فجر الجمعة

الشيخ عبدالجليل بن سعد: التحكّم البنّاء

تحدّث الشيخ عبدالجليل بن سعد يوم الجمعة ٩ ربيع الأول ١٤٤٦هـ في جامع الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالحليلة، حول موضوع بعنوان: "التحكّم البناء" متناولاً ذلك بدوائر ثلاثة هي: دائرة الغير، ودائرة الجسد، ودائرة النفس.

 

يقول الإمام علي عليه السلام: "إن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق، وليكن سرورك بما قدمت وأسفك على ما خلفت، وهمك فيما بعد الموت".

من الصفات التي تميز الإنسان هي صفة التحكم، القدرة على التحكم. ولكن هذه الصفة، ككثير من الصفات، لها طريقان متعاكسان؛ فربما يسلك الإنسان طريقًا عن هدفها، وربما يُوفَّق الإنسان ليسلك الطريق الذي يجعله يتحكم بغاية ويتحكم بدراية، وهو ما يمكن أن نسميه بالتحكم البناء. مما يتحدث به الإنسان عن نفسه القوة: "أنا قوي"، وقد يتحدث إنسان آخر عن ضعفه ويقول: "أنا ضعيف". لكن ما هو المقياس للقوة والضعف؟ فلتكن مقاييس وليس مقياسًا واحدًا، ولكن من بين تلك المقاييس، وأكثرها أهمية، أن تقيس قدرتك على التحكم. هل أنت قادر على التحكم أم لست بقادر على التحكم؟ ومعنى القدرة على التحكم أن لا أكون متخلفًا عن مواضع التحكم البناء، وأن لا أتورط في التحكم العبثي. ومن هنا نقول على سبيل الإيضاح: إن التحكم المطلوب منك كإنسان، والذي تتجلى فيه قوتك، يكون في ثلاث دوائر:

 

الدائرة الأولى: دائرة الغير. هل يُطلب منك أن تتحكم في الغير؟ أجل، بل إن الغير يحتاج إلى تحكّمك، ولكن بقدر وميزان، وبشكل بناء لا عبث فيه، وسنستوضح أكثر إن شاء الله.

من الدوائر أيضًا الجسد. الجسد إن لم تحكمه حكمك، وإذا حكمك، مسك بالجور والعسف. لذلك، طريقتك المثلى مع الجسد، علاقتك المثلى مع الجسد، أن تتحكم فيه، وأن تخضعه لتحكمك. والتحكم في الجسد أيضًا يمكن أن يكون عبثيًّا ويمكن أن يكون بناءً.

من دوائر التحكم أيضًا، وأخطرها، النفس. أن تتحكم في نفسك، بمعنى أن تكون سيدها، أن تكون سيد نفسك، أن تمارس مع النفس دور المدير والمدار، تكون مديرًا دائمًا، وأن تكون مديرًا دقيقًا، حصيفًا، شديدًا، مهتمًا، يقظًا.

فهذه دوائر، لكن واضح أن حدود هذه الدوائر ليست واحدة بطبيعة الحال؛ حدود هذه الدوائر مختلفة. لو جئنا إلى الدائرة الأولى: التحكم في الغير، كيف أبني تحكمي في الغير على أساس بناء؟ أنت تستطيع أن تبني تحكمك في الغير على أساس بناء إذا تحكمت فيه بما تمليه المحبة. بهذا يكون تحكمك تحكمًا بناء، وإلا فهو عبثي. بما تمليه المحبة؛ فأنا أتحكم في ولدي، لماذا؟ وهو في طور التربية، لماذا؟ لأنني أحبه. فلو سألت الأب: لماذا يربي؟ ولماذا يشقى في تربيته؟ لأنه يحبه. فإذاً، التربية تحكم، ولكن تحكّم يمليه الحب. كذلك مع الآخر، من رحم من بعيد، من صديق، ومن مسلم. لأن المسلم، مهما فصلتني عنه العلاقات، لكنه قريب. المسلم لا يكون بعيدًا، يفترض هكذا. حينما أمارس معه التوجيه، فأنا أتحكم، لكنه التحكم الإيجابي، التحكم البناء، التحكم الهادف، التحكم الذي له غاية واضحة. فالتوجيه ببعث رسائل الأمر ورسائل النهي.

 

اليوم، نحن في عصرٍ كلمةُ "الأمر والنهي" فيها شدة على نفوسنا. تمسّنا كلمة "أمر" و"نهي". لا مشكلة، تستطيع أن تحولها إلى رسائل أمر ونهي. أتكلم بطريقة مفادها الأمر: أريد أن أحركك في هذا الاتجاه، فآتيك ما يأتيك الآمر، ما يأتيك الراجي. أجعل طعم المحبة طعمًا واضحًا، شكل المحبة، لون المحبة، يكون بارزًا. تركز معي على المحبة، ثم تتبع ما آمرك به، تركز معي على المحبة، ثم تنتهي عمّا أنهاك عنه. وصدقوني، رسائل الأمر والنهي مهمة جدًّا. إن الإنسان المؤمن لا يفوته يوم لا يبعث فيه رسائل أمر ونهي، عن بعد أو بالوقوف مباشرة. وهذا يحتاج إلى احتراف، واحتراف بسيط. احتراف بسيط، تبعث حديثًا للناس تذكرهم فيه بآية، تذكرهم فيها. واليوم، الوسائل المتاحة، أنت تمارس رسائل الأمر والنهي. تقف لإنسان حبيب وتقول له: والله يا فلان، أنا هذا الموقف استغربته منك. لغة جميلة، لأن هذه اللغة تبيّن للآخر أنه انتبه، أنت بالنسبة لي لا لست كسائر الآخرين. أنت مهم، أنت إنسان. أو تقول لإنسان: "أنا تعلمت منك الشيء الكثير، تعلمت منك الشيء الكثير، وأنت من الناس الذين أركز على مواقفهم". مواقف قليلة عندك لا تعجبني، لكن أنا أهتم وأعرفها. لماذا؟ لأنني أتبعك، أنا إنسان ضعيف أمامك، أنا أتبعك، أرى نفسي متأثرًا بك. لذلك، أنا أهتم إذا كان هناك موقف أو موقفان لم أفهمهما من مواقفك، أحاول أن أبتعد عنهما. وإلا، في الوضع الطبيعي، أنا وراءك وراءك. سبحان الله، سبحان من سلطك علي. انظر كيف يستخدم بعضهم هذه اللغة، والآخر يترجمها بشكل صحيح. سيهتم أن يكون أمامك إنسان في الشكل اللائق. أنت تعطيه دافعًا، تعطيه باعثًا على أن يهتم بمواقفه، ويحسب حركاته وأقواله. أنت تملي هنا، أنت تملي، وهذا ما نقصد به رسائل الأمر والنهي.

أيضًا، من دوائر التحكم في الغير: الإصلاح لأحواله، أن تفرج عنه. سبحان الله، بعض الأحبة عندما يكون عنده صدر واسع يلتفت إلى حاجات غيره. يلتفت إليها بقوة، وعنده أسلوب بأن يقدم بطريقة تكون المنّة لغيره، للقابل تكون المنّة في القبول وليست المنة في العطاء. تكون المنة في القبول وليست المنة في العطاء. حتى أن بعض المؤمنين يعرف أن هناك أمورًا عالقة. مثلا في العمل، سوف يتحقق لي الشيء الفلاني. أنا أذكر لكم مواقف قريبة من واقع، يعني أعرف أنه في العمل سوف يتحقق لي الشيء الفلاني بعد شهر. أذهب وأنذر لله، إذا تحقق، أن أعطي فلانًا كذا. لماذا؟ قال: لأني أفكر كيف أعطيه. حين أعطيه، أقول له: أنا نذرت نذرًا وتم الأمر، تفضل، هذا النذر أديناه. هل سيشعر أنك تصدقت عليه؟ لا يشعر أنك تصدقت عليه، وأنت شرعًا لم تتصدق، ولكن فعلت ما هو أكبر من الصدقة، أو ما هو على حد الصدقة. هذا من الاهتمام، هذا من الاهتمام في الغير: تصلح أحواله، تفرج عنه، أو تحفظ له مصلحة لغرض إما غيابه أو قصوره. الإنسان يغيب أحيانًا. جارك غائب، يحصل شيء في مصلحته في بيته، تحفظ له مصلحته، تبادر، وهكذا. في النهاية، هذه دائرة اسمها دائرة التحكم.

 

نفس هذه الدائرة، دائرة التحكم، قد تكون نتيجتها ضعيفة. كثير من المؤمنين يقولون: لا نقدر، نصطدم بأن تعطي نتيجة عكسية أو تكون بلا نتيجة أو تكون لها نتيجة ضعيفة. نعم، هنا يجب أن تعرف أنك غير مسؤول. أنت غير مسؤول في هذه الدائرة. أنت غير مسؤول، مسؤول أن تبادر، مسؤول أن تتحكم لتصلح، ولكنك غير مسؤول عن النتيجة.

أما في الدائرة الثانية وهي دائرة الجسد، في هذه الدائرة أنت مكلف بالتحكم في مراكز الرغبة. كيف أتحكم في جسدي؟ يجب أن أعنى بمراكز الرغبة. وكل مركز من مراكز الرغبة له برامج خاصة. السمع مركز من مراكز الرغبة، البصر، اللمس، الشم، الذوق. يجب أن تتحكم في مراكز الرغبة. طبعًا في هذه الدائرة، النجاح لك، والفشل عليك. أما في الدائرة الأولى، النجاح لك ولغيرك، والفشل على غيرك. لكن هنا، وفي الدائرة الثانية، يجب أن تعرف أن النجاح لك. وكما أن النجاح لك، فإن الفشل عليك. كل فشل ناتج عن تقصيرك، كل فشل ناتج عن تهاونك، كل فشل ناتج عن التعامل مع الموقف بشكل غير حازم. لذلك، تعتبر مرحلة التحكم في الجسد من المراحل الصعبة، والتي تقتضي من الإنسان حزمًا، وتقتضي من الإنسان فعلًا أن يتعلم فنون ومهارات التحكم في مراكز الرغبة. متى أنظر؟ متى أكبح رغبتي في النظر إلى ما لا يحل؟ ومتى أنظر فيما يحل؟ بينما البعض، للأسف الشديد، ينتكس منه القلب. ينظر في عورات الناس، وزوجته تشتكي منه أنه لا ينظر إليها! انظر كيف ينتكس الإنسان؟ زوجة تنتظر نظره، وأخريات يتأذين من عيونه الملاحقة والمطاردة. لذلك، الإنسان مسؤول عن أن يتحكم في مراكز الرغبة.

الدائرة الثالثة وهي موضوعي حقيقة وأريد أن أقف عندها، ولكن ستُظلم هذه النقطة لو أنني شرعت فيها لأنها تحتاج إلى بعض التفصيل وبعض التوضيح. نؤجل الحديث عنها إلى الأسبوع القادم. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد. اللهم إنا نطمع في مغفرتك. اللهم تب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة في خلقٍ ورحمة في فرج ورحمة في عافية، إنك أنت الوهاب. وصلى الله على نبيه وآله محمد.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد