وتارة يكون حكاية عن القهارية والسيطرة، وهو القرب العام من الكل:{نحن أقرب إليه من حبل الوريد}، {هو معكم أين ما كنتم} [11].
شعر:
إن الله قريب دوماً من ذي القلب الجافي له...
هو لا يراه (بعين قلبه) ولكنه يدعوه من بعيد [12]
حبيب هو أقرب إلى نفسي من نفسي إليها...
تبّاً تباً! ما أصعب أن أكون بعيداً عن نفسي
ماذا عساني أفعل؟ فمع أنّه مني قريب...
غير أنّي أشعر بأني مهجور [13]
والقرب القهّاري الربوبي متساوي النسبة من الموجودات كافة، فليس الله تعالى أقرب إلى بعضها دون بعض، بل "استوى من كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء، لم يبعد منه بعيد، ولم يقرب منه قريب..."، "وبقوّتك التي قهرت بها كل شيء"، فهو تعالى مع أقوى وأضعف موجود معيّة قاهرة.
والذي ينفع الإنسان ويسعده أن يكون قرب الله منه قرب رأفة ورحمة، فعليه أن يسعى سعيه ما استطاع لتحصيل ذلك القرب، لأنّه كمال وخير، وكلما ازداد منه تعالى قرباً شرف أكثر، وأما القرب القهّاري فليس فيه قرب معنوي للإنسان.
ملاحظة:
كما أن القرب المكاني والزماني يلازم قهراً البُعد عن الطرف المقابل (المبدأ) فإن القرب المعنوي كذلك، فالقرب من العلم بُعدٌ عن الجهل بالضرورة، والقرب من العدل بُعدٌ عن الظلم، والقرب من الله تعالى بُعدٌ عن عذابه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "واعلم أنّ ما قرّبك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار" [14].
التقرب من الله
إن الكون بأسره في سير دائم الى الله، وهو يقترب منه رويداً رويداً، إلى أن يلاقيه: {ألا إلى الله تصير الأمور} [15]، {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [16]، {وأن إلى ربك المنتهى} [17].
وهذا اللقاء عام، فالكافرون ملاقوه تعالى أيضاً وصائرون إليه، لكن يتلقّاهم بصفات القاهرية والجلال، ومقتضاها البُعد عنه واللعنة:{أولئك ينادون من مكان بعيد} [18]، {وقيل بُعداً للقوم الظالمين} [19]، {فبعداً لقوم لا يؤمنون} [20]، {ألا لعنة الله على الظالمين} [21] وهو بُعدٌ عن رحمته ورضوانه، وليس بعداً حقيقياً، لأن الله تعالى مع كل شيء معية قيومية، فلا معنى لفرض البعد الحقيقي عنه تعالى، لأنه: {معكم أين ما كنتم} [22].
أما الموحدون فيتلقاهم ربهم بصفات الجمال، ومقتضاها الرحمة والقُرب منه تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [23].
والله سبحانه ـ وهو غاية الكل ومطلوب الجميع ـ كمال لا حد له ولا منتهى وبحسب كلام أهل المعرفة فإن أولى مراحل السير إليه تعالى هي معرفته والإيمان به، وهي مرحلة "السير من الخلق إلى الحق"، وهي مرحلة محدودة المسافة بداية ونهاية، لأن كل سالك يصل فيها إلى غاية سيره، وهي معرفة الله تعالى والتصديق به، فتنتهي بذلك.
أمّا المرحلة الثانية وهي "السير من الحقّ بالحقّ"، وهي السير في عوالم الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولمس العينية البينية للأسماء والصفات من جهة وعينيتها مع الذات الإلهية من جهة أخرى؛ فمسافتها غير محدودة، لأن الكمالات الإلهية غير محدودة، وكلما سار السالك الواصل في عوالم الأسماء فسيظل عاجزاً عن معرفة كنهها، وإن وصل بسيره إلى درجة أعلى وقرب من الله أكثر، لكنه لن يبلغ الغاية في ذلك، ولذا فإن مقربي ساحته تعالى وإن بلغوا من القرب والدنو منه تعالى ما بلغوا: {ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى} [24] فهم يسألونه مزيداً من القرب: "أن تدنيني من قربك"، "وأدنو منك دنو المخلصين".
ولا ريب في أن طاعة وعبودية كمّل البشر ـ كالأئمة الأطهار عليهم السلام ـ في القمّة من العظمة والكمال، لأنهم في عصمة من الخطل في الرأي والخطأ في العلم والخطيئة في العمل والزيغ في العقيدة، وبالتالي فهم الأقرب مطلقاً من رب العالمين والأدنى منه مكانة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] معجم مقاييس اللغة، مادة "قرب"
[2] التوبة: 28
[3] هود: 81
[4] الشعراء: 214
[5] آل عمران: 167
[6] هود: 61
[7] ق: 16
[8] فصلت: 44
[9] الواقعة: 85
[10] البقرة: 186
[11] الحديد: 4
[12] ديوان حافظ، الغزل 143
[13] كلستان، ص 164
[14] نهج البلاغة، الكتاب 76
[15] سورة الشورى: 53
[16] سورة الانشقاق: 6
[17] سورة النجم: 42
[18] سورة فصلت: 44
[19] سورة هود: 44
[20] سورة المؤمنون: 44
[21] هود: 44
[22] سورة الحديد: 4
[23] سورة الأعراف: 56
[24] النجم: 8 و9.
الشيخ فوزي آل سيف
محمود حيدر
السيد منير الخباز القطيفي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشهيد مرتضى مطهري
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد جعفر مرتضى
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان