
ما كنَّا لنبتغي نحتًا اصطلاحيًّا مُركَّبًا كـ «فينومينولوجيا الغيب»، إلَّا قَصْدَ المؤالَفة بين شأنين يتراءيان للنَّظر كما لو كانا على طرفَيْ نقيض. ولأنَّ هذا المُركَّب يبدو على غير ما تعوَّدناه في أرض المفاهيم، تغدو المساءلةُ في شأنه جائزةً من ناحيتين: الأولى، في مدى صوابِ مصطلحٍ تَركَّب على مفردتين لكلٍّ منهما فرادتُها المعرفيَّة وخصوصيَّتُها الحضاريَّة، ودلالاتها في الفلسفة والمعارف الإلهيَّة. أمَّا الثانية، فمتعلِّقةٌ بالاستفهام عن ظهور الغيب كإمكانٍ ميتافيزيقيٍّ يمكن التعرُّف على كيفيَّة ظهوره بالمشاهدةِ العقليَّة.
وإذ نتحرَّى ما تستجليه دلالة المصطلح، نرانا بإزاءِ زوجيَّةٍ ضدِّيَّةٍ غالبًا ما يكون الِّلقاء بين طرفيها انفتاحًا على حقيقة مُفارِقة. المقصودُ من هذا، اختبار واستكشاف إمكانِ شهود العقل على ذات الشيء ومظهرهِ بوصفهما أمرًا واحدًا. ولأنَّنا في مُنفسحِ التنظير لظاهريَّات الغيب، فبالإمكان النظر إلى مفارقاتها كحقيقةٍ واحدةٍ مشهودٍ عليها بالعقل. لكنَّ العقل الشاهد هنا، ليس ذاك المحبوس في كهف المفاهيم، وإنَّما الذي جاوز نوازل دنياه، ثمَّ تواصى بالأمر القدسيِّ، حتى أدرك سرَّ الموجودات ذِكْرًا وعينًا. بهذه المنزلة يُشقُّ السبيلُ نحو معرفة البديهيَّات العقليَّة والمشاهدات القلبيَّة، وحالذاكَ لا تعود الظواهر تُشاهَدُ إلّا على نصاب التوحيد والتناغم.
على الدُّرْبةِ إيَّاها يتيسَّر فهم المفارقات في ظهورات الغيب، كمِثلِ ما وُصف الفعل الإلهيُّ بأنَّه ظهورٌ من غيب، وغيبٌ في ظهور. بمعنى أنَّ كلًّا من جناحَيْ الفعل الإلهيِّ متضمّنٌ في نظيره، بل هما على واحديَّةٍ موثوقةٍ ترعاها عنايةُ الفاعل وتدبيرُه. من هنا جاء قول العرفاء «اعرفوا الله بالله». وقصدُهم في ما قالوا، هو ما يكون فيه تحصيلُ المعرفة بالله من الأثر العينيِّ لتجلّي أسمائه وصفاته وأفعاله. وما نعنيه بالأثر العينيِّ هو عالم الممكنات الذي لا تحقُّق لوجوده إلَّا بمعيَّة الحقِّ، ما يعني أنَّ موجوديَّةَ الكثرات هي ذاتُ وجود بالاعتبار، ذلك لأنَّها ليست عين الوجود، بل ما له الوجود بأمريَّة الواجد.
فالموجودُ الحقيقيُّ يعني – كما يذكر أهل الحكمة – هو ما ذاتُه الوجود أو هو نفسُ الوجود، وما سواه إنَّما يُفهَم وجودُه على سبيل المجاز لا الحقيقة. فالله المتجلِّي في عوالم خلقهِ إنَّما هو ظهورٌ على إنشاءات الوحدة والاختلاف، وعلى وحدة الظاهر والباطن. ولذا قيل إنَّ الحقَّ تعالى ما عُرِفَ عن حقِّ معرفةٍ إلَّا بجمعهِ الأضداد.
«الواحديَّةُ البسيطة» كدُرْبةِ استبصار
تتَّخذ «فينومينولوجيا الغيب» سَيْريَّة «جمع الشمل» بين ذات الموجود وصورته التي يظهر فيها. على هذا المتَّخذ، ومن هذا المحلِّ، يصير ممكنًا عقلًا صوغُ المبدأ الذي تُستخرجُ منه نظريَّةٌ معرفيَّةٌ متبصِّرةٌ ترى إلى الشيء في ظهوره بما هو عين حقيقته في خفائه. فالموجودُ الأعيانيُّ – وفقًا لهذا المبدأ- موصولٌ بالأمر الغيبيِّ، ومنه يستمدُّ ماهيَّته وهوّيَّته وظهورَه. وبهذا الوصل ينفتح الأفق أمام شهود العقل على فعل الغيب، عبر تعرُّفٍ صيروريٍّ تغدو معه منزلةُ الإظهار بمصدرها الغيبيِّ، ومنزلةُ الظهور بواقعها المرئيِّ، على نشأةٍ واحدة. أمَّا كمال التعرُّف على المنزلتين، فبوساطةِ وعيٍ أعلى لا يكون فيه إدراكُ ظاهرِ الشيءِ منفصلًا عن إدراك حقيقته الذاتيَّةِ وجوهريَّته.
أمَّا التلازم الذاتيُّ بين الشيء وأصله فلا يُفهم بأنَّه ذاك الذي يظهر من تلقاء نفسه بنفسه – على نحو ما زعمت فينومينولوجيا الماهيَّات الصمَّاء – وإنَّما الذي يوجدُ ويظهرُ بفعلٍ وحيانيٍّ يرعاه ويحرِّكه ويعتني به في خفائه واعتلانه. لأجل ذلك، يصير منطقيًّا القولُ أنَّ من شأن العقل المتَّصل بالغيب أن ينشئ حقلًا معرفيًّا يتآزر فيه شهود العقل وشهود القلب ليصبح معه بَداءُ الأشياءِ عينَ خفائها. وفي هذا الحقل بالذات يرتفع التبايُن بين منزلتَيْ الخفاء والظهور، ولا يعود الفصل بينهما إلَّا في ما تقتضيه طبيعةُ الذِّهن البشريِّ من تقسيم يميِّز بين ظهور الشيء وسرِّه المستتر.
في تمظهُرها المنبسط على وحدة المفارقات، تتبدَّى الموجوداتُ كلُّها كمظهرٍ وأثرٍ لأمرِ موجدِها، ولكن على سبيل الاختلاف في الخفاء والجلاء كما يبيَّن مُلَّا صدرا. هذا ما يوجبُهُ منطقُ الواحديَّة البسيطة في جمع الأضداد من دون أن يفارق الضدُّ ضدَّه قيدَ لمحة. بالواحديَّة البسيطة ينبسطُ وعيٌ أعلى يُجاوزُ وهمَ التناقضِ بين استدلالاتِ العقل الأدنى، وكشوفاتِ العقل في أطواره المابعديَّة.
ولأنَّ العقل في تمدُّدهِ وترقِّيه قادرٌ على استبطانِ ما وراء الحسِّ، فإنَّ من شأن ذلك تقويضَ الزَّعمِ بأنَّ سرَيان التعقُّلِ من حقيقةٍ إلى أخرى هو سرَيانٌ زائفٌ منطقيًّا، أو أنَّه يعمل خارج المنطق. بينما الذي يحصل بفعل الامتدادِ العقليِّ هو نشوءُ حقلٍ منطقيٍّ مخصوصٍ لا يكتفي بتوصيف الظواهر وتفسيرها، بل يمضي قُدُمًا إلى وَعْيها وعيًا مطابقًا، ثمَّ إلى الحكم عليها واتِّخاذ موقفٍ حيالها.
الحكم والموقف في هذا المقام، خاصّيَّتان جوهريَّتان لم تفلح بهما فينومينولوجيا العقل الأدنى لمَّا قرَّرت وقف الحكم على ذوات الأشياء لجهلها بها. لقد انبرى أهل العقل الأدنى، ومنذ التأسيس اليونانيِّ، إلى تعليق الحكم على الظاهرة لتوكيد الامتناع عن التصديق بأيِّ شيء لا يتعيَّن في المظهر. تلقاءَ ذلك، لن نجد – طبقًا لمنهج الواحديَّة البسيطة – أيَّ تعليقٍ للحكم على ذوات الأشياء في المحراب المعرفيِّ لفينومينولوجيا الغيب.
وما ذلك إلَّا لأنَّها بيِّنةٌ وصادقةٌ، وأنَّ البرهان عليها له منطِقُه الخاصُّ، حيث إنَّ الكشوفات الناتجة منه ذاتُ هوّيَّةٍ يقينيَّةٍ انطلاقًا من حجِّيَّتها الذاتيَّة. ورغم ما تنطوي عليه المعرفتان العقليَّة والكشفيَّة من خصائصَ ومميّزاتٍ، فإنَّهما غير قابلتين للانفصال واقعيًّا، بل هما حاضرتان إحداهما في نظيرتها حضورًا متعيِّنًا لا شِيةَ فيه. هذه المعادلة سيكون لها إسهامٌ بيِّنٌ في رفد الوعي التوحيديِّ المؤيَّد بفهمٍ دقيقٍ للعلاقة بين الغيب وظواهر الموجودات. فالذي يعرفه العارف من الواحديَّة البسيطة لفينومينولوجيا الغيب هو النظر إلى الكينونةِ الباديةِ له بوصف كونها أثرًا للتجلّيات الأسمائيَّة والأفعاليَّة والصِّفاتيَّة. كما يعرف في الآن عينه أنَّ إدراك الإسم الأعظم لا يحصل لأحدٍ من العالَمِين، لغاية إحاطته بالأشياء وقيّوميَّته عليها كما تبيِّن الحكمة المتعالية.
ولذا، سيعرب عن ذلك بالقول: لا فهم للإسم الأعظم بالكيف، ولا قلب يثبته بالحدِّ، ولا وصف له إلَّا كما وصف نفسه، خلق الأشياء وليس من الأشياء شيءٌ مثله.[(ملَّا صدرا- المظاهر الإلهيَّة- ص 62)]. ولنا أن نؤيِّد ما ذهبنا إليه بما أشار إليه الحكماء الإلهيّون من أنَّ الأحديَّةَ، التي هي «الإسم الأعظم»، تُعدُّ أوَّل وجودٍ ذاتيٍّ ممنوعٍ الاتِّصافُ به لغيره، لأنَّه صرف الذات المجرَّدة عن الصفات. ولذا، كان من أنسب ما يقال عن الله إنَّه ليس كمثْلهِ شيء.
فمقام الذات أو«غيب الغيوب» هو شأنٌ لا يُحمل على القول ويتأبَّى على الَّلفظ. ولو تُلفِّظَ عنه بلفظٍ فليس ذلك بصائبٍ حتى لو كان هذا الَّلفظ صادقًا في الَّلحظةِ التي يصدر فيها على لسان الَّلافظ. لهذا السبب، كان الاستفهام عن فعل الله وتجلِّيه بأسمائه الحسنى في عالم الخلق مُغايرًا للسؤال عن ذاته الأحديَّة. فالسؤال عن الذات مظنونٌ به على عقل السائل، ولا يُجهرُ به، لأنَّه استفهام عن غيبٍ مطلقٍ ممتنعٍ أصلًا عن الفهم، وكذلك لأنَّه ليس بعارض، ولا بمحكومٍ إلى زمان ومكان.
أمَّا معرفةُ الخالق كإمكانٍ عقليٍّ فحاصلٌ في مقام تجلّيه بأسمائه وأفعاله، لأنَّ معنى الخلق كفعل إلهيٍّ يُدرك بالإظهار، أي بإيجاد المخلوق. أمَّا حقيقة الفعل بما هي ذات الفاعل فأمرها ممتنعٌ لأنَّ حقيقته تعالى عينُ ذاتهِ الصَّمديَّة المنزَّهة عن الظهور. وذاك ما يوضِحهُ مأثورُ القول: «له معنى الرُّبوبيَّة إذ لا مربوب، وله حقيقة الإلهيَّة إذ لا مألوه، وله معنى العالِمِ ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق. ثمَّ إنَّه ليس مذ خلق الخلق استحقَّ معنى الخالق، ولا بإحداث المخلوقات استفاد معنى البارئيَّة».
على هذه السَّيريَّة أمكن أن نتبصَّر كيف تجري حقيقة التوحيد في مقام الفعل الإلهيِّ مجرى الكشف عن ستائر الجلال المخزون في سرِّ الأحديَّة من أجل أن تستوي الرحمانيَّةُ على عرش التدبير. أمَّا الأحديَّةُ، وبحكم صَمَديَّتِها الممتنعة عن الاتِّصاف، فإنَّها تغيِّب الصفات، وبالتالي لا يكون منها إلَّا الظاهرُ بها. ولا تكون الصفة عين الذات إلَّا إذا اتَّصفت بصفاتها بلا تكثُّر ولا اختلاف. أمَّا إذا كانت من صفات الفعل فهي غير الموصوف لاقترانها بالفعل وحدوثها حاصلٌ بحدوث الفعل. ويبقى غيب الغيوب هو الحضورَ الأتمَّ بذاته في ذاته لذاته. ولم يزل بذاته ممتنعًا عمَّا سواه قبل الخلق ومعه وبعده، فلا تجري عليه العبارة، ولا تسري إليه الإشارة. فلا اسم له من تلك الحيثيَّة ولا رسم، حتى تعرَّف في خلقه لخلقه بأن ظهر في الإمكان بالإمكانات وفي الكون بالأكوان، فجعلها معانيَ كونيَّة كلّيَّةً وجزئيَّةً على صفة كينونته في ظهوره بها. ولقد جعلها كذلك حتى يمكن معرفته منها والتوجُّه بها إليه.
في «عالم الإمكان» المعرَّف في الكلام الإلهيِّ بـ(كُن)، أو عالم الأمر والخلق، فإنَّ الموجودات كلَّها تكون موجودةً فيه على وجه الإطلاق، أي أنَّها غير مقيَّدة بهيئة، فلا هي متحيِّزة بمكان ولا متحيِّنة بزمان. ولكون مادَّتها واحدة استحال تمييز أنواعها وأجناسها بعضها عن بعض، بمعنى أنَّها مادَّةٌ غير متعيِّنةٍ ولا متخصِّصة. خلاف الأمر ما هو عليه عالم الوجود المقيّد؛ فالوجودات فيه تكون وجودًا مقيَّدًا بصورة. والوجود المقيّد هو إيَّاه «العالم المرئيُّ» الممتلئ بالصُّوَر، والذي هو كناية عن الشيء الذي يحصل العلم به بعد ظهوره، سواء تعلق هذا الظهور بالجواهر المستترة أم بالأعراض البادية للعيان.
وفي الحالين (أي الموجودات الجوهريَّة والعرَضيَّة) تكون ممكنة الوجود، وتحتاج إلى موجِدٍ لها هو الواجب ذاتًا.. ولمَّا كان العالم المرئيُّ عبارة عن الموجودات التي تحتلُّ مرتبةً خاصَّةً في مجموع الوجود، كانت الأجسام والجسمانيَّات كافّة – على تعدُّد أجناسها وأنواعها- عالمًا واحدًا؛ فليس أيُّ نوع من الأنواع، وأيُّ جنس من الأجناس، صاحبَ إحاطةٍ بأنواعه وأجناسه. لذلك؛ كانت موجودات الطبيعة كافَّة في عرض بعضها البعض، لا في طول بعضها البعض. ولأجل ذلك، صنَّف الفلاسفة عوالم الوجود إلى عالم المفارقات (العقول)، وعالم الطبيعة(العالم المرئيّ المادّيّ)، ثمَّ العالم الربوبيَّ الذي هو أعظم عوالم الوجود، ولا يمكن لأيِّ ذرَّة من الوجود الخروج عن إحاطته بها.
معنى (سبل) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (1)
محمود حيدر
مناجاة الذاكرين (6): ذكر الله لذّة الأولياء
الشيخ محمد مصباح يزدي
بين الإيمان والكفر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
ما الذي يهمّ أنت أم أنا؟ يتذكر الأطفال ما هو مهم للآخرين
عدنان الحاجي
بين الأمل والاسترسال به (1)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ..} لا تدلُّ على تزكية أحد (2)
الشيخ محمد صنقور
العزة والذلة في القرآن الكريم
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
ماذا نعرف عن القدرات العظيمة للّغة العربية؟
السيد عباس نور الدين
لا تبذل المجهود!
عبدالعزيز آل زايد
الإمام الهادي: بهجة أبصار العارفين
حسين حسن آل جامع
سيّد النّدى والشّعر
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
معنى (سبل) في القرآن الكريم
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (1)
أطباء الأسنان قد يتمكنون قريبًا من (إعادة نمو) مينا الأسنان باستخدام هلام بسيط
مناجاة الذاكرين (6): ذكر الله لذّة الأولياء
الإمام علي الهادي (ع) الشخصية الوقورة
سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع) (1)
الإمام الهادي (ع) وفتنة خلق القرآن
الإمام الهادي: بهجة أبصار العارفين
معنى (زرب) في القرآن الكريم
بين الإيمان والكفر