الجزء الثاني من الحوار الذي أجرته معها "نسرين نجم"
(إذا أردنا أن نلقي الضوء على خطبة السيدة زينب (ع) أمام يزيد، فأيّ خطبة كانت، حتّى تتردّد أصداؤها إلى اليوم؟)
خطبة السيدة زينب عليها السلام في مجلس يزيد تتصف:
1. خطبة لامرأة ثكلى أسيرة من أشرف بيت في العرب وأقربها إلى الله تعالى، قتل كل أهل بيتها، وأهمهم على الإطلاق إمامها الإمام الحسين (ع)، في مجلس حاكم ظالم غاشم فاسق ينتمي إلى بني أمية الذين واجهوا أغلبهم جدها رسول الله (ص)، وهي تجلٍّ لمقولة: برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه، وهي المصداق الحي لجهاد الكلمة، لما ورد فيها من أحاديث كثيرة:
أبو أمامة: عرض لرسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله! أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة وضع رجله في الغرز ليركب، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر (1).
- رسول الله (صلى الله عليه وآله): أحب الجهاد إلى الله عز وجل كلمة حق تقال لإمام جائر (2).
- الإمام علي (عليه السلام): وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر (3).
- عنه (عليه السلام): إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق، لكن يضاعفان الثواب ويعظمان الأجر، وأفضل منهما كلمة عدل عند إمام جائر (4).
- عنه (عليه السلام): من آثر رضى رب قادر فليتكلم بكلمة عدل عند سلطان جائر (5).
- الإمام الباقر (عليه السلام): من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه، كان له [مثل] أجر الثقلين من الجن والإنس ومثل أعمالهم (6).
2. كان هدف يزيد - لعنه الله ومن والاه - بعدما دعا إلى هذا المجلس كبار الشخصيات والمسؤولين في حكومته، قلب الحقيقة وشرعنة حكمه بشكل أقوى، خاصة مع وجود ممتعضين ورافضين بشكل خفي لتوليه السلطة لمعرفتهم بعدم أهليته، وهذا لا يعني أنهم يريدون الحسين (ع)، ولكنهم يعلمون أن يزيد ليس أهلًا لهذا الموقع. فحينما جاءت زينب (ع) وبدأت بتقريع يزيد في مجلسه وبين حرسه وقوته الأمنية والعسكرية، وبحضور كبار الشخصيات، أي رغم أنّ كفّة ميزان القوة المادية راجحة لصالح يزيد، ومع ذلك تقف امرأة بهذا الوضع، وتقرعه كحاكم أمام رعيته، وكبار الشخصيات الموالية له وهي أسيرة، وتهدده وتتوعده بالهلاك القريب حيث قالت له:
"فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم يناد المناد ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل". (7).
فكانت هذه الكلمات التي خلّدها التاريخ بقوتها وعزتها وعزها، هي التي قلبت الموازين في مجلس يزيد لصالح معسكر أهل البيت عليهم السلام، فأسست لمنهج ما زال إلى يومنا هذا يُسْتَشْهَدُ به في كل مواجهة بين حق وباطل، وبين سلطة غاشمة وجهة مقهورة، ووفق ظروف خطبة زينب (ع) في مجلس يزيد، فقد أسست عملانيًّا لمسار المواجهة وأسست لمعايير معنوية أكثر منها مادية، وأعادت الهيبة لمفهوم التوحيد الذي استدار بمفهوم العبودية من عبودية الحاكم والإنسان إلى عبودية الله الواحد القهار الجبار الفرد الأحد الصمد.
ما فعلته زينب (ع) بات منهجًا اليوم يتجلى في غزة، وفي جنوب لبنان، وفي كلّ جبهة يناضل فيها مجاهد في وجه طغيان إسرائيل وعبيدها وما يماثلها في الطغيان.
3. رسمت زينب (ع) معالم شخصية المرأة المؤمنة، وكيف يجب أن تكون في المحن والملمّات، وكيف أنها في هذه الجبهات لا يقل دورها عن دور المجاهدين في سبيل الله، وكيف يجب أن تصمد بقوة، وتكون حبل الوصل بين الأرض والسماء، وتُفْشِل مشاريع المستكبرين حتى لو واجهت أعتى الطغاة، فالستر ليس مانعًا من النضال في سبيل الحق، والعفة ليست حاجبًا عن قول الحق في كل الأحوال، والحجاب ليس انكفاء في المنزل وهروبًا من المواجهة، بل هو درعها الذي يحميها ويعطيها القوة لمواجهة الباطل وكل الانحرافات، الستر والعفاف هما رسالة المرأة في ساحات النضال والجهاد الثقافي والفكري وحتى العسكري، لتثبت أن حياءها وعفتها وسترها ليست مانعًا لها من نصرة الحق، وإعلاء كلمة الله، بل لا تتم هذه النصرة، وتكون لها مصداقية إلا حينما تكون على طريق الله ومنهجه وسبيله، وليس خارجًا عنه، وسبيل المرأة إلى الله في هذه السّوح، لا يتم إلا بعفتها وسترها وحيائها، وهذا ما قدمته زينب (ع) كنموذج. ومع وجود وسائل كثيرة اليوم لإيصال كلمة الحق، فإن المرأة باتت تمتلك كثيرًا من الوسائل وهي في منزلها للمواجهة، هذا إضافة إلى أن زينب (ع) تخبرنا، أن المرأة لا تواجه بسترها وعفتها فقط، بل لا بد من أن تمتلك قوة المنطق والعلم والمعرفة والأهلية، فليست المواجهة فقط للإحساس بأداء التكليف، طبعًا لا، بل إن التكليف لا يتم إلا إذا أدرك الشخص معالم هذا التكليف وطريقته السليمة التامة، فلكي أؤدي تكليفي كامرأة فعليّ أن أتقنه وفق أسسه ومناهجه السليمة ليؤدي الهدف ويبنى على الشيء مقتضاه.
وما يقوم به البعض باختصار دور زينب (ع) وتقليصه وتقزيمه باللباس، وبتركيز الوعي العام على موضوع اللباس فقط، هو ظلم كبير في حق شخصية زينب (ع) العظيمة، فلشخصيتها أبعاد كثير عظيمة، واللباس من البديهيات التي يفترض أن تكون من فروع هذه الشخصية وليس من أساسياتها الكبرى، فصرف الأنظار عن كل أبعاد شخصية زينب (ع)، وعمل (زووم إن) فقط على موضوع اللباس هو من وجهة نظري استهزاء بعقل المرأة خاصة، وتسطيح لدورها وأبعاد هذا الدور المحورية.
(كيف يمكن أن نعزز أنموذج السيدة زينب (ع) كقدوة ومثال للأجيال الناشئة؟ وعلى من تقع المسؤولية؟)
بداية علينا أن نعرف النموذج:
تكمن أهمية التعريف في تحديد دلالات المصطلح وتشخيصها لرفع اللّبس المعرفي وبيان مراد الـمُتَكلّم، فأكثر المعارك المعرفيّة كانت أحد أهم إشكاليّتها عدم وضوح المصطلح والمفهوم محل البحث. فاللغة والكلمات والمصطلحات وطريقة استخدامها هي ما تحدد نجاح حل الإشكاليات وتشخيصها، وبلورة الموضوع بطريقة تعكس مُرادْ الباحث. وأهم التعاريف التي يمكن أن توضح معنى مفهوم النّموذج هي:
- إطار مرجعي، وصف لشيء ما، أو شبيه، منهج مقترح للبحث، تمثيل دقيق للشيء المطلوب دراسته، صورة تبيّن كيف يعمل نظام ما، نظرية تفسر تركيب أو بنية شيء ما (8).
- النموذج تمثيل للواقع يحاول تفسير ظاهرة من ظواهر هذا الواقع، وهو أبسط منه لكنه قريب من كماله لدرجة يحقق معها الهدف الذي بني من أجله (9).
- ضرورة منطقيّة ووسيلة تفسيريّة تساعد على استخلاص النتائج الصحيحة، تصغير للحقيقة، في صورة بسيطة متلاحمة تستمد أصولها من الحقيقة، تمثيل مبسّط للظاهرة، وشامل لها في آن واحد (10).
فالنموذج يتيح للباحث فرضًا يقابله بالواقع، وهو سابق على النظرية، بل مقدمة للوصول إليها، ويساعد النموذج الباحث على الاستنتاج، على أن تفترض علاقة تمثيل أو ارتباط بين بعض المظاهر في الواقع، وبين النّموذج الذي يراد تقديمه كمرجعية معيارية صالحة وبديلة.
والنموذج الذي أعنيه في هذا البحث، هو نموذج تاريخي، ولكن ليس توقيفيًّا، بمعنى لا يتوقف عند ذلك الزمن والشخص المراد دراسته، بل يحاول انتزاع السّمات العامة في حراكه وكلامه ومقاصده، خاصة في البعد الثابت لتلك السّمات التي تعبر الزمان والمكان، ويمكنها أن تشكل نموذجًا بعكس حقيقة يمكن الاستفادة والإفادة منها. خاصة إذا كانت تلك الشّخصية لها اتصال – وفق مرجعيتي المعرفية – بالسّماء، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كشخصيّة السّيدة فاطمة (ع) التي تربّت في حضن الوحي، حيث هي ابنة النبي (ص) وابنة السيدة خديجة (ع)، وزوجة أمير المؤمنين علي (ع)، الذي يعدّه بعض المسلمين خليفة وبعضهم إمامًا معصومًا، وفي كلتا الحالتين هو شخصية لها وزنها الديني والتشريعي، وأم الأئمة الإثني عشر (ع)، بالتالي تكون السيد فاطمة (ع) قد تغذّت من حضن السّماء التشريعات والقيم والتعاليم والمبادئ التي تخص كل إنسان بشكل عام، وكل مسلم بشكل خاص.
ويمكن تقديم النموذج بعدة طرق أهمها اليوم وسائل الاتصال، لأن لوسائل الاتصال تأثيرها القوي، خاصة إذا تم استخدامها في صناعة رأي عام، من خلال حملات إعلامية منظمة، تهدف لإيصال رسائل وقيم في وعي الـمُتَلّقي، مع تركيز هذه الرسائل والقيم باستخدام طرق متنوعة، ومع التّكرار غير الواضح ترتسم الصورة المراد رسمها في وعي الـمُتَلَقّي، وتَحُل مكان الصورة النمطية القديمة، وهناك نظريات مهمة طرحت حول قوة تأثير وسائل الاتصال أهمها:
نظرية التَّقَمُّصْ الْوِجداني:
صاحب هذه النظرية هو الباحث الأمريكي "دانيال ليرنر" (11) الذي اهتم بدراسة العلاقة بين وسائل الإعلام والتغيير الاجتماعي والثقافي، ودور هذه الأخيرة في التنمية القومية لاجتياز المجتمع التقليدي، إذ قدمت نظريته تأثيرات معينة لدور وسائل الإعلام في الإقناع والتأثير على الأفكار والاتجاهات والقيم. والأفكار التي صاغ بها ليرنر نظريته في مجملها، كانت حصيلة الأبحاث التي أجراها مع بداية الخمسينات على ست دول في الشرق الأوسط هي: تركيا، إيران، مصر، سوريا، لبنان والأردن (12). وأهم جزئية في هذه النظرية هي "التقمص الوجداني" الذي يعمل على إعادة صياغة النموذج وطرحه للمتلقي، وبالتالي يقوم من خلال هذا النموذج بتغيير كثير من المفاهيم والقيم وتغيير مرجعيتها المعرفية، "وحسب لينر فإن التحضر هو اتجاه عقلاني من نمط الحياة التقليدية إلى نمط الحياة الجديدة، تزداد فيه مساهمة الأفراد، أي أن التحضر يحدث أولًا: لأن المدن وحدها طورت المهارات والثروات، التي تميز الاقتصاد الصناعي (المدينة تتسع لتشمل القرى)، ويضيف ليرنر إن التحضر المتزايد يؤدي إلى زيادة المعرفة، وتعلم القراءة والكتابة مما يزيد من الإقبال، والتعرض لوسائل الإعلام الذي تزداد معه عملية ركز عليها ليرنر في نموذجه وهي" التقمص الوجداني" الذي يعني تصور الفرد لنفسه في مواقف الآخرين وظروفهم، أو الحالة الذهنية والنفسية التي تعيشها الشخصية الحركية، وكل ما سبق يؤدي إلى زيادة في المشاركة الواسعة البارزة المهمة والمقدمة للمجتمع الحديث.
إن أهم ما اعتقده ليرنر في نظريته هو أن خاصية التقمص الوجداني وانتشارها في أوساط أفراد المجتمعات النامية، من شأنها أن تؤدي إلى عصرنتها، ورأى أن وسائل الإعلام قادرة على خلق هذه الخاصية السلوكية، كما أنها قادرة على تأدية وظيفة "مضعف الحراك" التي تسهم بشكل كبير في إحداث التنمية والإسراع من مراحل تجاوز الحياة التقليدية (13). وعملية التقمص الوجداني تعني تصور الفرد لنفسه في مواقف الآخرين وظروفهم.
والآخرين هنا تعني النموذج والمثل الأعلى الذي يقدمه الإعلام، ليصبح مرجعية معيارية سلوكية في لاوعي الجمهور. فمع تكرار ظهور هذا النموذج في الوسائل الإعلامية، يرتبط وجدان الناس به وتبدأ عملية التقمص التي تعني تمامًا تقليده كمرجعية، ومحاولة سلوك نفس المنهج ونمط التفكير والحياة، وبالتالي تبدأ ترددات هذا التقمص بالشياع في المجتمع، وتدريجيًّا يتم تجاوز المجتمع التقليدي والانتقال به في عملية تحديث وتنمية وتطوير يرسم معالمها أصحاب القدرة والمكنة والنفوذ. وبذلك تهدد الهويات الخاصة، وتهدد منظومة القيم والمعايير الثابتة، تحت شعار تجاوز المجتمع التقليدي، مع عدم تعريفهم لمفهوم التقليدية وحدودها ومعالمها، ومع إيمانهم بنسبية الحقيقة والقيم والمعايير، وبذلك يتم تدريجيًّا التجاوز والتبديل لهوية المجتمعات، ومن ثم السيطرة عليها من خلال لا وعيها.
وعادة كان القرآن في أكثر من مورد وبشكل واضح يقدم لنا دومًا النموذج من خلال سماته العامة، ويضع معاييره لكل نموذج حتى يتسنى تطبيق تلك المعايير في كل زمن مهما اختلفت المصاديق. فنجده يقدم نموذجه للخير والشر، ونموذجًا للكمال ونموذجًا للنقص، نموذجًا للعفة والحياء ونموذجًا مقابلًا لهما.
وما يلفت فعلًا أن هذه النماذج مجتمعة تقوم على محور وهو ثبات المرجعية المعيارية من جهة، ووجود مرجعية واحدة ثابتة تمثل قطب الرحى لكل هذه المعايير، وهو التوحيد.
وتكمن أهمية هذا القطب في ثبات الغاية والهدف ووضوح علة العلل، حتى مع تعدد السبل للوصول إلى تلك الغاية وعلة العلل، إلا أن ثبات مرجعية المنظومة المعيارية والقيمية وكمالها وإحاطتها وعدم محدوديتها، هو ما يضمن وجود قواعد وقوانين صالحة لكل زمان ومكان مهما اختلفت المصاديق والأمثلة.
وهو ما يخلق لدى الإنسان الهدفية وحس المسؤولية الفردية والاجتماعية. ويضمن من جهة أخرى تشكل النماذج الصالحة البشرية بصورة عملية وحسية تؤكد قدرة الإنسان على التطبيق والسير وفق هذا النموذج.
ولكن في المقابل أيضًا أوضح الله أن هناك من أقسم أن يقعد للبشر على صراطه المستقيم ليحرفهم عن النموذج الإلهي ويقدم لهم نموذجًا مقابلًا تمامًا للنموذج الإلهي، وفي عكس اتجاهه، فالنموذج الإلهي يركز على أبعاد الإنسان المعنوية والمادية، ويبقي الإنسان في حالة اتصال مستديم بالسماء، بينما نموذج إبليس يركز على البعد المادي للإنسان بالتالي يقطع اتصاله المعنوي بالسماء ويبقيه رهينة الأرض والمادة والحس والغرائز، فتتغير مرجعيته المعيارية ومنظومته القيمية من السماء إلى الأرض.
وهنا بعد أن كان الله محورًا لهذه المنظومة، بات الإنسان محورها، هذا الإنسان المحدود، وغير المحيط، والذي يفتقر غالبًا للعدالة والانصاف. هذا التحول الجوهري يؤدي بالتتابع إلى تبدل المرجعية المعيارية للقيم والأخلاق، وبالتالي تصبح النماذج نسبية خاضعة لتشخيص عقل الإنسان المحدود، لذلك نجد معضلة عدم ثبات النماذج وخضوعها غالبًا لأهواء ومعايير أصحاب القوة، والنفوذ السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. وكلما امتلك هؤلاء القوة والفاعلية، استطاعوا تعميم نماذجهم، ولكن يحدث ذلك عندما تضيع بوصلة الإنسان وينجذب ماديًّا وحسيًّا للنماذج وفق أسس خاطئة ومفاهيم منحرفة عن دلالاتها الصحيحة، فغياب الله عن التشخيص يؤدي للعمى عن السبيل الصحيح.
فضلًا عن عدم وجود البديل الصالح كنموذج مقابل يحاكي إشكاليات العصر ويتحدث لغتها وهمومها، إما لتقصير في تشكيله، أو لخلل في تقديمه، أو لقصور في فهمه.
وفي المنهج القرآني دومًا هناك نموذج يتعهده القرآن ويقدمه لنا ليشكل مرجعية معيارية معرفية ومنهجية، وقد يكون هذا النموذج قرآني، أو يشير إليه القرآن بإشارات يستخلصها القارئ بالتدبر، أو قد يكون ظاهرًا في السيرة، أي سيرة الأنبياء والأوصياء، ونختصرها بالقرآن والعترة أو السنة النبوية الشريفة من خلال ما ثبت بالطرق السليمة في الفحص والجرح والتعديل.
الغاية مما سبق، هو أن النموذج الإلهي نموذج كامل بشري، وكونه كاملًا يضمن اهتمامه في الأبعاد المعنوية والمادية، وكونه بشريًّا يجعله قابلًا للتطبيق من قبل الجميع شريطة أن يسعوا للارتقاء بقابلياتهم.
والمرأة ليست خارجة عن ذلك، فكثيرة هي النماذج النسائية التي قدمها القرآن وقدمتها السيرة والتاريخ، ومنها نستفيد ونستلهم كيف يمكن للمرأة أن تكون فاعلة ومؤثرة في محيطها وفي مجتمعها، بل على مستوى أبعد من ذلك في راهننا المعاصر.
وللاختصار سأضع مسارًا يتشمل خطوات رئيسة للتأسيس لرؤية حول كيفية قيام المرأة بوظيفتها في الاتجاهات كافة:
1. قبل أي حركة من المرأة باتجاه العمل في سبيل إعلاء القيم، يجب إدراك مسألة مهمة جدًّا، وهي ماهية الخطاب ومكانته والجهة المخاطبة، والأساليب التي من خلالها يمكنها التأثير في المخاطب. ومن ضمن أطر الخطاب اللغة الجسدية التي تتضمن اللباس والأسلوب، فالأمور الحسية على سبيل المثال جدًّا مؤثرة في الإنسان، تأثيرها يشتد ويضعف اعتمادًا على المكان والزمان، ففي الغرب المسائل الحسية مؤثرة جدًّا وفاعلة، بينما في منطقتنا يتمايز الموضوع بين البعد الحسي والبعد العقلي والعاطفي، لذلك فإن إدراك ووعي ماذا ومتى وكيف وأين من الأمور المهمة والمؤثرة، وهذا للأسف وجدته غالبًا غائبًا في كثير من الخطابات خاصة الدينية منها.
2. تحرير المرأة، وأقصد بالتحرير هنا ليس على الطريقة الغربية، وهي تحرير الجسد، بل أقصد التحرير الذي يكون جوهره العبودية لله، فتحرير الفكر والاعتقادات والأفكار من الأفهام التقليدية للنصوص الدينية، بل تحرير النصوص الدينية من مثقلات العادات والتقاليد، ومحاولة التأسيس لشخصية المرأة ضمن النظام الإسلامي، وعدم إغفال مقاصد الشريعة كالعدالة والكرامة. ومثالنا القرآني في ذلك هو السيدة مريم (ع)، ومنهجها في مواجهة عادات الكنيس وعلمائه ورؤيتهم الشرعية حول المرأة، واحتكار الذكورة لفهم الدين والتشريعات.
3. الانتشار خارج الأطر التقليدية، مسجد، مركز إسلامي، بل الانخراط في المجتمع كجزء فاعل ومؤثر، وإلا فهي علمانية مبطنة.
4. التأسيس لفهم حقوقي وقيمي يستطيع مواجهة محاولات الاستبداد بأشكاله كافة، لأن الاستبداد عامل مهم ورئيس في التأثير على قيم المجتمع ومسلماته. وهذا التأسيس يأخذ في الحسبان المرأة والرجل، ككل متكامل في الدور والوظيفة، وليس الكلّ متساويًا بشكل مطلق، فهناك مساواة لكنها مضبوطة بمعيار العدالة، وليست مساواة مطلقة.
5. لابد من ثقافة المتابعة لكل ما هو جديد على ساحات الفكر والسياسة، وإلا كيف ستواجه المرأة كل هذا الكم من التغيرات السريعة، وهي لا تفقه غالبًا إلا في حدود ضيقة لا تخرج عن نطاق حدود جدران المنزل والمسجد والمركز الإسلامي، وتتلقف ما يطرح عليها دون أي محاولات للخروج من الصندوق، وطرق أبواب الفكر والفلسفة والبحث والاجتهاد، فالأمر هو أغدو عالـمًا أو متعلمًا للمرأة والرجل.
6. إعادة النظر في التقسيم الدي فرضه علينا الغرب، حيث استغل مظلومية المرأة وتهميشها في منطقتنا وطرح شعاره "حقوق المرأة"، حتى وصلنا إلى مرحلة بتنا في معسكرين أحدهما للمرأة والآخر للرجل، بينما الإرادة السماوية كانت مشيئتها تكامل الأدوار وتفاعلها والتنافس في سبيل الله، لإقامة العدل وتحقيق الكرامة الإنسانية، وكان هذا التقسيم في صالح الديكتاتوريات التي استفادت من التعطيل وتشتيت الجهود.
7. الاحتواء: وأعني به احتواء المرجعيات الدينية والسياسية الفاعلة لجهود النساء المنفردات في هذه الساحة، اللواتي يتميزن بعطاءاتهن المعرفية وجهدهن البحثي والاجتماعي، وتمويل مشاريعهن التي تحاول ترسيخ القيم ومواجهة الانحراف، وعدم تركهن منفردات يواجهن كل هذا الكم من التهديد الثقافي والهوياتي، بسواعدهن وما يملكن من قدرة اقتصادية ضئيلة لا يمكنها أن تؤثر معرفيًّا إلا في نطاقات ضيقة. وهل أعظم من مرجعية الحسين (ع) في إيكال مهمة مثل مهمة إكمال المسار الحسيني من خلال زينب (ع)؟ فكان أعظم احتضان ودعم لجهود امرأة بمواصفات زينب (ع).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). الترغيب والترهيب: ٣/ ٢٢٥/ ٧.
(2). كنز العمال: ٥٥١٠
(3).نهج البلاغة: الحكمة ٣٧٤
(4). غرر الحكم: ٣٦٤٨، ٨٩٥٧
(5). غرر الحكم: ٣٦٤٨، ٨٩٥٧
(6). مستطرفات السرائر: ١٤١/ ١
(7). بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج ٤٥، ص ١٣٥
(8). كتاب البحث العلمي، أساسياته النّظرية وممارسته العملية – المبحث الأول تعريف النّموذج، ص ٢٨٨.
(9). المصدر السّابق.
(10). المصدر السّابق.
(11). Daniel Lerner (1917 - 1980)[1] was an American scholar and writer known for his studies on modernization theory. Lerner's study of Balgat Turkey played a critical role in shaping American ideas about the use of mass media and US cultural products to promote economic and social development in post-colonial nations.[citation needed] He, along with Wilbur Schramm and Everett Rogers, were influential in launching the study and practice of media development and development communication.
(12). https://www.wiziq.com/.509789-محاضرة-5-نظريات-الاتصال-ppt
(13). مصدر سابق
السيرة الذاتية:
إيمان شمس الدين:
- كاتبة وباحثة في في الفكر (الديني، السياسي، الحقوقي)
- عضوة في منظمة front line definder
- بكالريوس ميكروبيولوجي ومساند كيمياء حيوي
- ماجستير علم اجتماع سياسي وعنوان البحث " المرأة والعمل السياسي في الحضارات والأديان - التكون والصيرورة ".
- مهتمة في المجال الحقوقي، من ناحية بحثية.
المؤلفات:
- في قضايا التجديد والمعاصرة (دار القارئ - مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة). ٢٠١٩
- التغيير والإصلاح مطالعة في التأسيسات والمقومات والإشكاليات (دار الانتشار العربي) ٢٠١٩
- المثقف وجدلية القهر والاستبداد (دار الانتشار العربي)٢٠٢٠
- عقلنة الثورة وتأصيل النهضة: محاولة لقراءة الواقعة من زوايا مطلبية معاصرة (دار الانتشار العربي) ٢٠٢١
- الهوية والاستلاب: اغتراب الإنسان المعاصر (دار روافد للطباعة والنشر بيروت) ٢٠٢٢
- حوار حول الدين والانسان، (دار روافد للطباعة والنشر بيروت) ٢٠٢٣
- الغاية من الزواج ومسألة الرشد: مدخل إلى الإشكاليات المعاصرة، (دار روافد) ٢٠٢٣
- المثقف والاشتباك، (دار روافد) ٢٠٢٤
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
السيد عادل العلوي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (7)
العلاقة بين المعجزة والوحي
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الزهراء.. الحزن الأبدي
ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
الصّحيفة الفاطميّة
السّعيد محاضرًا حول آليّات التّعامل الإيجابيّ مع الإنترنت والوسائل الرّقميّة
منتظرون بدعائنا
الشيخ صالح آل إبراهيم: ما المطلوب لكي يكون الزواج سعيدًا؟
آيات الأنفس الأولى